قميص من القطن بدولار واحد.. دزينة أكواب شاي من الزجاج في علبة خشبية بدولار ونصف الدولار.. ساعة يد بأقل من دولارين.. وفي كل دول العالم تثير أسعار بعض السلع الصينية غبطة المستهلكين وحيرة المراقبين. فريق التحرير والمهندس الصناعي دانيال نمّور يتناولان النهضة الصناعيةالحاصلة في الصين، وخصوصياتها التي تجعلها تتمتع بهذه القدرة التنافسية العملاقة.
1
الصين التي صارت قريبة
فريق التحرير
عندما بدأت الحكومة الصينية في عام 1978م مشروع الإصلاح الاقتصادي، لم يثر الأمر اهتمام الكثيرين خارج دوائر المراقبين السياسيين وحفنة من المستثمرين المغامرين. فقد استلزم المشروع نحو ربع قرن ليتحول إلى نهضة صناعية واقتصادية تدهش عالماً صار لزاماً عليه أن يتابع أدق تفاصيلها لما لها من آثار بالغة الوضوح على الاقتصاد العالمي بأسره.
فالصين تتجه مع الهند والبرازيل وروسيا إلى الانضمام إلى نادي عمالقة الاقتصاد في العالم. ولكنها تستقطب اليوم اهتماماً خاصاً لأن ناتجها القومي العام أكبر مما هو عليه في هذه الدول الثلاث مجتمعة، وأيضاً لأنها تشهد نمواً اقتصادياً يبلغ معدله السنوي نحو 9.5 في المئة، في حين أن هذا النمو في الهند مثلاً، لا يزيد عن 5.7 في المئة. والأهم من كل هذا، لأن الصين أكثر انخراطاً من هذه الدول الثلاث في دورة الاقتصاد العالمي، وأثرها في اقتصادات الدول الأخرى لا بد أن يكون أكبر.
الطبقة الوسطى: مئة مليون
يعدد المطلعون على الاقتصاد الصيني عوامل نموه الباهر بدءاً بالانتقال الكبير للأيدي العاملة من الزراعة المدعومة، حيث كان هامش الربح قريباً من الصفر، إلى الصناعة الي تدر عليهم عوائد أكبر. وإن كان صحيحاً القول إن اليد العاملة الصينية رخيصة مقارنة مع ما هي عليه في الدول الصناعية في الغرب، فإن الأمر لا يكفي لوحده لتفسير قصة نجاح الصناعة الصينية. فاليد العاملة في الهند وفيتنام أرخص مما هي عليه في الصين. ولذلك لا بد من الالتفات إلى العوامل الأكثر تأثيراً من رخص اليد العاملة. ومنها على سبيل المثال وليس الحصر: البنية التحتية الجيدة بما يكفي لإقامة الصناعة، القوى العاملة المدربة، ومعدل الادخّار العام العالي الذي يسمح بتمويل الصناعات والمشاركة فيها، والأهم من ذلك، انفتاح النظام الاقتصادي حتى أقصى حد ممكن.
أدى مشروع الإصلاح الاقتصادي هذا إلى بزوغ طبقة متوسطة منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي. وراحت هذه الطبقة تنمو من تلقاء نفسها ككرة الثلج. فلتلبية احتياجاتها الجديدة، قامت صناعات جديدة أدت بدورها إلى رفد الطبقة المتوسطة بالمزيد من أبنائها، حتى وصل تعدادها اليوم إلى نحو 100 مليون نسمة، يتجمعون في المدن الساحلية وعلى طول نهر يانغتسي الشهير.
ومن جهة أخرى، شجع الانفتاح الاقتصادي، وتخفيف القيود على الاستثمارات الأجنبية إلى تدفق المستثمرين الأجانب على البلاد. حتى بات حجم الإنتاج الصناعي للمشاريع المشتركة مع جهات أجنبية يمثل 27 في المئة من إجمالي الإنتاج الصناعي في الصين.
صناعة للسوق المحلي
تدفقت الاستثمارات الأجنبية على الصين في مرحلة أولى بهدف الاستفادة من رخص اليد العاملة فيها، لإنتاج سلع كانت في معظمها موجهة إلى الأسواق الخارجية، أي إلى أن يعاد تصديرها. ولكن نمو الطبقة المتوسطة شكّل زبائن محليين، تتمنى الوصول إلى أسواقهم أية شركة صناعية في العالم.
فعلى سبيل المثال، أقامت “شركة شنغهاي لصناعة السيارات” مشروعين مشتركين مع “جنرال موتورز” الأمريكية و”فولكسفاغن” الألمانية لإقامة مصنعين في الصين. وفي هذا المجال تبدو الخصوصيات الصينية في الإدارة والإنتاج وأيضاً النمو بأوضح صورها. ففي المصنع الأول يتوزع أربعة آلاف عامل على ثلاث نوبات عمل تغطي 24 ساعة عمل يومياً، لخمسة أيام في الأسبوع. وتمكن هؤلاء العمال الأربعة آلاف من إنتاج 250 ألف سيارة في عام 2003م. في حين تمكن 15 ألف عامل في مصنع فولسفاغن الواقع على الجهة الأخرى من مدينة شنغهاي من تجميع 400 ألف سيارة في العام نفسه. ويمثل المجموع زيادة مقدارها 57 في المئة عمّا كان عليه الإنتاج في عام 2002م.
ولا يُخفي المسؤولون في “شركة شنغهاي لصناعة السيارات” طموحاتهم وتوقعاتهم المستقبلية، إذ يعلنون منذ اليوم عزمهم على احتلال مقعد بين أكبر ستة مصنّعي سيارات في العالم بحلول عام 2020م. وللوصول إلى هذا الهدف، ما عليهم إلا مضاعفة إنتاجهم الحالي أربع مرّات. الأمر الذي يؤكد المحللون إمكانية تحقيقه وواقعيته.
الصين المشترية والصين البائعة
يقول تسويوشي كيكوكادا رئيس شركة “أولمبوس” اليابانية، إن شركته أنشأت أول مصنع لها في الصين عام 1991م للاستفادة من تدني أجور الأيدي العاملة هناك. ومنذ آنذاك، أضافت مصنعين آخرين إلى المصنع الأول. وحتى ثلاث سنوات خلت، لم تكن شركته تصنع أية آلة تصوير رقمية في الصين. أما خلال العام الجاري 2004م، فسيبلغ الإنتاج 4 ملايين آلة تصوير من هذا النوع، أي نحو 40 في المئة من الإنتاج العام للشركة.
وفي حين يتطلع رجل الأعمال الياباني إلى مستقبل سوق آلات التصوير الرقمية في الصين، متفائلاً بارتفاعها من 3 ملايين وحدة لهذا العام إلى 6 ملايين في عام 2006م، تؤكد الأرقام التي يقدمها أن معظم صادرات هذه الشركة اليابانية إلى العالم صارت من صُنع الصين. إذ أن عدد العمال في المصانع الصينية وصل إلى نصف مجموع القوى العاملة في الشركة والبالغ عددها نحو 28 ألف شخص. ويؤكد المصدر نفسه أن كل آلات التصوير بالأفلام التي تنتجها شركته صارت تصنع في الصين. ويلخص استراتيجية شركته في هذا المجال بقوله: “الصين صينان: واحدة تشتري وواحدة تبيع”.
والصين البائعة صارت عملاقاً من عمالقة التجارة العالمية. إذ بلغت صادراتها إلى دول العالم في عام 2003م نحو 440 بليون دولار، وشملت سلعاً تراوحت ما بين الأحذية وجلود الحيوانات وقطع الغيار لأجهزة الكومبيوتر مروراً بالمفروشات والأدوات المنزلية والهواتف.. وفي المقابل لم تتجاوز وارداتها من هذه الدول ما قيمته 411 بليون دولار.
على حساب دول أخرى
ويخطئ من يتوهم أن السلع الصينية، لتدني أسعارها، تتوجه إلى الدول الفقيرة أو حيث القوى الشرائية أضعف مما هي عليه في الدول الغنية. فالشريك التجاري الأكبر للصين هو الولايات المتحدة الأمريكية التي استوردت من الصين في عام 2003م سلعاً بقيمة 92.6 بليون دولار، في حين أن الصادرات الأمريكية إلى الصين لم تصل إلى 40 بليوناً.
وفي هذا المجال، يشير المراقبون الأمريكيون إلى أن تزايد معدلات البطالة في الصناعة الأمريكية يتزامن مع العجز الكبير في الميزان التجاري مع الصين. ولذا، يلقون باللوم على السلع الصينية التي تكتسح الأسواق الأمريكية. ولكن الحقيقة تكمن في مكان أعمق من هذه الرؤية السطحية. فمعظم الزيادة في الواردات الأمريكية من الصين تتم على حساب دول أخرى وليس على حساب الإنتاج المحلي. فعلى سبيل المثال، كان 60 في المئة من الأحذية المباعة في أمريكا خلال عام 1988م، مستوردة من كوريا الجنوبية وتايوان. ولم تكن حصة الصين آنذاك تزيد على 2 في المئة. أما اليوم، فقد وصلت نسبة الأحذية الصينية إلى 70 في المئة من مجمل الواردات، واضمحلّت كثيراً الواردات من كوريا الجنوبية وتايوان. ومن الدول التي تكبدت كثيراً نتيجة المزاحمة الصينية، هناك المكسيك التي عجزت عن المنافسة على السوق الأمريكية رغم اتفاقية “النافتا” التي كانت تسهل لها هذه المهمة. ويتوقع أن يزداد وضع المكسيك سوءاً وأن تخسر سوق الملابس في أمريكا لصالح الصين، بعد انتهاء فترة المحاصصة في بداية العام المقبل 2005م.
وإذا جاع العملاق؟
من الطبيعي أن يؤدي هذا النمو الاقتصادي الكبير، كما هو الحال أينما كان في العالم، إلى زيادة في الطلب على الطاقة والمواد الخام. ولكن ما مقاييس هذه الزيادة في الصين، حيث تبدو نسبة النمو 9.5 في المئة مستمرة خلال السنوات المقبلة؟
تعتبر الصين حالياً المستهلك الأكبر في العالم لبعض المواد الخام مثل الحديد، النحاس، الفحم الحجري، والإسمنت، والمستهلك الثاني للنفط بعد الولايات المتحدة الأمريكية. ولهذا فإن أي تغيير في الاحتياجات الصينية سيكون بالغ الأثر على الأسعار العالمية. ويرى الكثيرون أن وصول أسعار النفط إلى أرقام قياسية خلال هذا العام لم يكن مجرد مصادفة. فصحيح أن الصين لا تستهلك أكثر من 8 في المئة من مجموع الطلب العالمي على النفط، ولكنها مسؤولة عن خُمسي الزيادة في الطلب منذ عام 2000م وحتى اليوم.
وفي العام الماضي فقط، استهلكت الصين 40 في المئة من الفحم الحجري و30 في المئة من الحديد من إجمالي استهلاك العالم لهاتين المادتين، حتى أن السعر العالمي للفحم تضاعف خلال تلك السنة. والسؤال الذي يشغل العالم اليوم، ماذا إذا استمر نمو الاقتصاد الصيني واستهلاكه للطاقة والمواد الخام على الوتيرة نفسها؟
تتوقع المصادر الغربية أن يتراجع النمو الاقتصادي في الصين إلى 7 في المئة خلال سنوات قليلة. ولكن نمو الاستثمارات في الصناعة قد يتراجع من 35 في المئة سنوياً إلى نحو 10 في المئة. ولأن استهلاك المواد الخام والطاقة مرتبط مباشرة وبوضوح أكبر بالاستثمارات، فمن المتوقع أن يعتدل بعض الشيء ازدياد الطلب على هذه المواد الأساسية.
ولكن، على المدى الطويل، وإذا استمر النمو ولو بنسبة 7 في المئة سنوياً، فمن المتوقع أن يصل معدل دخل الفرد في الصين إلى ما هو عليه حالياً في كوريا الجنوبية. الأمر الذي يعني ارتقاء مستوى المعيشة إلى ما هو عليه حالياً في كوريا الجنوبية. وهو ما سيؤدي إلى مضاعفة استهلاك الطاقة أربع مرات. فتصبح الزيادة وحدها أكبر مما تستهلكه الولايات المتحدة بأسرها اليوم.
وإذا شاء الصينيون الارتقاء بمستوى معيشتهم إلى ما هو عليه اليوم في أمريكا، سيرتفع عدد السيارات في الصين إلى 650 مليون سيارة، أي أكثر من مجموع السيارات في كل دول العالم، الأمر الذي يطرح أسئلة مقلقة حول مستقبل استهلاك الطاقة وآثاره البيئية.
ولكن الأمور قد لا تكون على مثل هذه الدرجة من السوء الذي توحي به بعض التوقعات. فهناك اهتمام كبير في الصين باستخدام الطاقة في أشكال مجدية، وعلى سبيل المثال فقط، نشير إلى أن إنتاج طن من الحديد في الصين يستهلك نصف الطاقة اللازمة لإنتاج طن من الحديد في اليابان، ومن الممكن تطوير هذه التقنيات الهادفة إلى توفير الاستهلاك إلى جانب التقنيات المانعة للتلوث والمحافظة على البيئة. كما أن السد الكبير الذي يجري إنشاؤه على نهر يانغتسي سيؤمن نحو 10 في المئة من استهلاك الصين بأسرها من الكهرباء، الأمر الذي سيخفف بعض الشيء الضغط في الطلب على المصادر الأخرى للطاقة.
أما اليوم، ومهما كانت التوقعات حول مستقبل الاقتصاد الصيني، ومهما اختلف المراقبون ما بين مصفق له ومحذر من تداعيات نموه، فلا شك أن هناك ما يشبه الإجماع على أن هذا العملاق ماضٍ في مسيرته إلى الأمام، وأن لهذه النهضة الصناعية والاقتصادية آثار على العالم بأسره، وأن الصين التي كانت مضرب مثل في بعدها عنّا، أصبحت قريبة جداً.
2
انطباعات من الداخل
دانيال نمّور
عندما حطت بنا الطائرة في مطار شانغهاي لم أكن أعرف ماذا كان ينتظرني، مع العلم أنني كنت قد قرأت قليلاً عن تاريخ الصين، من إمبراطورية المنغ الغنية بفنون السيراميك، فرحلات ماركو بولو المفعمة برائحة الفلفل، إلى حملة الألف ميل وصراع ماوتسى تونغ مع غريمة تشان كاي تشيك إلى الثورة الثقافية. ماتت الثورة الثقافية وبقي النظام، انتهت حرب الأفيون وعادت هونغ كونغ إلى بلدها الأم، وبدأ الإصلاح بثورة الصين الصناعية للقرن الواحد والعشرين.
ما تكاد تغادر المطار حتى تلاحظ رياضاً ضخمة تؤكد لك أنك في بلد شيوعي، لكن ما أن تصل إلى المدينة حتى تفاجأ بناطحات سحاب وحركة لا تهدأ فتخال نفسك في نيويورك، قلب الرأسمالية النابض.
كان هدف زيارتنا إلى الصين الاطّلاع على الصناعات الكهربائية والإلكترونية التي تحسنت جودتها كثيراً في السنوات القليلة الماضية مع الاحتفاظ بسعر تنافسي فاعل بالنسبة إلى البلدان الأخرى. وبالطبع، الكل يعرف أن الصناعة الصينية بالإجمال رخيصة، وكانت هذه الصورة تتشكل دائماً على حساب الجودة. إلا أن هذا التصور أصبح غير دقيق، إن لم نقل خاطئاً في معظم الأحيان. فأسعار البضائع المتنوعة وجودتها تثير دهشة الخبير الصناعي أكثر مما تثير دهشة أي مراقب غير ملم بتكاليف الصناعة. هذا الرخص الأساسي هو بالطبع نتيجة لتوفر اليد العاملة الرخيصة. ولكن هذا التفسير غير كافٍ، فماذا عن المواد الأولية، والشحن، وكلفة الاستثمار والآلات والتوزيع … لا شك أن عدة عوامل تلعب دوراً أساسياً في تقدم الصناعة الصينية التي تنمو بسرعة هائلة تجاوز العشرة في المئة سنوياً، مما جعل الصين القوة الاقتصادية الخامسة في العالم خلال سنوات قليلة.
اليد العاملة
تقسم الشركات الصناعية في الصين إلى ثلاث فئات. فهنالك الصناعات الثقيلة كالحديد، والنفط والسيارات وهي صناعات تملكها الدولة. والفئة الثانية هي الصناعات المتوسطة والخفيفة كالصناعات الغذائية والسلع المنزلية وغيرها، وهذه الشركات هي عادة ملك التعاونيات الشعبية التابعة للمقاطعات. والفئة الثالثة برزت أخيراً وتسمى “بالصناعات الأخرى” وهي تعني قانوناً أي معمل يملكه أشخاص أي مواطنون عاديون. هذه الفئة الثالثة تزايدت بصورة مضطردة أخيراً مع السماح للأجانب وصينيي الخارج بالاستثمار، فيما قامت الدولة باعتماد التخصيص وإعادة الهيكلة للصناعات الثقيلة مما أدى إلى تقليص اليد العاملة لدى صناعة الدولة بنحو أربعين مليون عامل. ويعتبر هذا التقليص مهماً جداً، إذ أن نمو الصناعة الصينية يزيد الطلب على اليد العاملة مما يوحي أن سعرها سيرتفع. وسيزداد سعر البضاعة المنتجة. إلا أن خروج أربعين مليون عامل، بالإضافة إلى ضخامة عدد سكان الصين، جعل سعر اليد العاملة الصينية مستقراً مما حافظ على رخص البضائع المصنعة (يقدر إجمالي السكان بنحو 1273 مليون نسمة). وإذا أردنا مقارنة سعر متوسط أجر العامل في الصين مع بقية الدول، نجده لا يتجاوز الأربعين سنتاً من الدولار الأميركي في الساعة، أي سدس أجر العامل المكسيكي وواحد على أربعين من أجر العامل الأمريكي. وهكذا تبدو الصين كبئر لا تنضب من اليد العاملة الرخيصة، ويعتقد الخبراء أن هذا العامل غير مرشح للتغير خلال العشر سنوات المقبلة على الأقل.
عامل السوق الداخلي والنقد الوطني
والعامل الثاني الأهم في الصناعة الصينية هو كبر السوق واعتماد مبدأ التصنيع بكتلات ضخمة (Mass production). وبالطبع، فإن اعتماد الإنتاج بكميات كبيرة يؤدي إلى تخفيض سعر القطعة المصنعة. إذ يجري تخفيض كبير في مشتريات المواد الأولية، وتخفيض الكلفة الإجمالية (Over head). وقد استغل الصينيون كبر سوقهم الداخلي هذا وشبكة علاقاتهم بصينيي الخارج للضغط على الشركات الأجنبية المتعاقدة أو المستثمرة معهم، فحصلوا على نقل نوعي لتكنولوجيا الغرب بأبخس الأثمان. كما اعتمدوا نقل التصاميم من دون دفع أثمانها مقابل فتح السوق الصيني وتشعباته للأجنبي.
والسر الآخر لتقدم الصناعة الصينية يكمن في تركيبة البلد المالية. فالصيني بطبعه يعتمد على الادخار بدلاً من الاستهلاك، وهذه العقلية طبيعية لبلد اعتبر مجتمعه زراعياً لمدة طويلة. وجعل الادخار، بالإضافة إلى جذب كمية هائلة من الاستثمارات الأجنبية إلى قطاع الصناعة، خصوصاً اليدوية، صندوق الدولة ممتلئاً بالعملات الصعبة. فاعتمدت الدولة سياسة دعم العملة الوطنية (YUAN) التي تعتبر رخيصة مقابل الدولار. وهذا سهل على الشركات الصناعية نيل استثمارات بفوائد قليلة، واستغلال بنية تحتية بأرخص الأثمان (هاتف، كهرباء، طرقات …) مع الاستفاده من نظام ضريبي مقبول. وتمارس حالياً ضغوط كبيرة من قبل الكتل الاقتصادية الأمريكية والأوروبية لفك دعم الصين لعملتها من أجل كبح جماح انجذاب السوق المالية لصناعة مدعومة مالياً.
وأثرت طبيعة النظام والمجتمع أيضاً في تخفيض الربحية عند التسعير. فالنظام والمجتمع الصينيان يعتمدان على المركزية وتبنى المخططات تبعاً لشبكة المعارف النابعة من المركز، بعكس المجتمع الغربي الذي يعتمد على مبدأ دراسة السوق ثم إنشاء المصنع. وغالباً ما يقدم الصينيون على إنشاء مصنع لأنهم يملكون قدرة ما ومن ثم يفتشون عن أسواق، مما يضطرهم في عديد من الأحيان إلى تخفيض ربحيتهم للبيع إذا لم يجدوا سوقاً كافياً. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الشركات والدولة الصينية تكافئ موظفيها على الكمية الإجمالية للبيع وليس على الربحية. أما بالنسبة للتوزيع، فيعتمد الصينيون أيضاً على الشبكة الكبيرة لصينيي الخارج، بالإضافة إلى الشركات الأجنبية المستثمرة بالصين، وهم يقيمون معارض ضخمة متنوعة مختلفة عن المعارض المتخصصة في الغرب. ومع العلم أن الصين بعيدة جغرافياً عن الأسواق الإستهلاكية الكبرى في أمريكا وأوروبا، تمكن الصينيون من تخفيف كلفة الشحن عن طريق اعتماد استراتيجية مزدوجة. فأقاموا معظم مراكزهم الصناعية في المناطق الشرقية من البلاد القريبة من البحر لتخفيف كلفة النقل البرّي الداخلي (أي قرب بكين وشانغهاي وغوانزو)، وأخيراً بدأوا يعتمدون على الناقلات البحرية الضخمة لنقل صادراتهم. ومما لا شك فيه أن دخول هونغ كونغ في المنظومة الصينية أفاد كثيراً في مجالات التسويق والتوزيع والشحن. وبناء على ذلك يمكننا القول إن الصناعة الصينية هي قاطرة سريعة تنقل معها خُمس سكان العالم من اقتصاد الزراعة إلى عصر العولمة. ويبدو أن مفتاح فهم الصناعة والاقتصاد الصينيين يكمن في فهم المجتمع والتقاليد، وهذا عملٌ صعب. فهي حضارة قديمة غير شفافة للآخرين. ولعل أبرز معالم ذلك لغتها. إذ يقال إن اللغة الصينية من أصعب اللغات، فهي لا تملك أبجدية، ولكل كلمة فيها شكل معين، لكن أفضل ما في اللغة طريقة التعبير التي يمكن أن تساعدنا كثيراً على فهم شعب.
ومن الطريف أن نختصر طريقة التعبير هذه بالإشارة إلى أن كلمة “لا” غير موجودة فعلياً في الصين، والصيني لا يقول لك “لا”، حتى عندما يعنيها، بل يعتمد الجواب التالي ليفهمك رفضه، ويقول: “إذا نظرت مباشرة إلى الشمس العظيمة فقد تؤذي عينيك”. ولطالما كانت اللغة مرآة لشعبها. وهكذا يستنتج المرء أن المفاوضات مع الصينيين ليست بالعمل السهل، فلا بد من التذاكي في مرات عديدة، ولكن التشاطر أكثر من اللزوم قد يؤذي. والصيني يُفهمك ذلك بطريقة غامضة، و لكن كم من الصناعيين والتجار وقعوا ضحية هذا الغموض.
———————————————————————————
اقرأ للطاقة
رحلة في عالم البترول:
قضايا بترولية دولية
إذا كانت المستويات القياسية التي بلغتها أسعار النفط في الشهور الأخيرة قد شغلت الرأي الدولي والمحلي على صعيد واحد، فإنها، من جهة أخرى، فرضت على الجميع أن يتخطوا ردات أفعالهم الحماسية تجاه ما حدث ليشرعوا في قراءة أدبيات الصناعة النفطية وتقلبات الأسعار وأسبابها صعوداً وهبوطاً ومؤثراتها على اقتصادنا الوطني.
الكتاب الذي نعرض له هنا هو: “رحلة في عالم البترول: قضايا بترولية دولية” وقد ألفه مختص واستشاري في شؤون البترول هو الدكتور خالد منصور العقيل، ويقدم بلغة بسيطة صورة شاملة عن اقتصاديات البترول، يبدأها بإيجاز عن ظروف تشكل هذه المادة في جوف الأرض وصولاً إلى أواسط القرن المنصرم الذي جعل البترول مادة أساسية للطاقة تنافس مكانة الفحم الحجري، ويرتبط بها مصير الحضارة الإنسانية برمته.
ويعالج الكاتب في مؤلفه الكيفية التي تطورت خلالها أسعار البترول والتقلبات التي طرأت عليها، كما يستعرض المؤثرات الرئيسة في تذبذب أسعاره وتتلخص في الطاقة الإنتاجية البترولية الفائضة، وسياسات وكالة الطاقة الدولية، ودور المنظمات البترولية الدولية كمنظمة الدول المصدرة للبترول وأمانة منتدى الطاقة الدولي في صنع استراتيجيات بنّاءة بين المصدرين والمستوردين تكفل إمداد العالم بالطاقة وتمنع التأثيرات السلبية على الدول النامية التي حدثت خلال قرابة ثلاثة عقود(1974-2002م) عندما أفقدت الخطط التنموية لتلك البلدان فرص الاستقرار والنماء المنتظم.
اهتمام غير مسبوق
حظي النمو الاقتصادي في الصين وما يرافقه من تحولات على الصعد كافة باهتمام عالمي خلال الأشهر الثلاثة الماضية. وشمل هذا الاهتمام بالصين الجديدة معظم وسائل الإعلام الكبرى بدءاً بشبكة سي. إن. إن. التي قدمت على مدى أسبوع كامل سلسلة من الحلقات التلفزيونية تناولت المستجدات الاقتصادية والاجتماعية في الصين، وصولاً إلى المجلات المتخصصة وشبه المتخصصة التي أفردت مقالات مطولة للموضوع نفسه.
المولود الأخير في هذا المجال كان العدد الخاص الذي أصدرته مجلة “Fortune” الأمريكية، وحمل على غلافه العنوان “داخل الصين الجديدة”.
تضمن العدد أحد عشر استطلاعاً ومقالاً في 104 صفحات حول جوانب شتّى من الواقع الاقتصادي في الصين اليوم، والآفاق الشاسعة المفتوحة أمام نموه. وتناول مواضيع شتى مثل نظامها السياسي-الاقتصادي، وصناعة السيارات في شنغهاي، وحجمها كسوق مستهلكة، وانطلاق التنمية والاستثمار في أعماق البلاد والمناطق النائية التي شبهتها المجلة بأنها “الغرب الجديد” في إشارة إلى الغرب الأمريكي، وماذا يأكل الصينيون، وكيف ينجح الرهان على التنمية في الصين، وعرض لنشاط مجموعة من رجال الأعمال وقصص نجاحهم.. وصولاً إلى “تخيل مستقبل الصين” بقلم المؤرخ جوناثان سبانس الذي يبحث في كيفية الحفاظ على التراث الثقافي والحضاري الغني جداً في الصين، في الوقت الذي تشهد فيه تحولاتها الحداثية الكبرى.