أعفت بعض الحكومات، مؤخراً، خدمات تصنيع الذهب المحلي من الضريبة، وذلك في ظل ارتفاع أسعار الذهب، حيث كان الصُناع يضيفون الضريبة إلى التكلفة المصنعية، ما يجعل سعر قطعة الحلي باهظاً فوق سعر الذهب الذي يتزايد. عن الذهب والصائغ والمصوغات ومدارس صياغة الذهب التي تطورت من اليدوي إلى الآلة تأخذنا شمس علي في جولة في هذا العالم المتذبذب بين سعر الذهب، وسعر الصياغة.
احتلت الآلة تدريجياً المساحة الكبرى في هذه الصناعة التي آلت إلى الأيدي العاملة الوافدة، بعد أن تقلص عدد الحرفيين المحليين مع زحف التمدن، وضآلة الربح مقارنة بالجهد المبذول
لا يختلف فن صياغة الذهب عن فنون أخرى عديدة، مثل النقش والرسم والخط والنحت في شيء، بل إنه في حال تأملنا سنجد أنه يجمع في بوتقته سائر تلك الفنون، خاصة في أثناء مراحل تصنيعه، إذ إن أي قطعة مصوغة مهما خف وزنها وصغر حجمها، في حاجة قبل البدء بصناعتها إلى نموذج مرسوم إما أن يقوم الصائغ باستحضاره عبر ما تجود به مخيلته الفنية الخصبة أو من خلال الاستعانة بمصمم تنحصر مهمته في الرسم، بعدها تبدأ سلسلة طويلة من مراحل التصنيع تتمثل في الصهر والطرق والسحب والصب في قوالب والنقش، ما يجعل القطعة في نهاية المطاف تحفة فنية بعد أن تضافرت فنون عديدة في صناعتها، أولها الرسم ، بيد أنه ليس دائماً آخرها النقش.
الآلة والعمالة الوافدة
إن علاقة الصائغ بالقطعة التي يقوم على صياغتها، خاصة في الزمن الماضي حيث الاعتماد بالدرجة الأولى على التصنيع اليدوي، لا تكاد تخلو من حميمية بسبب طول بقاء القطعة بين يديه، والتأني في أثناء الاشتغال عليها، وحرصه على أن يبث بين ثناياها جل شحنات الإبداع في داخله.
كما يحرص الصائغ على أن يضع عليها لمساته الفنية بدقة ومهارة وابتكار لتكتسب جماليتها وفرادتها ورونقها الخاص. ولا يرضى إلا أن تبهره أولاً قبل أن تبهر مقتنيها في نهاية المطاف.
وبإلقاء نظرة فاحصة على الحاضر مقارنة بالماضي، ندرك كم احتلت الآلة تدريجياً المساحة الكبرى في هذه الصناعة التي آلت في النهاية، في غالبيتها، إلى الأيدي العاملة الوافدة، بعد أن تقلص عدد الحرفيين المحليين مع زحف التمدن نتيجة عدم توريث المهنة للأجيال الجديدة، وضآلة الربح مقارنة بالجهد المبذول.
مهنة عريقة وقيمة اقتصادية
تعود صناعة الذهب إلى عام 3500ق.م وكانت مصر وبلاد ما بين النهرين الموطن الأصلي لهذه المهنة، وفي أوربا عرفت بريطانيا هذه الحرفة في عام 1180م، عندما تم تأسيس نقابة الصاغة الأولى، وبلغت صياغة الذهب قمة تطورها في عصر النهضة في إيطاليا، حيث ذاع صيت سيليني بنفنوتو الصائغ الإيطالي الشهير. واحتل الذهب مكانة عالية في الحضارة الإنسانية منذ عصر ما قبل التاريخ مروراً بالعصور الوسطى، وصولاً إلى الحضــــارة الإسلاميـة، بسبـب قيمته العالية، وبريقه الأخاذ، ومـقاومـــته للتأكسد، وإمـكانية تشكيله، واتخذته شعوب جنوب أفريقيا رمزاً للنور وشروق الشمس، واحتل مكانة مقــدســـة لـــدى الفــــراعــــنة المصريين الذين يحسب لهم ابتكار العديد من أدوات حرفة الصياغة، كما أنهم استعملوا النار لتنقية الذهب من الشوائب وفي تسهيل عملية تشكيله ما أحدث نقلة نوعية في هذه المهنة في ذلك الزمن.
وبذلك ساهم الفراعنة في تحويل مادة الذهب الخام إلى معدن نقي ومن ثم صياغته في درجات حرارة عالية تصل إلى 1000 درجة مئوية، وتعد حرفة الذهب من أعرق المهن التي عرفها الإنسان نظراً لما يتمتع به من قيمة اقتصادية وسياسية، إضافة لاهتمام الإنسان منذ القدم بزينته وبكل ما يضفي عليه جمالاً.
الذهب: ألوان وعيارات
يتمتع المعدن الأصفر بقابلية للتحول إلى ألوان عدة بحسب المادة المضافة إليه، حيث يمكن أن يتحول للون الوردي بإضافة %20 من الفضة و%5 من النحاس. ويتكون الذهب الرمادي أو الأبيض لدى إضافة %20 من معدن النيكل وهو معدن أبيض و%5 من الفضة. وللذهب أنواع:
الذهب بين المطرقة والسندان
في السابق، كانت أدوات الصياغة محصورة بين عدد محدود من الأدوات البسيطة، من أبرزها:المطرقة والسندان، والملاقط، وحديدة السحب، وهي عبارة عن حديدة مثقبة بسعة تدريجية ومرقمة، تستخدم لسحب الأسلاك الرفيعة حسب السماكة المطلوبة وبشكل دائري. البوتقة: وهي عبارة عن وعاء فخاري خاص مقاوم للنار. ومع استمرار عجلة التطور ظهرت شيئاً فشيئاً أدوات جديدة اختصرت الزمن الطويل الذي ينفقه الصائغ في صناعة الحلي، كما ذللت الكثير من الصعوبات التي كان يواجهها في الماضي بيد أنها في الوقت نفسه أفقدته كثيراً من المشاعر الدافئة التي كانت تنشأ بينه وبين ما يقوم على صناعته من حليٍ طالما أسبغ عليها من مكنونات نفسه وهي تأخذ في التشكل بين يديه.
عالم ساحر مليء بالأسرار والمتاعب
بالأمس كان عالم الصياغة عالماً شاقاً، لأن إنتاج أي حلية ذهبية ومن ثم بيعها يعني بالضرورة المرور بسلسلة من المكابدات، تبدأ مع مراحل التصنيع الأولى الأشبه بالطقوس، وليس لأن الصائغ المهموم بلقمة العيش يحتاج خلال عمله لاستحضار جل تركيزه وما يمتلك من دقة وقدرة على الابتكار والمهارة وخفة اليد ليقوم على الصناعة، يلاعب شعلة النار متحكماً في توجيهها إلى بؤرة صغيرة بعينها يروم لحامها بأخرى، أو يعالج قطعة ذهبية ربما يصعب الإمساك بها بمواد كيميائية خطرة، ليغليها بعد نهار مجهد قضاه منكباً عليها يسامرها في اختناقات دكانه في حامض تطفو فقاعاته في بوتقة خزفية، لينتهي به المطاف بعد ذلك إلى دفنها وعيناه تومضان بريقاً يضاهي بريقها في نشارة خشب أو رمل ساخن. هو عالم مليء بالمخاطر والقلق والأسرار التي لا يقف على كثير منها أو يفك شفراتها ورموزها إلى الآن سوى أبناء المهنة ذاتها. فمن تهديد دائم للتعرض للسرقات، إلى حاجة مستمرة للنزوح للهجر والأقطار النائية من أجل توسيع دائرة الربح.
وإن كان الأمر حالياً يبدو أقل عنتاً من السابق بعد أن قلصت الآلة الوقت والجهد حيث الأفران الكهربائية والقوالب الجاهزة التي تقوم على استنساخ العدد المطلوب من أي قطعة ذهبية، بيد أن طائر القلق لا يزال يشاغب أصحاب المهنة بسبب استهدافهم من اللصوص، وكذلك نتيجة ارتفاع أسعار الذهب وتراجع الإقبال على شرائه.
مراحل الصياغة
لا يمكن للصائغ أن ينطلق في رحلة التصنيع الشاقة والشائقة في آن، قبل أن يهيئ أولاً معدن الذهب حسب المعيارية التي يريدها، محولاً الذهب الخالص عيار 24 إلى عيار 21 أو 18 بإضافة معادن أخرى ومن أفضلها النحاس والفضة لاشتراكها في الليونة والطواعية مع الذهب، مع الالتفات إلى أن النزول من عيار 24 إلى 21 مثلاً يزيد من صلابة وقوة الذهب، إذ من المعروف أن ذهب عيار 24 لين نسبياً ولا يصلح لصناعة الحلي. وتتمثل الخطوة الثانية بعد تجهيز المعيارية، في عملية الصهر، يليها الطرق، والسحب والصب وغيرها من الخطوات حسب الموديل المراد تصنيعه.
الذهب بين المصوغات والمقتنيات
ثمة الكثير من المصوغات المشهورة في دول الخليج، والتي حرصت الجدات على اقتنائها والتزين بها في المناسبات والأعراس ومنها: المرتعشة، والهامة، والمرية، والمرامي، والمناجر، والفتخ، والحزام، والبناجر، والقلائد والخلخال والمحبس، والتي تجسد أصالة التراث وتعبر بما تحوي من فن يدفع للتأمل في قيم الحب والخير.
وفي الأعوام الأخيرة شهد ترصيع الذهب بالأحجار الكريمة وشبه الكريمة تطورًا ملحوظًا، وبدت التصاميم أكثر حداثة ومواكبة للعصر بحيث أصبح من المتعذر أحياناً التفريق بين قطعة إكسسورات وقطعة ذهب عيار 18 مثلاً لتشابه موديلاتهما. وفي جميع الأحوال لا يمكن للصائغ أن يخفي استمتاعه بهذه الحرفة التي تعبر عن فن راق، ورهافة حس، وخبرة وكثير من التأني والصبر والدقة. كما أن الذهب استعمل في تطعيم وتطريز ألبسة وعروش الملوك، وكذلك صناعة التيجان والأساور والأقراط والأواني والمسكوكات، وخلد التاريخ للإنسانية تحفاً ذهبية أثرية نادرة احتلت مكانة بارزة في زوايا العديد من متاحف العالم، مثل: «متحف المجوهرات الملكية» في مصر والذي يضم نحو11 ألفاً و500 قطعة تخص أفراد الأسر المالكة التي حكمت مصر، وتشتمل على: «فناجين، وساعات، وحافظة نقود، ولوحة شطرنج، وعصا، ودبابيس، وساعات، وأوسمة، وعملات، وأوان، وحلي». ويعد هذا المتحف من أجمل المعالم السياحية في الإسكندرية حيث يضم مجموعة نادرة ورائعة من التحف والمجوهرات والحلي والمشغولات الذهبية والأحجار الكريمة والساعات المرصعة بالجواهر والألماس، فيما يعرض متحف بيروت الوطني كنوزاً ذهبية بيزنطية، ومجموعة حلي نادرة من العصر المملوكي.
مدارس صياغة الذهب
من أشهر المدارس في صياغة الذهب، المدرسة الإيطالية، والهندية، والعراقية، ويمثل الثقل العالمي حالياً لهذه المهنة، دول الخليج العربي، نتيجة توفر رؤوس الأموال الكبيرة والتقنيات الحديثة وحالة الاستقرار السياسي والاقتصادي، ما مكنها من إنشاء ورش عمل ضخمة تضم مئات العمال الفنيين من مختلف الجنسيات، وبخاصة الهندية والباكستانية.
أما مهنة صياغة الذهب في المملكة العربية السعودية فهي من المهن التي شهدت في السنوات الأخيرة ضموراً ملحوظاً في الأيدي العاملة المحلية بسبب انصراف الأجيال الجديدة للدراسة طمعاً في الحصول على وظائف مستقرة ذات دخل ثابت، ما أدى إلى استقدام الأيدي العاملة الأجنبية التي أوكل إليها أمر هذه الصناعة في عدد من الورش المتخصصة التي تعرضت هي الأخرى مؤخراً لأزمة نجم عنها عمليات إغلاق بسبب ارتفاع أسعار الذهب.