حظيت الكلمة التي ألقاها معالي الدكتور غازي القصيبي في ملتقى المثقفين السعوديين الأول، باهتمام بالغ في وسائل الإعلام وأوساط المثقفين الذين تابعوا نشاطات الملتقى، وذلك ليس فقط للمكانة المرموقة التي يحتلها القصيبي، المثقف والشاعر، بل أيضاً لما تضمنته كلمته. ولعل أبرز ما فيها مفهوم “ثقافة الثقافة” الذي أثار علامات تساؤل عند الكثيرين.
ما من شك أنه إذا حضر الدكتور غازي القصيبي في محفل ثقافي فإنه يشد الأنظار إليه باعتباره نجماً ساطعاً في سماء الثقافة العربية. مؤخراً لفت الدكتور غازي الحضور في ملتقى المثقفين السعوديين الأول إلى ورقته التي تناول فيها ما أسماه “ثقافة الثقافة”، وقال إنه هرب بها من الموضوع الأصلي الذي طلبه منه منظمو الملتقى وهو: “التنمية الثقافية ودور المثقف فيها”، وقد أشار إلى هذا الهروب في ورقته البديلة بشيء من الظرافة حين صرح أنه لا يعرف على وجه التحديد المقصود بالتنمية الثقافية “على أن هذا الخطب – المقصود خطب التنمية الثقافية – يهون عند الخطب الآخر: دور المثقف”.
وبعيداً عن إشكالات التنمية الثقافية ودور المثقف الذي تجنبه الدكتور ويفترض، من باب أولى، أن نتجنبه نحن، أزعم أن الدكتور غازي القصيبي اقترب من الغاية في ما أسماه “ثقافة الثقافة”. ذلك المصطلح الذي نام صاحبه ملء عيونه عن شوارده وسهر الناس جراه واختصموا وسيظلون، فيما يبدو، يتجادلون حوله أشهراً عدة، على خلفية أن مبتكره ليس شخصية ثقافية عادية، بل شخصية تتمتع بمرموقية فكرية وثقافية رفيعة. وباعتبار أنه يطرحه في مرحلة دقيقة من تاريخ الأمتين العربية والإسلامية على وجه العموم، وتاريخ المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص.
لقد بدا المثقف غازي القصيبي كالمستجير من رمضاء التنمية الثقافية، وهو الموضوع الذي ذكرنا أنه طُلب منه أن يتناوله في ورقته في الملتقى، بنار تفسير وتأطير “ثقافة الثقافة”. وهو ونحن خسرنا الأولى ولم نشف غليلنا في الثانية. لكن كالعادة كان هذا الخبير المحنك في جذب الناس إلى صوته الجسور أفضل من حمل إلى الملتقى مجموعة أسئلة لم يجب عنها، فهو، كما قال عن نفسه أقدر على طرح الأسئلة منه على تقديم أجوبة.
وإذا كان في هذا الاعتراف شبهة تواضع فإن فيه أيضا ما يجوز أن يكون تمهيداً للاعتذار عن احتمالات القصور في تعريف مصطلح “ثقافة الثقافة”. وبالتالي، تحمل هذه الورقة عبء بناء أركان هذا المصطلح واجتراح الحلول العملية المؤدية إليه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. تلك المجتمعات التي أدرجتها الورقة من دون طول تردد في قائمة من يعادي الثقافة، مصاحبة لمجتمعات غير عربية وغير إسلامية, لكنها مصنفة كعدوة للثقافة بمعناها الذي تعبت سطور القصيبي في تلك الورقة من تبسيطه أو مقاربته مع معطيات ونماذج ثقافية شائعة.
في المقابل فإن هناك قائمة المجتمعات التي تصادق الثقافة لأنها لا تعاني من مركبات نقص أو جنون عظمة حين تتعامل مع ثقافة الآخر. فالمجتمع صديق الثقافة عند القصيبي: “يأخذ بسخاء ويعطي بسخاء.. يقبل بمودة ويمنح بمودة.. ينتقي بثقة ويرفض بثقة”. وهنا، إذا شئتم، لا بد أن نتحفظ على إطلاق الصفات على المجتمع عدو الثقافة والآخر صديقها. فالأول الذي يجوز أن تكون لديه كومة موبقات في التعامل مع الثقافة لا يؤدي بالضرورة إلى خلو الثاني، المقابل له، من بعض هذه الموبقات.
فالمصالح والمطامع، تفرض شروطها الدقيقة والقاسية أحياناً على الثقافة، أياً كان المجتمع الذي تصدر عنه هذه الثقافة أو يتعامل معها. وقد قرأنا مؤخراً عن أحداث رقابية في مجتمعات متقدمة، لا تقل في موبقاتها عن ما يحدث في مجتمعات لا تزال ترزح تحت وطأة التخلف في ضرورات الحياة فضلاً عن رفاهياتها وترفها الحضاري.
أما إذا أردنا أن نمتحن مصطلح “ثقافة الثقافة” لنعرف كيف يكون قابلاً للتطبيق فإننا يجب أن نعرضه على محك المصالح السياسية والاقتصادية التي تتشكل على أساسها ثقافة المجتمع وقدرته على التحرك باتجاه معاداة الثقافة أو مصادقتها. فأنا أزعم أن العقائد التي تُجذر لمسار ثقافة أي مجتمع تتوارى أحياناً خلف المصلحة المبنية على تحقيق مزيد من المكاسب والسيطرة على مقدرات مجتمع من المجتمعات.
ولذلك قد نظلم المجتمع المتأخر ثقافياً، أو المجتمع الذي تغيب عنده فرضية “ثقافة الثقافة” إذا جردناه من أسباب ضعفه وهوانه التي فرضها عليه الآخر القوي، صديق الثقافة ربما، وحرمه جراء ذلك من أن ينتمي إلى مثالية الثقافة التي امتطاها هذا القوي وصنف الناس على أساسها، كما صنفهم سياسياً واقتصادياً بين أوليين لديهم الحد الأعلى الثقافي وثالثيين لديهم الحد الأدنى، وآخرين، غالباً في جنوب العالم، تحت خط الفقر الثقافي.
ثم إن المجتمعات في عالم اليوم، وهو ما قد يكون فات ورقة “ثقافة الثقافة”، لم تعد بمعزل عن محيطيها البعيد والقريب، ولذلك، فإنه لا يتاح لها أن تمارس طبعها الثقافي الخاص. فالمجتمعات في وقتنا الحاضر تتشكل من مجاميع ثقافية متعددة المشارب والغايات. ويعني هذا أن ما يريده مجتمع لذاته من أنواع الثقافة لا يملك تحقيقه بالمطلق كما يملك إلى الآن، على سبيل المثال، قراره حيال من يسمح له بدخول البلد بإعطائه تأشيرة دخول أو منع هذه التأشيرة عنه إذا لم يكن مرغوباً به. فأشكال التكون الثقافي والعبور إلى المناخات الثقافية المتعددة والمتغايرة أصبح يسيراً تحمله الرسائل التي تمر من فوق رأس الرقيب دون أن يملك القدرة على إيقافها.
وبالتالي قد نأمل بتحقيق “ثقافة الثقافة” الآن أكثر من السابق، من غير أن نضع تصنيفاً للمجتمع الذي يكفر بها والآخر الذي يعتنقها. المسألة من وجهة نظر مراقب أصابه شيء من القدم في الرقابة تحتاج إلى أوراق متعددة معمقة، بحيث لا يتم اختزالها في رؤية شخصية تغلفها روعة الطرح والأسلوب الذي كتبت به. كما يجوز أن نعتبر أسئلة الدكتور غازي القصيبي في ورقته هذه مما يحث على أن ننظر إلى هذه المسألة المتشعبة نظرة المدقق الساعي إلى التفسير أكثر من التشخيص. فمصطلح ثقافة الثقافة الذي أثار كل هذا الحديث الثقافي يستحق كل عناء ليتبلور ويكون قابلا للممارسة، من غير أن أستثني أي مجتمع، متقدم أو متأخر، من ضرورة هذا التبلور وأهمية هذه الممارسة.