شحّ المياه ليس مشكلة عربية فقط، بل إنه مشكلة عالمية تمتد عبر القارات.
فالنمو السكاني أينما كان في العالم يتحالف مع تضخم المدن وقضايا أخرى مثل متطلبات الزراعة والتلوث البيئي وتفاقم مشكلة المياه وزيادة حدتها.
ولو توقفنا هنا أمام هذه القضية على المستوى العربي، لوجدنا أن تقارير عديدة على مستويات عليا من الرصانة والجدية، باتت تُجمِع على أن مشكلة المياه عربياً مشكلة تتطلب معالجة شاملة ليس ترشيد الاستهلاك إلا جزءاً صغيراً منها.
فما هي معطيات هذه الأزمة وعناصرها؟ وما هي احتمالات تطورها؟ وماذا يمكن أن يتوافر لها من حلول؟
المصدر: دراسة عنوانها: إدارة مصادر المياه في المنطقة العربية: التحديات والفرص والتغيّرات، ألقيت في ورشة: الطريق إلى إدارة مائية مستدامة التي عقدت في القاهرة، في 11 مارس 2013م
عالج عدد من المؤسسات والباحثين هذه المشكلة ووضعوا لها الحلول الممكنة، ورفعوها إلى منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والوطنية المتخصصة، في كثير من بلدان العالم. ذلك أن العالم يخشى اليوم، أن تسبّب ندرة المياه حروباً لا تقتصر على نزاع بين دولتين أو أكثر، بل قد تؤدّي حتى إلى نزاع داخلي واقتتال أهلي في بعض الدول على مصادر المياه العذبة.
فقد قدّم الدكتور حمّو العمراني، منسِّق مشروع: «قرية نت»، والخبير المغربي في مجال الزراعة والأمن الغذائي، تقريراً لورشة: الطريق إلى إدارة مائية مستدامة، التي عُقدت في القاهرة في 11 مارس 2013م. جاء فيه أن دول مجلس التعاون الخليجي تعاني واحداً من أدنى معدلات حصة الفرد من المياه المتجددة في العالم، إذ لا تزيد هذه الحصة على 177 متراً مكعّباً في السنة.
غير أن المشكلة لا تنحصر في هذه المنطقة العربيّة وحدها، ذلك أن تقريراً آخر، وضعه الخبيران ساربجيت ناهال، وفاليري لوكاس- لوكلين، لحساب «بنك أوف أميركا» و«ميريل لنش»، عنوانه: «الثورة الزرقاء: الماء في العالم»، وتاريخه 7 نوفمبر 2012، ذكر أن شح المياه حقيقة عالمية، إذ إن 783 مليون نسمة في العالم، لا يحصلون على مياه شرب نقية، وأن الماء يقع الآن تحت ضغوط متعاظمة، على طرفي المعادلة: طرف العرض (نقص المياه العذبة، وسوء التوزيع، والجودة المنخفضة، وهدر الماء، والتغيّر المناخي وما يسبّبه) وطرف الطلب (تسارع كبير في استهلاك الماء في الزراعة، والصناعة، والمنازل، والبلديات).
وإذا كانت مشكلة شحّ المياه ممتدة على مساحة جغرافية واسعة من الكرة الأرضية، فهي ممتدة في التاريخ أيضاً إلى عصور قديمة.
فالباحثون يعرّفون النزاع على الماء، على أنه صراع بين بلدان، أو جماعات بشرية في بلد واحد، على مصادر المياه. ومع أن الماء بنفاسته للزرع والشرب وتربية الماشية والصناعة، يفسّر احتمال نشوب الصراع عليه، إلا أن الحروب التي نشبت فعلاً نادراً ما كان الماء سببها المباشر، وإن كان النزاع على الماء دخل من زمن في إطار المشكلات السياسية التي تدخل في السجال بين الدول.
والمؤشرات مقلقة، فهي تشير إلى أننا بلغنا قمّة في الضغوط على طلب الماء في العالم، وأن تحدّيات عرض الماء واسعة النطاق. فالطلب يُنتظر أن يفوق العرض بنسبة %40، في سنة 2030، وعندئذ سيعاني نصف البشرية أزمة مياه. أما الوضع الآن فهو يشير إلى أن 1,2 مليار نسمة أي نحو خُمس البشرية، يعانون ندرة في المياه، وأن 500 مليون نسمة آخرين يقتربون من هذه الحال، فيما يعاني 1,6 مليار نسمة، أي نحو ربع سكان الكرة الأرضية، نقصاً بالماء.
في البلاد العربية
إن قلة الماء التي تراوح بين النقص والقلة والشح والجفاف، مشكلة حادة في البلاد العربية، حسبما جاء أيضاً في الفصل الثاني من تقرير التنمية البشرية العربية – 2009 الذي وضعه خبراء لمنظمة البرنامج الدولي للتنمية (UNDP)، وعنوان هذا الفصل الثاني: البيئة، وضغوط الموارد والأمن البشري في البلاد العربية.
هذه المشكلة التي تعد من التحديات الأساسية التي تواجه المجتمعات العربية عموماً، تستدعي جهوداً مركّزة في غياب الوسائل المثالية لضبط استعمال المساحات والأرض ومياه الأنهار، وعدم اتباع وسائل زيادة المردود الاقتصادي للماء، وكذلك عدم الوصول إلى حلول لمشكلة لامركزية المسؤولية في تنفيذ سياسات إدارة الأراضي والمياه. فلما كانت هذه المسؤولية موزّعة على عدد كبير من المؤسسات والوزارات، يرى تقرير التنمية البشرية العربية ضرورة إنشاء هيئة مؤسسيّة مستقلة تتحمّل وحدها إدارة الموارد المائية. فمثل هذه الهيئة تستطيع أن تقيم التوازن المثالي بين العرض والطلب، على أساس اجتماعي- اقتصادي سليم.
لكن ثمة حاجة عاجلة الآن إلى بداية جادّة لإنشاء شبكات من المراكز الدراسية المتخصّصة، في المناطق الحسّاسة هذه، من أجل تطوير مجموعة من الحلول البديلة، يمكن أن يَختار منها صنّاع القرار ما يرونه مناسباً للتطبيق.
النمو السكاني وطلب الماء
يرى تقرير التنمية البشرية العربية أيضاً أن أحد أهم أسباب تعاظم الضغوط في طلب الماء، في الدول العربية، هو النمو السكاني الكبير. ففي سنة 2010 قُدِّرت وتيرة التزايد السكاني العربي، بنحو %2 كل سنة. وبين 2010 و2015، هبطت هذه النسبة المقدّرة هبوطاً طفيفاً إلى %1.9. وتكاد هاتان النسبتان، تبلغان ضعفي وتيرة التزايد السكاني في العالم، ونسبته على التوالي: 1.2 و%1.1.
ومع أخذ هذه الوتيرة في الحسبان، تقدّر الأمم المتحدة، أن يبلغ عدد سكان البلاد العربية عام 2015 نحو 385 مليون نسمة (للمقارنة، كان تعداد السكّان في البلاد العربية عام 2007، 331 مليون نسمة، وعام 1980، 172 مليوناً).
وفي منطقةٍ تتعاظم فيها ندرة الماء والأراضي الزراعية بسرعة، سيُثقل التكاثر السكاني بلا شك، وهو يُثقل منذ الآن، كاهل مصادر الماء المحدودة وعلى الأراضي الزراعية وعلى الاستدامة البيئية أيضاً.
ندرة المياه العربية
إن سبب معاناة البلدان العربية من شح الماء ومصادره، هو أن هذه البلدان تقع في منطقة جافة من الكرة الأرضية. وتزداد المعاناة، بسبب الزيادة المطّردة في استنباط الماء مع النموّ السكاني والاقتصادي. والأنهار الدائمة، هي المصدر الأساسي للمياه السطحية في البلاد العربية، تليها الينابيع والترع والأنهار الموسمية.
ويبلغ مجموع المياه في البلاد العربية نحو 300 مليار متر مكعّب في السنة، منها المياه السطحية، وتقدّر بنحو 277 مليار متر مكعّب في السنة.
لكن نسبة ما ينبع في داخل هذه البلاد العربية من الأنهار لا تتعدى %43. أما النسبة الباقية من المياه السطحية وهي %57 فتأتي بها أنهار تنبع في الخارج.
التصنيف المائي للدول العربية
بين القلة والشح والندرة
وقد نشر تقرير”الثورة الزرقاء: الماء في العالم”، جدولاً لدول العالم التي تعاني مشكلة مياه، فجعل معاناة الدول لهذه المشكلة في ثلاثة أصناف: قلة الماء (water stress) وشح الماء (water scarcity) وندرة الماء (absolute water scarcity).
فالدول العربية التي تعاني قلة الماء، هي جزر القمر (وحصة الفرد السنوية فيها 1592متراً مكعّباً) والصومال (1538 متراً مكعّبا) والسودان (1445 متراً مكعّباً) وإريتريا (1161 متراً مكعّباً) ولبنان (1057 متراً مكعّباً).
والدول العربية التي تعاني شحّ المياه، هي المغرب (898,6 متر مكعّب) وسوريا (808,5 متر مكعّب) ومصر (694,2 متر مكعّب).
أما الدول العربية التي تعاني ندرة الماء، فهي على التوالي: عُمان (491,9 متر مكعّب) وتونس (433,7 متر مكعّب) وجيبوتي (331,1 متر مكعّب) والجزائر (324,2 متر مكعّب) والأراضي الفلسطينية المحتلة (201,6 متر مكعّب) والأردن (148 متراً مكعّباً) وليبيا (109 أمتار مكعّبة) والبحرين (87,6 متر مكعّب) والمملكة العربية السعودية (85,5 متر مكعّب) واليمن (84,7 متر مكعّب) وقطر (31 متراً مكعّباً) والإمارات العربية المتحدة (19 متراً مكعّباً) وأخيراً الكويت (7,1 متر مكعّب).
ويلاحَظ في هذه الأرقام، أن بلدين عربيين لم يُذكرا، هما العراق، الذي يمر فيه نهرا الفرات ودجلة، وهما من المصادر المائية الغنية نسبياً، وإن كانا يحتاجان إلى حسن الإدارة، لحفظ الماء ونقائه. أما البلد الآخر، فهو موريتانيا، وهو من البلدان التي تعاني نقصاً في المياه، وإن كان التقرير لم يصنِّف هذين البلدين في أي من الفئات الثلاث المذكورة.
أنهار وطنية ودولية
في البلاد العربية أنهار، يشير تقرير التنمية البشرية العربية إلى أن بعضها ينبع ويجري ويصب في داخل هذه البلاد، وبعضها الآخر تتشارك فيها البلاد العربية مع بلدان أخرى.
فالفرات ودجلة كلاهما ينبع في تركيا، ويجري في سوريا، وينتهي إلى العراق، حيث يلتقي النهران في شط العرب، الذي يصب في الخليج. وينبع نهر العاصي في لبنان، ويجري شمالاً إلى سوريا، وينتهي إلى البحر الأبيض المتوسط في تركيا. وأما نهر الأردن ورافده اليرموك، فتتشارك فيهما سوريا ولبنان والأردن وفلسطين المحتلة.
ومن الدول التسع التي تتشارك في مياه نهر النيل، الذي ينبع في أواسط إفريقيا، دولتان عربيتان فقط، هما السودان ومصر. وقد بُذِلت سنوات من الجهود من أجل الوصول إلى معاهدات بشأن مياهه، منها “مبادرة حوض النيل”، وهي ترمي إلى إدارة مياه النهر وتقاسمها. لكن معظم هذه المعاهدات، إما جزئية، أو غير فعّالة أو غير منصفة في مسألة حقوق الدول المتشاركة في النهر. وعلى الصعيد الإقليمي يُخشى على التعاون في استعمال المياه وإدارتها، من نزاعات سياسية عديدة.
المياه الجوفية
وثمة مصادر أخرى للمياه في البلاد العربية أهمها المياه الجوفية، ويقدّر الاحتياطي فيها بنحو 7,734 مليار متر مكعّب، أما كمية المياه التي تغذّي هذه المياه الجوفية كل سنة، فتُقدّر بنحو 42 مليار متر مكعّب فقط في جميع المناطق العربية. ولا تزيد الكمية المتاحة للاستعمال على 35 مليار متر مكعّب سنوياً.
وتوجد أكبر احتياطات المياه الجوفية، وأكثرها تجدداً في البلاد العربية، في بلدان شمال إفريقيا وشرقها (الجزائر ومصر وليبيا والمغرب والصومال والسودان وتونس).
والمياه الجوفية هي مياه عذبة تتجمع في مخازن طبيعية في جوف الأرض. وهي المصدر الوحيد للمياه العذبة، في المناطق الصحراوية الجدباء، وتعدّ ضمانة حيوية وطنية وإقليمية، للأمن المائي في عدد من البلدان.
وثمة خزانات مياه جوفية، عابرة للحدود، وهي متجددة المياه. ومنها ما يمتد في جوف الأرض، عبر الحدود بين سوريا وتركيا، وبين لبنان وفلسطين، وبين الأردن وسوريا. وثمة مياه جوفية غير متجددة، مثل المياه الجوفية في منطقة النوبة، التي تمتد تحت الأرض بين تشاد ومصر وليبيا، والمياه الجوفية بين الأردن والمملكة العربية السعودية، وثمة خزان آخر غير متجدد المياه بين العراق وسوريا والأردن. ومع أن بعض هذه المياه جيدة لتلبية طلب المياه العذبة، إلاَّ أن بعضها الآخر يتصف بالملوحة.
حسن الاستعمال
تحتاج كل هذه المصادر إلى معاهدات وإلى مؤسسات مناسبة لإدارتها إدارة سليمة. ذلك أن استنباط الماء منها كيفما اتفق، أمر غاية في الخطورة على مصير هذه المصادر، وقد يكون سبباً في نزاع بين الدول التي تتشارك في هذه المخازن الجوفية. ففي مخازن المياه الجوفية “الدولية”، أي التي تتشارك فيها دولتان أو أكثر، يمكن لأثر أي استخدام سيّئ أن يمتد من بلد إلى بلد عبر الخزان الجوفي. ذلك ممكن من الناحيتين الكمية (أي السحب الجائر للمياه الجوفية) أو النوعية (أي التسبب مثلاً في زيادة ملوحة المياه الجوفية). وقد لا تظهر نتائج هذا السلوك مباشرة وبوضوح في البلدان المجاورة، ولكن إعادة الحال إلى وضعها السليم، بعد حدوث الضرر، أمر صعب للغاية.
والاستنباط الجائر المبالغ فيه للمياه الجوفية، قد يكون الدافع إليه زيادة الطلب المترتبة على نمو السكان، أو التطوير الزراعي، أو المتطلبات الصناعية المتزايدة. لكنه يناقض مبدأ الاستدامة، ويؤدي في الغالب، بعد وقت ما، إلى عدم صلاح الماء الباقي في الخزان الجوفي. ففي المناطق الساحلية مثلاً، تؤدي المبالغة في استنباط المياه الجوفية إلى فراغ في الخزان، يستدعي مياه البحر المجاورة، فتزداد ملوحة الماء زيادة تجعله غير صالح للشرب أو للزراعة حتى، أو الصناعة.
مشكلة قلة ومشكلة جودة
وقد لفت تقرير «الثورة الزرقاء: الماء في العالم»، إلى مسألة مهمة جداً في أزمة المياه، في ملاحظة تصح على البلدان العربية، أو معظمها على الأقل. فمشكلة قلة الماء ليست مشكلة كمية فقط، بل هي أيضاً مشكلة نوعية. فالشح ناتج بنسبة كبيرة وعلى نحو مباشر، من تردي جودة ما يتوافر من مياه. وقد أخذت جودة المياه في التفاقم في العقود الماضية من السنين. أما أسباب هذا التردي في الجودة، فهي عديدة، منها:
• أن مدن العالم، ومنها المدن العربية، تواجه تلوثاً متزايداً للمياه، بسبب سوء استعمال الأرض وسوء معالجة المياه الملوّثة أو الآسنة.
• تزايد استخدام المخصّبات الكيميائية في الزراعة، وهي مواد تنتهي إلى المياه الجوفية، وتتركز فيها، وقد تصبّ في البحار والمحيطات.
• استخدام أساليب الري المكثف في المزارع والحقول، وهذا الجور في الري يحدّ من قدرة الأنهار، على نقل الطمي والرواسب الخصبة.
• استخدام الأنهار ومجاري المياه العذبة، لتصريف المياه الصناعية الملوّثة والمياه الآسنة.
• في معظم البلاد العربية معالجة مياه الصرف الصناعي والصحي هي إما ضعيفة أو لا وجود لها على الإطلاق.
يضاف إلى هذا ما سلف ذكره عن زيادة ملوحة المياه الجوفية، أو حتى جفافها، بسبب عدم الموازنة بين ما يُسحَب من المياه، وما يتجدد من كميات تضاف كل سنة إلى الخزان الجوفي. فإذا أدى سحب المياه إلى عجز في هذا الميزان، فإن المياه الجوفية ستزداد ملوحة مع مر السنوات، وقد يصل بها الأمر إلى الجفاف.
الاتجاه إلى الأسوأ؟
تشير تقارير كثيرة، إلى أبعاد أزمة المياه في المنطقة العربية. وتبيّن أرقام هذه التقارير، تصاعد الأزمة منذ بداية القرن الواحد والعشرين. فالتقرير العربي الاقتصادي المشترك 2001 (The Joint Arab Economic Report JAER, 2001) الذي يصدره صندوق النقد العربي، أكد قبل 13 سنة، أن المنطقة دخلت فعلاً في مرحلة من “الفقر المائي”، وأن هذا كان، في زمن صدور التقرير، أسوأ وضع في مناطق العالم على الإطلاق، استناداً إلى معدل كمية المياه المتجدّدة للفرد في السنة. وقدّر التقرير مقدار المياه المتجدّدة التي تحصل عليها البلاد العربية من مصادرها المختلفة، بما مجموعه 265 مليار متر مكعّب في السنة، أي نحو 1000 متر مكعّب للفرد. كان المعدل العالمي للفرد في السنة تلك، سبعة أضعاف ما يحصل عليه المواطن العربي من المياه. وتكهّن التقرير منذئذ، بأن معدل حصة الفرد العربي من المياه سنة 2025، سينخفض إلى 460 متراً مكعّباً في السنة، أي دون حد الفقر الأشد بالمعايير الدولية المعتمدة. والأسوأ من هذا أن المعدل المذكور سيكون صحيحاً إذا كانت المياه المتوافرة آنذاك صالحة للشرب والخدمة. وهو أمر غير مضمون.
وفي تقرير آخر، هو تقرير التنمية البشرية الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة للتنمية (Human Development Report of UNDP 2006) سنة 2006، أن كثيراً من مصادر المياه العربية تقع بعيداً عن مكان الاستهلاك، وهذا يجعل تخزين المياه ونقلها، باهظي الثمن، إلى درجة جعل هذه المياه غير قابلة اقتصادياً للشرب أو لري الزرع، أو حتى للاستخدام الصناعي. ويؤكد هذا التقرير، بعد سنوات خمس من صدور التقرير السابق، أن مشكلة المياه في البلاد العربية تتعاظم مع هبوط معدل حصة الفرد نحو الربع، ويتفق مع التقرير العربي الاقتصادي المشترك، على أن هذه الحصة ستنخفض نحو 500 متر مكعّب، في السنوات المقبلة. وسيعاني %90 من السكان شحّ المياه. وفيما تضاءلت مشكلة المياه في العالم بسرعة نسبية بين سنتي 1990 و2004، كان تضاؤلها في العالم العربي هو الأبطأ. وفي السنوات الآتية لن يكون في وسع كثير من السكان العرب، أن يحصلوا على 1700 متر مكعّب في السنة، فيما ستحصل الكثرة الغالبة على أقل من 1000 متر مكعّب.
تقرير ثالث للجنة الاقتصادية الاجتماعية لغرب آسيا “الإسكوا” (United Nations Economic and Social Commission for Western Asia – UN ESCWA) يقارن بين مستويات شدة المشكلة في أربعة بلدان عربية آسيوية، متفاوتة الوضع. ويصنّف التقرير البلدان في أربع فئات، وفقاً لشدة المشكلة، بين «خفيفة» و«قوية» و«جدية» و«حرجة».
في الفئة الأولى أربعة بلدان تواجه مشكلة «خفيفة»، وبلدان اثنان مشكلتهما «قوية»، وخمسة في فئة المشكلة «الجدية»، واثنان هما الإمارات العربية المتحدة والكويت، مشكلتهما «حرجة».
الطعام والمياه الافتراضية
جاء في تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “فاو” (UN Food and Agriculture Organization FAO) أن حاجة الفرد العادي اليومية من مياه الشرب، أكان يشربها أو يحتاج إليها في طهو طعامه، تتراوح بين لترين وخمسة لترات. أما غذاؤه، فيحتاج في اليوم الواحد إلى ما يتراوح بين 2000 و5000 لتر. ذلك أن الخبز الذي يأكله، استهلك في زرعه وتحضيره كثيراً من الماء، وقل كذا في الخضار التي يتناولها، ومقدار الماء الذي تحتاج إليه لتنبت. كذلك اللحم الذي يتناوله، استُهلك ماء كثير في سقاية الماشية التي أنتجته… وهكذا. أي إن الغذاء يستهلك من المياه 1000 ضعف ما يستهلكه شرب الماء.
وجاء في التقرير أيضاً، أن الطعام إذا كان سيزداد طلبه بين سنتي 2025 و2030، بنسبة %50 على ما هو الآن، (يقدر تقرير «الثورة الزرقاء» نسبة الزيادة بنحو %40 حتى 2030) بسبب زيادة تعداد سكان الأرض، والنمو الاقتصادي الذي يتبعه إقبال على مزيد من الاستهلاك، فهذا يعني أن الكرة الأرضية بحاجة إلى كمية ماء إضافية تبلغ 1000 كيلومتر مكعّب، أي ما يوازي 20 مرة نهر النيل.
في هذا الأمر قدّر تقرير «الثورة الزرقاء» أن إنتاج طن من لحم البقر، يحتاج من المياه إلى 16,726 متراً مكعباً، وطن الجبن 5,288 متراً مكعباً، وطن الدجاج 3,809 أمتار مكعّبة، وطن البيض 3,519 متراً مكعباً، وطن الأرزّ 2552 متراً مكعباً.
صحيح أن البلاد العربية التي تعدّ من أكثر البلدان اعتماداً على الاستيراد في غذائها، تستورد كثيراً من حاجتها إلى مياه الزراعة، من خلال “المياه الافتراضية” التي تحملها المنتجات الغذائية المستوردة، غير أن هذا يعني، أن البلاد العربية التي تعاني مزيداً من الشح المائي، ستعاني كذلك نوعاً من الاعتماد الكامل أو شبه الكامل على الخارج في توفير الغذاء.
ما هي المياه الافتراضية؟
حين تزرع بلاد ما الحبوب والخضار والفاكهة التي يستهلكها شعبها على موائده، فإنها بحاجة إلى استهلاك كميات كبيرة من المياه، في هذه الزراعة. كذلك تحتاج تربية المواشي والدواجن إلى مقادير هائلة من الماء حتى تصبح صالحة لاستهلاك لحمها. فالزراعة وتربية المواشي هي المستهلك الأكبر للمياه، بين الفئات الثلاث الكبرى: الزراعة، والحاجات المنزلية، والصناعة.
أما إذا استوردت هذه البلاد نسبة معينة من الأغذية، من مزروعات أو لحوم أو أغذية أخرى، مثلما يفعل معظم البلاد العربية، إن لم نقل كلها، بسبب شح المياه التي تحتاج إليها المزارع، فإنها كمن يستورد، مع اللحم والفاكهة والخضار المستوردة، كمية المياه التي استُهلكت لإنتاجها. وهذا ما بات يسميه خبراء الاقتصاد والزراعة: «المياه الافتراضية» (virtual water).
وقد جاء بهذه التسمية البروفيسور البريطاني جون أنطوني ألان، من المعهد الملكي في لندن، وكلية الدراسات الشرقية والإفريقية. فهو يقول إن بلدان الشرق الأوسط يمكن أن تعوّض نقص الماء لديها، وتوفّر المياه الشحيحة المتاحة لها، بزيادة الاعتماد على استيراد الغذاء. وقد حاز بفضل نظريته الاقتصادية هذه جائزة استوكهولم للمياه 2008.
وتسمّى المياه في هذه الحالة «افتراضية، لأن القمح حين ينضج، فإن المياه التي استُهلِكت في إنتاجه، لا تعود موجودة فيه».
ومن البديهي أن كثيراً يرفضون نظرية ألان؛ لأن الاعتماد على استيراد المياه الافتراضية، واتخاذ هذا الاعتماد سياسة رسمية، يعني من ناحية أخرى الاتجاه نحو إهمال تطوير الموارد المائية والزراعية كليهما.
لكن النظرية مفيدة لا شك في تسليط الضوء على هذه العلاقة الوثيقة بين الماء والاكتفاء الذاتي، في العالم العربي.
قضية تسعيره عالمياً
غالباً ما يفتقر الناس إلى حافز للاستخدام الاقتصادي للماء، لأن الماء بلا ثمن، أو أن ثمنه أرخص بكثير من أن يكون حافزاً للتوفير. هذا مع أن تكلفة الماء عالية، وهي تتضمن الطلب ومعالجة المياه وتكلفة النقل من المصدر إلى المستهلك. ومع ذلك، فإن القاعدة العامة في العالم، هي أن الهيئات التي توفر الماء للمواطنين لا تسعّره تسعيراً يغطي حتى التكلفة الأساسية للتشغيل والصيانة. والواقع أن ثمة حاجة إلى آليات جديدة، مثل استعادة التكلفة الكاملة، أي أن يتضمن ثمن الماء صراحة أو ضمناً تكلفة البنية التحتية والصيانة وتكاليف الحصول على الماء وإدارته. فمن أمثلة الإدارة غير المجدية للماء، أن مداخيل سلطة المياه في نيودلهي، تقل عن %20 مما تنفقه البلدية كل عام لتوفيرها.
كبار المستهلكين
لقد بدأت الحكومات في اتخاذ إجراءات لتحسين إدارة توفير الماء، ومنها زيادة التسعير لكبار المستهلكين. ففي البرتغال، زادت الحكومة سنة 2008 سعر الماء للشركات الزراعية والصناعية. وفي الصين، في يونيو 2012، أعلنت الحكومة أنها ستزيد سعر الماء للصناعة المستهلكة لكثير من الماء، وتشجع استعمال المياه المعادة معالجتها. كذلك تسعّر سنغافورة الماء، بما يناسب قلة توافره (المصدر: KPMG).
وفي تقرير أصدرته «أوراكل كورب» في أكتوبر 2012، ورد أن هدر المستهلكين للماء هو العقبة الأساسية التي تحول دون تلبية الطلب المتزايد. وأشار التقرير إلى أن %49 من المشاركين في استفتاء في الموضوع، أجابوا بأنهم يرون الحاجة إلى سياسة تسعير أفضل من أجل حث المستهلكين على حفظ المياه، ووقف هدرها.
إن تسعير الماء تسعيراً مناسباً، يزيد الحوافز على استعمال الماء استعمالاً حكيماً، ويؤدي إلى استعادة قطاع الماء تكاليفه، ويحسّن الاستدامة الاقتصادية لنظم الماء في المدن. وهو مفيد من جميع وجهات النظر إلى الموضوع. وقد يكون مفيداً أيضاً لدى المجتمعات الفقيرة التي لا تصل إليها المياه البلدية، وتضطر إلى شراء الماء من مصادر أخرى، وهو في الغالب أعلى ثمنا.
ما هي الحلول إذن؟
إن العالم العربي يبقى أمام واحد من أمرين: استيراد الغذاء، ومعه المياه الافتراضية، والوقوع في أسر الحاجة إلى الاستيراد، وعدم القدرة على حماية أمنه الغذائي، أو مواجهة حالة نقص شديد في موارد الغذاء، لقلة الماء المتاحة له في مجال الزراعة. ناهيك عن أزمة الماء الحقيقي، لا المياه الافتراضية فقط.
هل من حل سحري، لهذه المعضلة؟
العناصر التي تمكن البلاد العربية من حل معضلة المياه المتعاظمة، موجودة بوفرة، وتحتاج إلى حُسن دراية وإدارة. فمصادر الطاقة النفطية متوافرة في هذه البلاد أكثر مما تتوافر في أي منطقة أخرى من العالم، والبلاد العربية في نطاق من الكرة الأرضية يتلقى مقادير هائلة من الطاقة الشمسية، وهي تمتد على شواطئ طويلة للغاية. فالمغرب وموريتانيا يطلان على المحيط الأطلسي، وكل الجانبين الجنوبي والشرقي من البحر الأبيض المتوسط، تطل عليهما بلاد عربية. والبحر الأحمر عربي من ضفتيه الشرقية والغربية، وبحر العرب تطل عليه اليمن وعمان، أما الخليج العربي، فتطل عليه كل من الإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين والمملكة العربية السعودية والكويت. ولا ينقص لحل معضلة المياه أي من العناصر الأساسية.
فحين يجتمع الماء، ولو مالحاً، مع مصادر متجددة من الطاقة، لا يعود ينقصهما سوى المشاريع التي تتسم بالنظرة الاستراتيجية البصيرة، والإدارة المدركة لخطورة الأزمة والحاجة الملحّة إلى حلها.
يقول تقرير التنمية البشرية العربية 2009، إن البلاد العربية ولا شك، بذلت جهوداً كبيرة لتوفير مياه الشرب ومياه الاستخدام الاقتصادي لمواطنيها. ونتيجة لهذه الجهود، زادت نسبة تلبية حاجة الشعوب العربية من %83 في سنة 1990، إلى %85 في سنة 2004، مع أن التعداد البشري لهذه الشعوب، زاد من 180,1 مليون، إلى 231,8 مليون في السنوات نفسها. ويتابع التقرير أنه على الرغم من عدم وجود حلول سحرية لمشكلة قلة المياه الخطيرة المتعاظمة، فإن الدراسات وضعت بعض الخطوط العريضة للخطوات التي يمكن اتخاذها لتخفيف الخطر الداهم. وتتضمن هذه الخطوط، ما يلي:
1. تحسين توزيع نسبة المياه المخصصة لكل من القطاعات الثلاثة: الزراعة، والصناعة، والاستخدام المنزلي.
2. اعتماد استراتيجية إنتاج مياه مناسبة تؤدي إلى استيراد المياه، بواسطة المياه الافتراضية.
3. معالجات شاملة ومتكاملة لإدارة وتخطيط العرض والطلب في مجال المصادر المائية.
4. تعزيز القدرة الإنتاجية والارتقاء التقني، لدى جميع الأطراف المساهمة في قطاع الماء.
5. تعزيز الوعي على كل المستويات، بدءاً بالمستهلكين، انتهاء بأصحاب القرار.
6. إصدار وتطبيق سياسات مائية مستدامة، مؤسسة على المعلومات والأبحاث المائية، المتوافرة الآن والمتوقعة في المستقبل.
7. تطوير نماذج إدارة الموارد المائية التي يمكن أن ترسم خططاً افتراضية لمختلف الحلول الممكنة، من أجل اختيار المعالجة المناسبة.
ولا يغيب عن البال، أن تشكيل المؤسسات الإقليمية المتخصصة في هذه المشكلة، وتعاون الدول العربية فيما بينها، لوضع الحلول المشتركة، لا سيما حين تتشارك بالأنهار وخزانات المياه الجوفية، أمور ضرورية. ولا شك في أن تشابه المناخات وتقاربها، بين هذه البلاد، يتيحان تماماً الاستفادة من تجاربها استفادة جماعية، فالمشكلة مشكلة مصير، وهي ما عادت تحتمل التأجيل أو التباطؤ في المسارعة إلى حلها.