يعتقد كثير من الناس، خصوصاً من خارج الوسط العلمي، أن المعرفة العلمية يمكن الحصول عليها من الكتب، أو الجلوس على مقاعد الدراسة أو العمل داخل المختبرات. وهذا صحيح إلى حدود معينة. لكن إذا توافرت هذه الشروط لأي مجتمع، فلا يعني ذلك، على الإطلاق، أن هذا المجتمع أخذ يمتلك المعرفة العلمية. نعم، هي شروط ضرورية، غير أنها ليست كافية. فمن الشروط الأخرى والحيوية الواجب توافرها، تجديد هذه المعرفة بالاكتشافات. المعرفة العلمية ليست شيئاً جامداً. إنها صيرورة، تتم عبر عملية مستمرة وتفاعلية، اجتماعية داخل البلد الواحد من ناحية، وتاريخية عبر التفاعل مع الحضارة البشرية جمعاء من ناحية أخرى.

الحاجة إلى المعرفة
والمعرفة العلمية لا تنشأ في فراغ، إذ يسبقها حاجة اجتماعية ملحة. هذه الحاجة تدفع وتشجع الأوساط المعنية للوصول إليها، كما إنها تشكِّل لها البيئة الحيوية لنموها. والقطار مثال واضح على ذلك، فقد نشأت في البدء الحاجة إلى نقل الذهب الخام من وإلى المناجم في ألمانيا في أواسط القرن السادس عشر، فطوّر علماء ومهندسو ذلك العصر العربات المتصلة، وكانت تجر بواسطة الحيوانات أو البشر جرياً على ما كان يفعله الإنسان منذ القدم.

ثم تطورت الحاجة، فمع صعود الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر وما أعقبه، ونشوء السوق بفعل التبادل المتوسع للسلع المصنعة، والمنافسة الضروس بين مختلف المنتجين، حَتَّم التفكير الملح تطوير وسائط نقل غير معهودة، إذ من شروط المنافسة، التسابق في الوصول إلى المستهلكين قبل الآخرين، والتوسع في إيجاد أسواق جديدة.

في تلك الفترة المحمومة في أوروبا، والتي شهدت ليس فقط الثورة الصناعية، بل ثورات فكرية وعلمية وثقافية وقانونية وفنية شملت مختلف مجالات الحياة، اخترع «توماس نيوكومن»، وهو تاجر حديد وخردوات، في بداية القرن الثامن عشر، المحرك البخاري. وظهر نتيجة ذلك القطار البخاري. وفي أواخر القرن المذكور، اخترع المهندس السكوتلاندي «جيمس وات» المحرك الآلي مستنداً على الحاجة وعلى التوسع المتزايد والمتراكم في المعارف المتصلة.

التكامل المعرفي
علم الوراثة الحديث مثلاً، بدأ في منتصف القرن التاسع عشر، مع «غريغور مندل» من الإمبراطورية النمساوية، الذي قال إن: الوراثة هي جسيمات – معلومات تمر عبر حزم منفصلة غير قابلة للتعديل. في بداية القرن العشرين، استنتج كل من «ولتر ساتون» الأمريكي، و«تيودور بوفاري» الألماني، وآخرين، أن هذه الجسيمات الوراثية، مكانها في الكروموسومات.

ولاحقاً سميت هذه الجسيمات بالجينات، والتي لا تزال تسمى بها حتى اليوم. بعد ذلك، تبيَّن لـ «فريدريك غريفيث» البريطاني و«أوزويلد أفيري» الكندي، وآخرين كثر وفي اختبارات متعددة، أن الـ «د.ن.أ» في الكروموسومات هي من يحمل هذه الجينات الوراثية. ثم كان الاكتشاف الأحدث سنة 1953م بواسطة «جيمس واتسون» و«فرانسيس كريك» الإنجليزيان اللذين حددا شكل الـ «د.ن.أ.» بالحلزون المزدوج، وقدما شرحاً، مع آخرين كثر، للخطوط العريضة للوراثة المتعلقة بالبنية الجزيئية لـ «د.ن.أ.».

في وقت لاحق، من ستينيات القرن العشرين، بنى كل من «مارشال نيريمبيرغ» الأمريكي و«هنريتش ماتاي» الألماني على هذه النتائج العلمية لكشف الرموز الجزيئية التي تسمح لـ «د.ن.أ.» بترميز البروتين. لم يتوقف البحث هنا، فمنذ ذلك الوقت وفيضانات من الكتابات والدراسات والأبحاث تتعمق وتتوسع إلى حدود الخيال في هذه الجينة المتناهية في الصغر. وتسفر عن حقائق مذهلة فيما يتعلق بسلوكنا وبأشكالنا ومميزاتنا وكيف نتوارثها وماذا يؤثر فيها.

البعد الاجتماعي للمعرفة
المعرفة العلمية والاكتشاف العلمي ليسا عملاً فردياً، مهما لعب المكتشف من أدوار مهمة. وكثيراً ما يطرح السؤال الافتراضي التالي: لو أن أينشتاين ولد في منطقة نائية بعيدة عن الجامعات والأكاديميات التي انتمى إليها، هل كان توصل إلى النظرية النسبية؟ والجواب بالقطع كلا.