قد تبدو منحوتات الألماني، جورج بازلتز، سادية وهمجية، فهو بلا شك قد نال العقاب الذي يستحق منذ الستينيات الميلادية، إثر لوحته التي خدشت الحياء، وجعلت رجال الشرطة ينتزعونها من المعرض. لقد آن له الأوان، بعد مضي نصف قرن من الزمان، أن يرأف به عالم النقد، ويصفح عنه كرائد من رواد المدرسة التعبيرية المحدثة في الفن. سارة بدير تقتنص له صوراً ومنحوتات من معرضه الأخير، فهل سنصفق له أم نقلب الصفحة؟!
لوحات مقلوبة تثير الاستغراب، وأخرى تزج به خلف القضبان، وثالثة تكبد عشاق الفن عناء السفر، تلك هي طبيعة أعمال الرسام والنحات الألماني جورج بازلتز ذي الثلاثة والسبعين عاماً. قضى بازلتز خمسين عاماً وهو يحاول سبر أغوار عالم الرسم، وثلاثين عاماً وهو ينقب عن السر وراء جمال النحت. كان ولعه الشديد بالفن، منذ أن كان في العشرينيات، سبباً في جعله خليفة بيكاسو وأكبر نحات في زمننا الحاضر.
درس بازلتز خلال حياته الأكاديمية ما كان له بصمة واضحة على أعماله. فمن دراسة علم الغابات، أجاد فن التعامل مع الخشب بمهارة، ومن دراسة الغرافيكس والفنون، استطاع أن يضفي لمساته بثقة على أعماله.
لا يخط بازلتز خطاً دون أن يكون وراءه معنى يفوق الخط عمقاً وجمالاً. كل المعاني التي تتضمنها أعماله تدور حول فلسفة الوجود وكينونة الإنسان. فنرى منحوتاته ملطخة باللون الأحمر القاني لتحكي اجتثاث روح البشر تحت سياط التعذيب، ونرى المرأة تشابه في تفاصيل جسدها تفاصيل أشجار الغابات الفارعة، لتعكس فلسفة انبثاق البشر من قلب الطبيعة. وكذلك نرى لوحاته مقلوبة رأساً على عقب لتحكي حال الاضطراب الذي أصاب العالم بعد الحادي عشر من سبتمبر. إن لوحة أو تمثالاً واحداً من إبداع يدي بازلتز لكفيل بجلب اهتمام النقاد وأهل الفنون.
رأى أول أعماله النور في عام 1958م، والذي حمل تباشير خطه الفني الخاص. وما هي إلا سنوات قليلة حتى أقيم أول معرض لأعماله. أتى هذا المعرض بما لم يكن في الحسبان، فعوضاً عن أن يتلقّى التهاني على إنجازه، رميت عليه الانتقادات من كل صوب، ما أدى بالحكومة إلى سجنه للتحقيق في الأمر. لقد أثار غضب الجمهور وجود لوحتين رسمت فيهما المرأة بجرأة، لقد عجز غيره عن فهم جوهر اللوحتين وعمقهما فلم يروا فيهما سوى الابتذال.
كان لخلفية بازبتز الدينية التي نشأ عليها إيحاؤها الجلي على فكره المتمثل في فنِّه. الدين، والتاريخ والحضارة لعبت دوراً كبيراً في مسيرة أسطورة الفن والنحت الخالدة.
هذه المسيرة العريقة التي أبهرت الكثير كان حريًّا بها أن تكرم وتجمع في مكان واحد. في سبتمبر 2011م، خصص جانب من متحف باريس للفنون الحديثة لعرض أعماله. لقي المعرض إقبالاً كبيراً واهتماماً إعلامياً واسعاً. تكمن قيمة هذا المعرض في كونه ممهداً لافتتاح معرض المنحوتات الخاص به في شهر أكتوبر، من هذا العام والذي سيستمر إلى منتصف شهر يناير 2012م.
يمتاز هذا المعرض المقام في قلب العاصمة الفرنسية بضمِّه لنتاج ثلاثين عاماً، وهي حصيلة ما قام به جورج بازلتز من منحوتات فنية. من المتوقع أن يستقطب هذا المعرض، الذي ينطق جهاراً بلغة الفن، أنظار الخاصة والعامة. كل ما في هذا المعرض سيمثل مقولة بازلتز «حقيقة اللوحة لا تكمن بمادية وجودها، بل بما يكمن وراء ذلك ويصعب رؤيته».