يقدِّم الروائي رفيق شامي في كتابه (ما أكبر حب الألمان لسلطة المكرونة)، الذي نشرته دار نشر (دي تي في)، ميونيخ، 2011م، عشرين حكاية، أو قصة قصيرة، تدور أحداث بعضها في دمشق، وبعضها في ألمانيا، والبعض الآخر يقارن بين العالمين. ولا يتضايق جمهوره الألماني إذا سمع شامي يتحدث بكثير من السخرية عن طباعهم، ويضحكون على أنفسهم، لأنهم يعلمون أنه إنما يسجل ما يراه، كما أنه يستخدم الصور النمطية في أذهانهم عن الشرق، ليضيف إليها أبعاداً أخرى، أي أنه لا يريد ترسيخ المعاني السلبية عن العرب، كما يعتقد بعض الناقدين العرب المفرطين في الحساسية، إنما يسعى إلى إضافة الكثير من الصور الإيجابية لهذه الصورة، أو إلى تنبيه الألمان أن يفكروا في عيوبهم، قبل الحديث عن عيوب غيرهم.
قبل أربعين عاماً جاء سهيل فاضل من سوريا إلى ألمانيا، وفي جعبته حكايات من حواري دمشق، أو (الشام) كما يحب أهلها أن يطلقوا عليها، ولذلك اختار لنفسه اسم (رفيق شامي). درس الكيمياء حتى حصل على الدكتوراة، وعمل في مجال تخصصه، لكنه سرعان ما قرر أن يتفرغ للكتابة، أو على الأصح للحكايات، التي يبدع في إلقائها على جمهوره، فيتفوق على مثله الأعلى (شهرزاد)، وتكتظ القاعات بمئات الأشخاص من مختلف الأعمار، ليسمعوا منه حكايات الشرق، ورؤيته لبلادهم، التي أصبحت وطنه الثاني، ويرفعونه على عرش الأدب فيها، ليكون ثالث أديب محبوب في ألمانيا.
سجل رفيق شامي حكاياته في قرابة الثلاثين كتاباً باللغة الألمانية، بيع منها أكثر من مليون نسخة، وترجمت أعماله إلى 24 لغة، انضمت إليها العربية في السنوات القليلة الأخيرة فقط، لأنه يرفض حذف أي جملة من كتبه، التي يفوق عدد صفحات بعضها الألف صفحة، مثل (الجانب المظلم للحب).
الضيافة عند العرب والألمان
في حكايته التي تحمل اسم (ما أكبر حب الألمان لسلطة المكرونة)، يتناول شامي اختلاف المفاهيم بين العرب والألمان حول الضيافة، فالعرب لا يقبلون أن يأتي الضيف بطعامه معه، ولا يخطر على بال امرأة عربية مدعوة لتناول الطعام، أن تقوم هي بالطبخ والخبز، على عكس الألمان الذين يرون أنه من الطبيعي أن يسهم الضيوف في إعداد الطعام، فيقل الحمل على صاحب الدعوة. ولكن ما يضايق رفيق شامي، هو أن الكثير من الألمان يأتون بأصناف محددة من الطعام، وعلى رأسها (سلطة المكرونة)، وهي عبارة عن مكرونة مسلوقة، وفوقها حبوب خضار البازلاء، وصلصة المايونيز، وقطع من لحم السجق، ويتوقع شامي أن السبب في إقبال الألمان على طهو هذا الصنف، أنه من السهولة، بحيث يمكن أن يعملها الضيف بيد واحدة، في حين يستخدم اليد الأخرى في تهيئة نفسه للخروج.
ويصف الكاتب الوضع في دمشق بكثير من المبالغة، فيقول إن الضيف يجوع طوال يوم الدعوة للطعام، لأنه يعرف أن أمامه اختباراً عسيراً، إذ لا يكفي أن يقول لصاحب الدعوة، إن الطعام لذيذ، بل لابد أن يثبت ذلك، من خلال التهام كميات ضخمة من كل صنف من الأصناف التي لا حصر لها، ولا تنفع أي أعذار للتوقف عن الطعام، فصاحب الدعوة جاهز للرد على كل الأعذار، باستخدام عبارات بليغة، تقضي على كل الحجج، من الشعور بالشبع، أو من الإحساس بالآلام في المعدة، وتوصد كل الأبواب أمام الضيف.
ويتوقع رفيق شامي أن تكون هذه العادات، قد جاءت من تأثير الصحراء على العرب، لأن إطعام الضيف الغريب هناك، كثيراً ما يعني إنقاذ حياة إنسان، لأن البدوي في الصحراء، يرى نفسه في كل ضيف يستقبله، لأنه يمكن أن يتعرَّض للموقف نفسه، فقد تهبّ ريح قوية، تقتلع خيمته، وتجعله يهيم في الصحراء، بلا زاد أو رفيق، فيكون في أشد الحاجة إلى من يرحِّب به، ويقدِّم له الطعام والشراب والمأوى، لذا يؤمن العرب بأن حق الضيف، إكرامه ثلاثة أيام، دون طرح الأسئلة عليه، لا من أين جاء، ولا إلى أين يريد الذهاب.
وذكر أن بعض القبائل العربية تحرص على إشعال النار أمام الخيام في الليل، حتى يراها الغريب في الصحراء، ويقصدها لينزل ضيفاً عليها، وإذا كانت هناك رياح تطفئ النار، ربطوا كلاباً خارج الخيام، حتى يسمع الضيف نباحها، ويشق طريقه إليهم في الظلام.
ويرى أن العرب الذين أصبح معظمهم يعيش في المدن، وتركوا حياة الترحال، ما زالت الصحراء في صدورهم، ولذلك بقي إكرام الضيف من العادات والتقاليد، التي يتمسكون بها، ويطبِّقونها بصورة ربما يراها الإنسان الغربي مبالغاً فيها.
ويقارن سلوك العرب والألمان في الحضور لدعوة الطعام، فالألمان يلتزمون بالموعد المحدد للدعوة، بل أنهم يأتون أحياناً قبل الموعد بربع ساعة، لأنهم وضعوا في حسبانهم احتمال وجود ازدحام في الطريق، فلما وجدوا المرور منساباً، وصلوا قبل الموعد.
ويشيد الكاتب بتواضع الألمان، في مسألة الطعام، فعلى العكس من العرب والإيطاليين والإسبان واليونانيين، الذين يشعرون أن طعامهم لا مثيل له، ويتكبرون على طعام غيرهم من الشعوب، ويتأففون منه، فإن الألمان، الذين لا يجيدون إعداد الطعام، مستعدون لتناول كل شيء، الطعام الياباني والصيني والإفريقي والأفغاني، «فإذا أعجبهم الطعام، فإنهم يقولون بعد 90 ثانية بالضبط من بدء الطعام: لذيذ هذا الطعام، هل يمكن أن أعرف الوصفة؟»
وعلى عكس وصفات الطعام الغربية، التي تكون مختصرة ودقيقة، فإن الطباخ العربي لا يستطيع أن يشرح ذلك باختصار، بل يبدأ من أيام جدته، وينتهي بأنواع من التوابل، لا تنبت إلا في قريته، ولم تشق طريقها إلى الغرب، ولا يوجد لها اسم باللغة الألمانية، وعلى عكس الطعام الألماني الذي لا يحتاج تحضيره إلا لدقائق معدودة، فإن الطباخ العربي مازال يتبع عادات القرون الوسطى، عندما لم تكن هناك ساعات يد، وكان الوقت بلا حساب، وليس من الغريب أن يستغرق إعداد صنف واحد من الطعام مدة يومين، ولا يأبه بالإيقاع السريع للحياة الحديثة.
ويسخر شامي من المصطلح الذي يستخدمه الألمان، حينما لا يستسيغون الطعام، فهم يقولون عندئذ، إن الطعام (طريف)، ويستغرب من أن اللغة الألمانية التي هي لغة الفلاسفة والأدباء، تقبل استخدام هذا المصطلح الغريب، فالطعام إما أن يكون لذيذا أو لا يكون، ولذلك فقد تحرى الأمر، وعرف أن هذا المصطلح عبارة عن نقد لاذع لكنه مبطن، لأنه يعني: «من الطريف أن يستطيع إنسان أن يصنع من هذه المكونات الرائعة، مثل هذا الطعام البشع».
ويقارن من جديد بين الطباع الألمانية والعربية، فيقول إن: الألمان لا يأتون في الوقت المحدد فحسب، بل يلتزمون بعدد الأشخاص المدعوين، فإذا كان عددهم خمسة أشخاص، فإنهم لا يزيدون فرداً، ولا ينقصون، وإذا حدث أي تغيير، فإن المدعوين يتصلون بصاحب الدعوة ويبلغونه قبلها بعدة أيام، ويسألون بأدب وخجل شديدين، إذا كان من الممكن أن يحضروا معهم شخصاً إضافياً، لاعتقادهم بأنه سيكون إثراء لهذه الأمسية، ويلتزمون بما يقوله صاحب الدعوة.
أما العرب فإنهم إذا قالوا إنهم ثلاثة أشخاص، وإنهم سيأتون في الساعة الثانية عشرة ظهراً لتناول طعام الغداء، فليس غريباً أن يفاجأ صاحب الدعوة بوصولهم في السابعة مساء، وأن تكون فرحتهم بالدعوة بالغة، بحيث قرروا أن يصطحبوا معهم بعض الجيران، وأبناء عمومتهم، وخالاتهم، وأزواج بناتهم، وأهم ما في الأمر، أنهم يعتبرون ذلك سراً عسكرياً، فلا يبوحون به لصاحب الدعوة، بل تأتيه المفاجأة على غير استعداد، لأنهم لا يرغبون أن يفسدوا عليه فرحته بكل هؤلاء الضيوف، بإبلاغه من قبل للاستعداد لهم.
ويضيف رفيق شامي إن العرب يأتون أحياناً على غير موعد، فتجد الباب يدق عليك، ثم ترى صديقاً ومن خلفه خمسة إلى عشرة أصدقاء آخرين، ولا يمكن لصاحب الدار، أن يفعل ما يفعله الألمان، ويسألهم: «ماذا حدث؟»، أو «إلى أين تتجه هذه الكتيبة الكبيرة العدد؟» أو «ألم تكن تستطيع الاتصال قبل الحضور؟»، بل تنفرج أساريره على مضض، ويرحِّب بهم بأعلى صوته، كما لو كان في انتظار هذه اللحظة السعيدة، حتى لا يقال عنه إنه بخيل، أو إنه لا يحسن إكرام الضيف، ويبدأ جميع أفراد بيته وربما الأهل والجيران، في معركة إعداد الطعام، لإنقاذ الموقف، ولإطعام الضيوف بشتى الأصناف، ولا يهم حجم التعب والإرهاق اللذين سيصيبهم، المهم أن يشعر الضيوف بالرضا والسعادة، وأن يحفظ الجميع ماء وجه صاحب البيت.
ويختتم الكاتب قصته بالمثل العربي القائل: «من عاشر القوم أربعين يوماً، صار منهم»، ويضيف إنه بدأ يشعر بأن بعض طباعه تغيَّرت، وأن كائناً غريباً يسكن داخله، فقد أصبح يخرج قبل الموعد، ويصل إلى محطة الباص أو القطار قبل وصولهما، لأنهما لا ينتظران الركاب، ولا يأبه السائق للشخص الذي يشير إليه طالباً الانتظار، وفتح باب الباص بعد أن غادر المحطة، كما انتبه إلى أنه ما عاد يتضايق أن يأتي الضيوف ببعض الهدايا أو الأطعمة معهم، إلا أنه مازال مصراً على رفض (سلطة المكرونة).
(مأدبة الجثمان)
في هذه القصة القصيرة لا يتعرَّض رفيق شامي إلى العرب، بل يحكي ما حدث لصديق له اسمه يوسف، جاء إلى ألمانيا في عام 1955م، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بعشرة أعوام فقط، عندما كان الألمان يرحِّبون بالأجانب القادمين لمساعدتهم على بناء بلادهم، وهذا ما حدث مع يوسف، فقد جاء أستاذه في الجامعة لاستقباله، ودعاه للبقاء عنده في البيت في الأسابيع الأولى، حتى تنتهي كل الإجراءات، ويحصل على بطاقة طالب من جامعة هايدلبيرج، ويحصل على غرفة في مبنى سكن الطلاب.
كان يوسف سورياً مسيحياً، ولا يعرف من اللغة الألمانية إلا القليل، ولذلك لم يكن يفهم الكثير مما يقوله أستاذه الجامعي، الذي دعاه مرة للنزهة مع أسرته، ولم يكن يوسف يدرك أن الألمان يحِّبون التنزه في منطقة المقابر، لأنها توضع في حديقة كبيرة، كلها أشجار وخضرة، وتكون القبور مصنوعة من الرخام، وحولها ورود وشموع، يهتم بها أهل الميت، ويبدِّلونها دوماً، لتظل مرتبة وجميلة، وكأن الموت يبعث السعادة في نفوس الألمان.
لكن يوسف مثل كل عربي يربط المقابر بالموت، لا بالتنزه والسعادة والضحك، وتذكَّر أنه كان يراهن أصدقاءه وهم صغار، من منهم يدخل المقابر، دون أن يشعر بالرعب، ويفرّ هارباً من هناك، ولذلك فإنه لم يفهم سلوك الأسرة المضيفة له.
وبعد أسبوع علم أن والدة أستاذه الجامعي، قد توفيت، فتأثر يوسف بشدة، ورغم أنه لم يرها ولو لمرة واحدة، فإنه كان بديهياً بالنسبة له أن يحضر الجنازة والدفن، فرحَّب أستاذه بذلك، ولكنه أراد أن يوضح للضيف العربي الطقوس الألمانية، لأنه رغم ديانته المسيحية، ليس بالضرورة يعرف ما يفعله المسيحيون الألمان مع موتاهم، فأخذ يشرح له كل صغيرة وكبيرة، والضيف العربي يستمع بإنصات، ورغم أنه لم يفهم الكثير مما سمعه، كان يومئ دوماً برأسه، ليوحي لأستاذه أنه يتابع كلامه، ويفهم كل حرف فيه.
إلا أنه انتبه إلى تكرار كلمة لم يسمعها من قبل، وهي (Leichenschmaus)، وهي كلمة مركبة من كلمتين، فأخذ يفتش في القاموس عن معناها، حتى لا يحدث سوء فهم، الكلمة الأولى وجدها بسرعة ومعناها (الجثمان)، أما الكلمة الثانية فقد جفت الدماء في عروقه عندما قرأ معناها، ولا تتفق مع الجزء الأول من الكلمة المركبة، لأن معناها (مأدبة).
تذكر فجأة أن أستاذه أبلغه أنه عاش سنوات في إفريقيا وفي آسيا وفي أمريكا اللاتينية، وخطر ببال يوسف أن أستاذه ربما يكون قد اكتسب بعض عادات القبائل هناك، والتي قد ترى أن تناول جزء من جثمان الميت، يجعله يستمر في الحياة في أجسامهم، وانتبه للمرة الأولى إلى الشبه بين أستاذه الجامعي، وبين مخرج أفلام الرعب الإنجليزي ألفريد هتشكوك، ثم تذكَّر أن المسيحيين في كل العالم، يحصلون من القسيس في نهاية القداس على كسرة خبز، وكانت كسرة الخبز هذه تقف في حلقه كل مرة، وتساءل عما إذا كانت أسرة أستاذه مقبلة على تناول قطعة من جثمان الميتة.
أخذ يفكر في كيفية التخلص من هذا المأزق، هل يكذب عليهم ويقول إنه شخص نباتي، أي لا يأكل أي نوع من اللحوم، لكنه تذكر أنه منذ يوم وصوله أكل معهم مرات كثيرة لحوماً مختلفة، وقرر أن يلتزم الصدق، ويخبرهم حين يأتي موعد تناول جزء من الجثمان، أن التقاليد العربية تمنع تناول لحم الميت، حتى ولو كان من الأقارب.
لكن مفاجأته كانت كبيرة، حين انتهت مراسم الدفن، ووجد الحاضرين يتوجهون إلى مطعم أنيق قريب من المقابر، وجلسوا جميعاً على مائدة طويلة، وأخذوا يتناولون الطعام العادي، ويتذكرون الفقيدة. وفجأة تذكر أستاذه أيام طفولته في الحرب العالمية، وحكى كيف كانت أمه تضعه في عربة الأطفال، وتذهب به إلى السوق، ولم يكن معها من المال ما يكفي لشراء الطعام، فكانت تسرق معلبات الخضراوات، وتضعها أسفل طفلها، الذي كان يشعر بالألم في ظهره، وهو الألم الذي رافقه العمر كله، كلما شاهد علب الخضراوات، انفجر جميع الحاضرين في الضحك، وأخذوا يتنافسون في ذكر الطرائف والفكاهات، والجميع في سعادة بالغة.
شعر يوسف بالخجل من نفسه، لأنه اعتقد أن الألمان يأكلون من لحوم موتاهم، واستغرب من هذه الطقوس الغريبة، التي تجعلهم لا يصرخون ولا يبكون ولا يرسمون التأثر الشديد على وجوههم طوال اليوم، بل يسعون من خلال هذه الدعوة، إلى توثيق العلاقة بين الأقارب، بحيث لا تؤدي وفاة أحدهم، إلى فقدان حلقة الصلة بينهم، وبدلاً من أن يجتمعوا على الحزن، يبقى الميت في أذهانهم مرتبطاً بهذه الطرائف التي عرفوها معه أثناء حياته.
نسى يوسف القصة، ونجح في دراسته، وأصبح مهندساً مرموقاً، وانقطعت أخباره عن الكاتب، حتى التقاه على غير موعد في محطة قطارات مدينة هامبورج، التي سافر إليها شامي لإلقاء محاضرة، فصمم على دعوته في منزله، فاستجاب شامي، ولما دخل بيته شعر بأنه في متحف شرقي، فالحائط مغطى بطبقة من أفخر أنواع الخشب، الذي جاء به يوسف من المغرب، والكراسي والطاولة من مصر، والوسائد ومفرش الطاولة والستائر من أقمشة الشام، وبقية القطع من تونس ولبنان واليمن.
ثم غيَّر يوسف ملابسه، وارتدى الثوب العربي التقليدي، وصنع القهوة بالهيل، ثم انطلق صوت فيروز من السماعات المختبئة في الحائط، وأخذ يشرح لصديقه المبهور بكل هذه الروح الشرقية الموجودة حتى في التفاصيل بالغة الدقة، قائلاً له إن سنوات ألمانيا، أثرت فيه بلا شك، وهذا ما يظهر على الأسوار الخارجية لبيته، لكن مادام المرء محروماً من العيش في وطنه، فليجلب وطنه إليه في غربته، خاصة وإنه مقتنع بأن الحياة ليست دائمة، بل هي رحلة تنتهي، على عكس الألمان الذين يقتلون أنفسهم في العمل، والاجتهاد، وكأنهم سيعيشون إلى ما لا نهاية.
مرت السنوات ومات يوسف، واجتمع الكثير من الأصدقاء والمعارف، الذين أحبوا فلسفته في الحياة، وواحته الشرقية داخل بيته الألماني، ووقف أحد أقاربه ليبلغ الحاضرين، أن يوسف كتب وصيته وهو على فراش الموت، وقال فيها إنه: عاش كعربي، ولكنه يريد أن يموت على الطريقة الألمانية، لا يريد أن تكفهر الوجوه، ويتقاسم الجميع الحزن، بل عليهم أن يحتفلوا بموته، وأن يقضوا وقتاً طيباً مع تناول الطعام اللذيذ، وهو ما فعله الجميع، فأكلوا كثيراً، وضحكوا أكثر، ثم مال أحد الحاضرين على رفيق شامي، وصاح بصوت عالٍ بلهجة بافارية، «ما أجمل هذه الجثة».
اختلف النقاد في ألمانيا في الحكم على رفيق شامي، فالبعض اعتبره مبدعاً لا مثيل له، والبعض الآخر يتهم أدبه بالسذاجة، والعيش في الماضي، واستغلال الصور النمطية عن الشرق، ليجتذب القارئ الغربي، ويفسر البعض هذا الاختلاف بأن الفريق الأول يحكم على رفيق شامي، باعتباره أديباً عربياً يستخدم لغة ليست لغته الأم، وأنه حلقة وصل بين الشرق والغرب، أما الفريق الثاني فيطبِّق عليه كل المعايير التي يطبقها النقاد على الأدباء الألمان، فيرون أن لغته الألمانية ليس فيها الإبداع المنتظر من أديب.
كذلك اختلف النقاد العرب في الحكم عليه، فالبعض يشعر بأنه غير وفي للعرب، يكشف عيوبهم ويتحدث بصورة سلبية عنهم، ولا يزور بلاده منذ أن خرج منها، وينتقد نظام الحكم البعثي في سوريا في كل مناسبة، والبعض الآخر يقول إن رفيق شامي، أدخل دمشق في قلوب الملايين من الألمان، وغيرهم من الدول التي ترجمت أعماله إلي لغاتها، وأنه يستخدم الصور النمطية عن العرب لدى الغربيين، ليبني فوقها صورة جديدة متعددة الوجوه، فيها أبعاد كثيرة، تهدم الصورة الأحادية التي في أذهانهم.
رفيق شامي المسيحي السوري، كان أول من هاجم بابا الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا، عندما تحدث بسلبية عن نبي الإسلام، محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويدافع عن القضية الفلسطينية في كل محفل، ويقول بعد كل هذه السنوات في الغربة، «فنجان قهوة في دمشق، يعادل ثروة المهجر». فهل آن الأوان لتشق كتبه طريقها إلى القارئ العربي؟