قد لا يكون سوما مُصمِّمَ أزياء عالميًّا، أو يملك داراً للأزياء ويعرفه القاصي والداني، لكنه شخصية مثيرة للتذكر والتساؤل. له قناعاته الخاصة وموهبته التي لا يباريه فيها إلا القلة. وبالرغم من ذلك اتخذ لها مكاناً في حي بسيط في العاصمة الرياض، لا يغادره إلا في زيارته السنوية لبلاده. بين المقص والإبرة، وبين صوت ماكينة الخياطة وقصص الزمن الجميل، ترسم عبير الفوزان شخصية رجالية تحيك فساتين النساء ببراعة واقتدار منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
عندما يتردد اسم سوما بإعجاب في بعض المجالس النسائية في مدينة الرياض، فلا بد أن يستحضرن وصف مكانه ولوحة محل الخياطة التي لم تتبدل منذ أكثر ثلاثين عاماً. في شارع العشرين المتشعب من حي منفوحة يقع محل «الخياط السعودي» الذي يعمل فيه سوما كمعلم للخياطة منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
لم تكن قصة سوما في محل الخياطة من قصص النجاح التي تنمو تصاعدياً، فتزدهر من محل صغير لا تتجاوز مساحته أربعة أمتار في ستة أمتار إلى محل أكبر، ومن محل في شارع العشرين في منفوحة إلى منطقة أكثر جدة ورقياً. لقد ظل سوما كما هو، فنجاحه البسيط كان مقنعاً بالنسبة إليه. فهو بالرغم من اعتداده بنفسه، وثقته بعمله إلا أنه لا يتكيف بسهولة مع الأماكن والأشخاص، فالصبيان الذين كان معلمهم أصبحوا معلمين، إلا أنهم ظلوا معه يديرهم ويدير كهولتهم! حتى زبائنه القدماء لهم من الود مساحة لا يطغى عليه زبون جديد مهما كان. لذا فإن مكانه في منفوحة ظل كما هو منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
من المفارقات أن الخياط الهندي سوما يسكن منفوحة، الآن، متعايشاً مع مكان سكن الشاعر الجاهلي العتيد الأعشى. وكما أتقن شاعرنا الأعشى نظم القصيد، فإن سوما أتقن نظم الخيط في الإبرة، وأبدع مهنة خياطة الملابس النسائية. ومن المفارقات، أيضاً، أن الأعشى كان يعاني ضعفاً في البصر، وكذلك هو سوما الذي يرتدي نظارة طبية بإطار ذهبي ليتغلب بها على ضعف بصره الذي لم يعقه عن إتقان عمله. ومن المفارقات أن سوما ذا الديانة المسيحية يفكر كما فكر الأعشى في الدخول إلى الإسلام، وبالرغم من أنه لم يدخل الإسلام إلى الآن إلا أنه يصوم شهر رمضان!
إن حي منفوحة الذي يضرب به المثل، الآن، في فقره وفقر طبقة سكانه، حيث يجمع طبقة من العمالة والبسطاء يبدو للمتبصر مكاناً يجمع تاريخ المتناقضات المغموس بالإبداع. لذا، ربما هذا ما جعل سوما لا يغادره بالرغم من قدم شوارعه، وتهالك مبانيه، ورحيل زبائنه.
من الثمانينيات الميلادية
في أوائل الثمانينيات الميلادية كان لسوما كل الوهج، فمن يقم سوما بتفصيل مريولها بمقصه الفضي ستكن أكثر الطالبات أناقة، ومن يدرز سوما فستانها بماكينته ستكن أكثر السيدات حظاً، فلقد كانت أسعاره بالنسبة لبقية الخياطين، في ذلك الوقت، مرتفعة جداً. كما كانت مواعيده تطول فتصل إلى عشرين يوماً أو شهر لينتهي الفستان أو التنورة أو أي قطعة ملابس! بينما زبوناته لا حيلة لهن، في ذلك الوقت، من أن يجادلن أو يترجين سوما لينتهي من فستان إحداهن لأنها سترتديه لتحضر حفلة عرس أو مناسبة عيد. لقد كانت كلمته الأولى لا تُثنى ولا ترد. فهو حازم، صارم، والخطأ لا مكان له في قاموس عمله. يملك هذا الخياط العتيد شخصية معلم وناقد. يثق بعميلاته ويثقن به. فمن تشتري قماشاً يصل سعر متره إلى ألف ريال لا تثق إلا بمقص سوما الذي حالما يرى القماش ويتلمسه ويقلِّب وجهيه ليرى نوعيته حتى يقول لها إنه هو من سيفصله ويقوم بخياطته، ومن ثم لن يركن إلى أحد من الصبيان في المحل ليقوم بمساعدته. هنا تتنفس الزبونة الصعداء وتثق بأن قماشها الغالي بين أيد أمينة. فسوما العارف بخفايا الأقمشة، لا شك في أنه سيبدع في التنفيذ وسيشارك في التصميم الذي اقتنصته هي من مجلة أزياء فرنسية.
سوما المبدع والمصمم
يؤمن سوما بأنه في آخر لحظة قد ينتج عملاً مبدعاً، وأن إتقان العمل من ضرورات مهنة الخياطة، لذا كان عمل سوما دائماً في الطليعة، مبهراً بالنسبة لزبوناته اللاتي يتناقلن أخباره وإتقانه، وكيف يخترع من بقايا القماش قماشاً آخر، وكيف كان يعرف أسعار الأقمشة وما يناسبها من موديلات؟! في طفولتي كنت أتخيل أن تفصيل الفستان وخياطته يستغرقان وقتاً طويلاً، ولم أكن أعلم، وقتها، أن الزمن الذي يستغرقه سوما في خياطة مريول مدرسي لا يتجاوز الزمن الذي تقضيه النساء في طبخ كبسة الأرز! لم أكن أعلم أن المواعيد البعيدة لا تعني أن العمل يحتاج كل هذه الأيام، بل إننا نقف في طابور طويل لنحصل على ما نتمنى أو نريد، لنكون متميزات، وربما أتيناه من أماكن بعيدة رغبة في ذلك الإتقان الذي يجيده سوما.
في ذلك الزمن الجميل والبعيد جداً حيث محلات الخياطين تنتشر في شوارع الرياض، كان الفارق في الأناقة يكمن في «من الخياط؟!» تماماً كما يحدث الآن في «من المصمم؟!» بالتأكيد لم يكن سوما كارل لاغرفيلد مصمم دار شانيل ولا سارة بروتون مصممة دار الكسندر ماكوين، لكنه يملك من البراعة ما يجعله قريباً منهما، لكن هي الظروف وعشقه لمكان يبدو غريباً بالنسبة لطموح مبدع جعل من سوما في الوقت الحالي ذلك الخياط المقلد حد الإبداع. لقد تراجع من كونه مساعداً في التصميم إلى خياط يقلد فساتين أشهر دور الأزياء العالمية. تراجع من الإبداع إلى الإتقان، وأصبح في جدول مواعيد التسليم لديه مساحات فارغة، وخف الوهج كثيراً، وضعف بصره أيضاً. إن طفرة الأزياء، والأسواق، وانتشار دور الأزياء العالمية، والزمن، جعلت سوما يتراجع من الخياط رقم واحد إلى خياط يسكن منفوحة، فيرضخ، غالباً، خلافاً للسابق، لطلب زبوناته عندما يردن منه أن يستعجل في تنفيذ فساتينهن التي هي صورة مقلدة من فستان لمصمم عالمي. لقد شارف سوما على الكهولة، وفقد الكثير من إصراره وحزمه وعناده، لكن لم يتغير مكانه وإتقانه.