تحول الماء في السنوات الأخيرة إلى قضية تشغل دول العالم بأسره. ولأن قضية الماء بالغة التأثير في حياة الشعوب واقتصاداتها، كما أنها بالغة التشعب من حيث المعطيات، فقد أصبحت مادة نقاش، يقرأها السياسيون والخضر ورجال الأعمال والمحللون، كلٌ من زاويته الخاصة، ويضع للجانب الذي يراه منها العنوان والحل المناسبين. وتتراوح هذه العناوين ما بين اتجاه العالم نحو شح في الماء والتحذير من اندلاع حروب بسببه.
واحدة من أفضل الدراسات التي ظهرت في الآونة الأخيرة حول هذا الشأن كانت تلك التي نشرتها مجلة “الإيكونوميست” البريطانية بعنوان “لا يُقدّر بثمن”، وتناولت فيها واقع الماء العذب في العالم، ننشر هنا ملخصاً لها، بإذن خاص من المجلة. ولأنه من الطبيعي أن تكون قضية الماء أكبر وأهم في البلدان التي تفتقر إليه أكثر من غيرها، خصّنا الدكتور عبدالرحمن الحبيب بقراءته لاستهلاك المياه في المملكة مركزاً على الري الزراعي وأهمية تحقيق التوازن بين الأمن المائي والأمن الغذائي.
1
نحو إدارة مختلفة للماء
نقلاً عن الـ”إيكونوميست”
الماء أكثر المواد شيوعاً وانتشاراً على سطح الأرض. لكن 97 في المئة منه ماء بحار، والماء المالح غير صالح للاستخدام البشري. ومن النسبة الباقية البالغة 3 في المئة، ثلثان مجمّدان في القطبين الشمالي والجنوبي. ولا يبقى من مياه الأرض إذن سوى واحد في المئة متاح ليستهلكه البشر. وهذا الواحد في المئة من مياه الكرة الأرضية يجب أن يكفي البشرية كلها. ففي دورة الحياة الطبيعية، يهطل ماء المطر من السحاب على الأرض ويغذي الحياة النباتية والحيوانية والبشرية. ويعود الماء عبر الأنهر إلى المياه المالحة في البحار، ويعاود التبخر ليرجع ماءً عذباً. ودورة تجدد المياه هذه مستمرة إلى ماشاء الله. غير أن ثمة عقبتين أساسيتين تعترضان وصول الماء إلى الناس. الأولى هي، في الغالب، توافر الماء في أماكن بعيدة عن الناس. وهذه الأماكن غير موزعة بالتساوي. ففي كندا والنمسا وإيرلندا، ثمة ماء يزيد كثيراً على حاجة السكان. وفي أماكن أخرى مثل أستراليا والصين والشرق الأوسط قليل جداً من الماء. وكثير من بقاع الأرض مثل الهند وبنغلادش يتلقى أمطاراً موسمية، فمياه السنة كلها تهطل في أشهر معلومة قليلة. ولأن الماء ثقيل الوزن، يكلف نقله مسافات بعيدة كثيراً من المال.
أما العقبة الثانية فليست طبيعية ولا جغرافية، بل إنها هدر الماء في الاستخدام البشري المفرط له. وينجم هذا الهدر عن رفض تصنيف الماء مورداً اقتصادياً يحكمه قانون العرض والطلب. فالماء، شرط الحياة، يجب أن يؤخذ على أنه أثمن ما نملك. ومع ذلك فقد أسيئت إدارته عبر التاريخ، لا سيما في القرن الماضي، وفي جميع الحالات جُعِلَ سعره أقل مما يجب على نحو مخيف. والحق أنه يوزّع مجاناً في معظم الأحيان. الأمر الذي يتضمن حضاً على سوء استخدام الماء في ما لا لزوم له من أغراض. وترى هذه الدراسة أن أفضل وسيلة لحل مشكلة الماء هي تسعيره سعراً أفضل يعبر ما أمكن عن تكاليف توفيره (بما في ذلك التكلفة البيئية) إضافة إلى أهميته.
الماء في السياسة الدولية
صار الماء في السنوات الأخيرة بنداً في السياسة الدولية. ولم يكن مؤتمر كيوتو (اليابان) الذي عقد في مارس من العام الماضي، سوى واحد من سلسلة مؤتمرات خصصت للبحث في مشكلة الماء. وأعلنت الأمم المتحدة عام 2003م سنة دولية للماء العذب. ووافقت قمة الأرض التي عقدت في جوهانسبرغ في أغسطس 2002م، على تقليص عدد البشر الذين يفتقرون إلى الماء النظيف والتصحاح إلى النصف حتى عام 2015م، (التصحاح Sanitation هو الوقاية الصحية بالنظافة والماء المناسب). واليوم يزيد عدد البشر الذين يفتقرون إلى الماء الجيد في البلدان النامية على بليون نسمة.. ويفتقر 2.4 بليون إلى خدمات التصحاح الأساسية.
وعندما يطرح تسعير الماء على بساط البحث، يعبر الخضر الناشطون عن معارضتهم للموضوع. ويرون أن تسعير الماء مسألة أخلاقية، لأن هذه المادة حيوية وعطاء من الله، وبيعها يشكل عاراً، كما أن التدخل في مسار دفق الماء، مثل بناء السدود يشكل كارثة بيئية. وهم يزعمون أيضاً أن استهلاك المياه يزداد حتماً بزيادة الدخل والسكان، وأن الأمر سيحتم تعاظم النقص، وسيؤدي حتى إلى حروب. وإلى ذلك يضيف هؤلاء أن العالم يسرع الخطى نحو شحّ الماء، وأن الإفراط في الاستهلاك المنزلي هو السبب.
فرضيات يسهل نقضها
لو بدأنا بالزعم الأخير، لقلنا إن العالم لا يتجه نحو شح الماء. ليس فقط لأن موارد الماء تتجدد بلا حدود في الدورة الطبيعية، بل أيضاً لأن استهلاك الماء لم يعد مرهوناً بنمو الإنتاج وتنامي السكان. فقد كان إنتاج طن من الصلب في أمريكا قبل سبعين سنة يستهلك 200 طن من الماء، أما الآن فلا يستهلك سوى 20 طناً (وفي كوريا نحو 3 أو 4 أطنان فقط). والاستخدام المنزلي يتحسن بدوره، لا سيما استعماله في المراحيض (بند الاستهلاك الأول). فمن ستة جالونات كانت تستهلك كل مرة قبل ربع قرن، هبط معدله الآن إلى 1.6 جالون كل مرة.
ويصعب لوم المستهلك في المنازل على نقص الماء. ذلك أن شبكات التوزيع العامة تسرّب نحو 50 في المئة من مجموع ما يضخ فيها. كما أن الري الزراعي في البلدان النامية يستهلك 75 في المئة من مجموع المياه المتاحة، وأحياناً نحو 90 في المئة. وفي البلدان الغنية تلعب الصناعة والطاقة هذا الدور في الاستهلاك الكبير للمياه.
وإن دخل الماء بالفعل عامل تجاذب في بعض الصراعات والحروب، فإن إدارته، لا سيما في الأنهار، تحتاج إلى التعاون، وكانت مرهونة دائماً بالسلام أكثر مما رهنت بالحرب. لقد نجحت الشراكة في مياه نهر الهندوس، بعد اشتباكات متكررة بين الهند وباكستان. وكان نهر الميكونغ في الهند الصينية موضع اتفاق وتعاون، رغم أن المنطقة التي يجري فيها كانت منطقة حرب. كما وقعت الدول العشر الواقعة على حوض النيل اتفاقاً في ما بينها رعاه البنك الدولي.
أما السدود التي يحيط بها جدل صاخب، فلا شك أن كثيراً منها قد شُيّدت من دون الاهتمام بآثارها البيئية. ولكن الرجوع إلى الحال الطبيعية التي يبشر بها بعض الخضر، فيتجاهل الدور الذي لعبته السدود كجزء من الحضارة الإنسانية منذ أن بدأت على ضفتي دجلة والفرات.
المشاريع الكبرى.. أنصارها وخصومها
ثمة هيبة ووقار في السدود العملاقة. فحين دشن فرانكلين روزفلت سد هوفر عام 1935م، قال مسحوراً “جئت، رأيت، وأُخذت”، في تلاعب لكلمة يوليوس قيصر الشهيرة “جئت، رأيت، وانتصرت”.
كان هذا السد أكبر مبنى اسمنتي في العالم آنذاك. وهو الأول في سلسلة سدود عملاقة شيدت لاحقاً في أمريكا منها سد “غراندكوليه” على نهر كولومبيا، و”شاستا” على نهر ساكرامنتو، وسلسلة سدود على نهري ميسوري وتينيسي، وسد وادي غلين فوق سد هوفر على نهر كولورادو.
وسارعت دول أخرى إلى الاقتداء بالنموذج الأمريكي. فبنت باكستان سد تريبلا على نهر الهندوس، وشيدت الهند سد باكرا في البنجاب وسد سارادا على نهر نارامادا. ولإسبانيا وسويسرا تاريخ طويل مع السدود الكبيرة، ولتركيا عدد من السدود العملاقة على نهر الفرات أشهرها سد “أتاتورك”، وهي تشيد المزيد الآن على نحو يضايق شريكيها في النهر، العراق وسورية، فبنت سورية سد “الأسد” على النهر نفسه، وبنت اليابان سدوداً على 90 في المئة من أنهارها. وتتباهى طاجكستان بأن لديها أعلى سد في العالم، كما تتباهى مصر بسدها العالي في أسوان. وتحتشد أمريكا الجنوبية بالسدود التي يتقدمها “إيتايبو” عند الحدود بين البرازيل والباراغواي وهو الأكبر في العالم حالياً. كما دخلت أفريقيا السوداء هذا المجال بسد “كاريبا” في زامبيا وسد “بوجاغالي” في أوغندا.
أما بطل العالم في السدود فهو الصين، إذ لديها نحو 22 ألف سد كبير، أي ما يوازي ما لدى بقية العالم تقريباً. وبعد الصين تأتي الولايات المتحدة (6600 سد)، ثم الهند (4300 سد) فاليابان (2700) سد. وفي الصين حدثت أكبر كوارث السدود في العالم، إذ إن انهيار سلسلة منها عام 1975م أدى إلى مقتل 230 ألف نسمة. وفي شهر يونيو من العام الماضي بدأت الصين ملء خزان السد الذي سيكون الأكبر في العالم، وأكثرها إثارة للخلاف: سد المضائق الثلاثة على نهر يانغتسي الذي ينتظر إنجازه عام 2009م.
ليس في حديقة بيتي
تبدو السدود الكبرى شعبية، لكنها تلقى في الواقع معارضة شديدة. فيقول جون بريسكو مستشار المياه الأول في المصرف الدولي، إن القروض لبناء السدود هي 10 في المئة من محفظة المصرف الاستثمارية، لكنها السبب في 95 في المئة من أوجاع الرأس. فقائمة التهم الموجهة إلى السدود طويلة. ومنها أن السد يمنع الغرين (الطمي) من بلوغ أسفل حوضه، وقد يؤدي هذا إلى تآكل التربة، كما توقف السدود الكبيرة دورة السمك المصعِّد (الذي يصعد النهر ليبيض) وأشهره سمك السلمون، وتغرق السدود عادة غابات كثيرة تتحلل لاحقاً ليصدر عنها غاز الميثان وغيره من الغازات الرافعة لحرارة الأرض. وفوق هذا وذاك، تهجر السدود الآلاف (في الصين الملايين) من السكان، الذين نادراً ما يعوَّضون تعويضاً مناسباً.
ولكن قل لمسؤول صيني أن سد المضائق الثلاثة سيهجر ملايين المواطنين فيذكرك بالملايين الثلاثة أو أكثر الذين ماتوا بفيضان النهر الأصفر خلال العقود الثلاثة الماضية فقط. والواقع أن للسدود الكبيرة فوائة كثيرة على صعيد زيادة المساحات الزراعية المروية، ودوراً لا غنى عنه في هذا المجال في باكستان والصين والهند وكاليفورنيا. وفي مجال الطاقة ترى الجمعية الدولية أن كهرباء السدود وفرت استهلاك 22 مليار طن من النفط، ويعتمد 64 بلداً على الطاقة المائية في إنتاج أكثر من نصف الكهرباء فيها. فهل يمكن التوفيق بين حجج أنصار السدود الكبرى وأخصامها؟
هذا ما أرادت أن تفعله لجنة السدود العالمية حين وضعت تقريرها عام 2000م، حين جمعت الخضر وبناة السدود ورجال المال والمسؤولين. وتضمن تقريرها بنزاهة الحجج المؤيدة والمعارضة، واقترب كثيراً من اقتراح لوقف بناء المزيد منها، لكنه اقترح 26 خط إرشاد لبناة السدود تتناول قضايا البيئة واستشارة السكان المحليين وخطط السكان المهجرين.
انخفض عدد السدود الكبرى التي شيدت في السنوات الأخيرة، وانخفضت قروض المصرف الدولي في هذا المجال من بليون دولار في السنة إلى نحو 100 مليون فقط خلال العام الماضي. ولكن دولاً كبيرة وكثيرة ستقوم ببساطة بالاتكال على نفسها فقط لبناء المزيد من السدود، وهذا ما يفعله اليوم كبار بناة السدود في العالم مثل الصين والهند وتركيا والبرازيل.
وحين يترك الأمر إلى البلدان لتخوض غمار بناء السدود، فلا شك أن العمولة والفساد سيتسع نطاقهما، وستتجاهل هذه البلدان خطوط إرشاد لجنة السدود العالمية.
مشكلة قابلة للحل ودور القطاع الخاص
إن بلوغ أهداف إعلان جوهانسبرغ أمرٌ ملح. فمن دونها سيتعذر بلوغ أي أهداف أخرى في مجال التنمية. ولا شك أن بلوغ هذه الأهداف سيحتاج إلى استثمار هائل يقدره البعض بنحو 18 بليون دولار سنوياً بدلاً من الاستثمار الحالي في الماء والمقدر بين 75 و 80 بليون دولار.
ومع هذا، وعلى الرغم من المصاعب، فمن الممكن بلوغ أهداف جوهانسبرغ، وإتاحة تصحاح أساسي حتى عام 2025م. فتوفير الماء النظيف وصرف المياه الآسنة مهمتان باهظتان، لكنهما ليستا بعيدتي المنال. فكثير من الهيئات العامة والخاصة تعرف كيف تفعل ذلك. والمسألة هي واحدة من المسائل البيئية القليلة القابلة للحل. وأفضل طريقة لحلها هي معاملة الماء مثل أي موضوع آخر في دنيا الأعمال.
يؤدي هذا الأمر إلى قضية أخرى مثيرة للجدال تكمن في القول إن القطاع الخاص يستطيع، بل يجب أن يوفر الماء وخدمات التصحاح. فبعض النقاد يعارض كل أشكال التخصيص. وبعضهم يقول إن الماء للحياة وخطأ بيعه أو الاتجار به للربح. ويلاحظ أن أشد المتحمسين لهذه الآراء ينتمون إلى بلدان غنية بالمال والمياه مثل كندا. أما الفريق الآخر فيرى أن كثيراً من الهيئات العامة أبدى عجزاً عن توفير الماء كما يجب. ولذا فلا بد من إتاحة الفرصة للشركات الخاصة حتى تحسن الحال.
والواقع أن شركات الماء الخاصة لعبت دوراً مهماً منذ زمن طويل. فقد بدأت معظم مؤسسات الماء الحكومية في أمريكا والبلاد الغنية التي تملكها البلديات والحكومات بصفتها شركات خاصة. والمدهش في فرنسا أن مع معظم البلديات استمرت المياه منذ 150 سنة تقريباً من أحد العملاقين اللذين لا يزالان إلى اليوم يسيطران على صناعة الماء في العالم: “جنرال دي زو” و”ليونيز دي زو” التي تملكها اليوم شركة “سويز”. كما أن برنامج التخصيص الذي وضعته الحكومة البريطانية وصل إلى قطاع الماء في عام 1989م، وعوِّمت كل هيئات الماء الإنجليزية والغالية في سوق الأسهم. وبدلاً من إبقاء الموجودات في يد الحكومة وتحرير أعمال توزيع الماء والصيانة مثلما عملت فرنسا، اختارت بريطانيا تخصيص الموجودات أيضاً.
ومن أهم دروس التجربة البريطانية هو أن التخصيص لا يعني للمرافق المالكة أنها تستطيع قيادة أعمالها على كيفها. ولا بد من سلطة وقاية حكومية قوية ودائمة. ويبدو التخصيص من وجهة نظر معينة اسماً خطأ. فالماء يبقى تحت رقابة حكومية قوية ودائمة. وتظل التعرفات والخدمات مقيدة بشدة. وحتى ولو انتقل امتلاك شبكات الصرف ومحطات الضخ إلى شركات خاصة، فإن استخدامها يظل ضمن شروط وحدود معلومة. فعلى سبيل المثال، أصبحت شبكة المجاري الفكتورية في لندن ملك شركة ألمانية، ولكن ليس كما تمتلك شركة “بي ام دبيلو” مصانع “رولزرويس”. وبشكل عام يمكن القول إنه كانت للتجربة البريطانية حسناتها وثغراتها التي عالجت الكثير منها. وفي بلدان كثيرة من العالم، كانت تجارب القطاع الخاص في ميدان الماء متفاوتة في النجاح والفشل. ويختصر المسألة مايكل روز وهو من مراقبي مشاريع التخصيص بقوله “إن السر يكمن في حسن الإدارة والإطار المؤسسي السليم، لا سيما التشريع المجدي”.
التجربة الأسترالية
البلاد التي تتقاضى أغلى سعر للماء في العالم هي أستراليا. وهي ليست فقط أجفّ القارات المسكونة في العالم، بل إنها كذلك من أشد الأماكن تذبذباً في مقدار هطول المطر. وحتى سبعينيات القرن الماضي اتبعت أستراليا نموذج الغرب الأمريكي، فبنت سلسلة سدود ودعمت الماء للمزارعين. ولكنها في العقد الماضي بدّلت تبديلاً كاسحاً سياسة الماء، فركزت تركيزاً أكبر على التسعير والاتجار ومبادئ معايير السوق. وبدأت أولاً بالفصل الواضح بين حقوق الماء وحقوق الملكية. فالماء للتاج، ولا يحصل المستهلكون عليه إلا بحقوق تمنحها الحكومة. ويلاحظ دون بلا كمور المدير التنفيذي في لجنة حوض مواري – دارلنغ الذي يضم المراكز الأساسية المأهولة في أستراليا، أن الري يستنفد نحو 90 في المئة من ماء المنطقة. وحالما اتّضحت مسألة حقوق الاستقاء، اعتُمد نظام لتجارة الماء، وتصدّرت الأمر ولاية فكتورية. ويجتاز بيع الماء الآن حدود الولايات أيضاً. وثمة نظامان على الكومبيوتر لتبادل الماء. وبدأ حتى بيع الماء وشراؤه بين المزارعين والمدن الكبرى.
يقول مايك يونغ خبير الاقتصاد الأسترالي، ومؤلف دراسة عن بيع الماء عنوانها “الفصل الجبار”، إن في نظام بيع الماء في أستراليا عاملين أساسيين. أحدهما أن الماء المستهلك يحتسب صافياً، أي أن الماء الذي يعود إلى النهر لا يحتسب في التكلفة، والثاني هو أن هذا النظام يتقاضى تكلفة حسب الطلب البيئي وتغيير وجهة استخدام الأرض.
وفي الماء المنزلي تعد أستراليا رائدة أيضاً. إذ يقول كلود بسينين المسؤول في مؤسسة خدمات الماء الأسترالية، إن 100 في المئة من المنازل الأسترالية مجهزة بعدّاد، ولذا ففي إمكانها وضع كشف التكلفة على أساس حجم الاستهلاك، لا الاشتراك وحده. وتشجع مشاريع إصلاح قطاع الماء التي وضعتها الحكومة المركزية على اعتماد مبدأ استرداد التكلفة كاملة، ومنها التكلفة البيئية أيضاً. ويقول بسينين إن الهيئات التابعة للمؤسسة أخذت الآن تنظر ثانية في التسعير. وهي تفكر في التحوّل التام إلى تقاضي تكلفة المقدار المستهلك، على أن تتبدل الأسعار وفق الموسم، وتضاف إليها التكلفة الكاملة لمعالجة مياه المجاري، وربما اعتماد تسعير متدرّج مثل إفريقيا الجنوبية، يزيد فيه السعر مع زيادة الاستهلاك.
لقد أمكن لأستراليا كل هذا الإصلاح في داخل القطاع العام، وهي تفضل الحديث عن “شراكة” بدل التخصيص. ويلاحظ الوزير الاتحادي المسؤول وادن تراس، أن ثمة معارضة شديدة للتخصيص الكامل، على الرغم من أن أدلاييد وكانبيرا أتاحتا دوراً محدوداً للشركات الخاصة.
إلى السوق إلى السوق.. تسعير كل شيء
ما هو الحل الصحيح إذن لمشكلة الماء؟
إنه يبدأ من ثلاثة معطيات. الأول هو أن ليس من أزمة داهمة تنذر بالنشوب من جراء زيادة الاستهلاك، قد تؤدي إلى انقطاع فظيع أو حتى حروب. الثاني هو أن السياسة البائدة التي تقضي التكهن بالطلب، وبناء مشاريع مياه كبيرة مركزية وباهظة التكاليف من أجل تلبية هذا الطلب، وهو ما يسميه بيترغلايك، الباحث في معهد المحيط الهادئ “الطريق الوعر” للماء، لم تعد سياسة معقولة. الثالث هو التشديد على أن الماء، على ضرورته الخاصة، لا بد من أن يستجيب تزويده واستخدامه لإشارات الاقتصاد والسوق. ويفتح هذا ما يسميه غلايك، مستعيراً تسمية أموري لوفينز، المسؤول في معهد روكي ماونتن: “الطريق السلس” للماء، استناداً إلى تحسين إدارة الطلب وانخفاض سعر الماء المحلي، أكثر من الاستناد إلى الهندسة.
إن إدارة الطلب فكرة “خضراء” تحظى بالشعبية. إلا أن معظم خبراء البيئة يستخدمون العبارة لتوبيخ العالم الغني لتبذيره الماء، مثلما يبذّر الطاقة. ولا يحب الخضر أن تُرهن إدارة الطلب بتسعير الماء. يتطلب الحل للاستخدام المنزلي والصناعي تركيب عدادات وتقاضي التكلفة وفق الاستهلاك. ولا بد من التسعير من أجل استرداد كل التكاليف، ومن ضمنها التكاليف البيئية إذا أمكن.
يقال كثيراً إن أشد الشعوب فقراً لا يستطيعون أن يدفعوا، ولذا فلا بد من أن تخفض الأسعار في الدول النامية كثيراً. لكن ثمة حجتين قويتين تناقضان هذا. الأولى هي أن أول المستفيدين في الدول الفقيرة من انخفاض سعر الماء ليسوا الفقراء، بل الطبقة الوسطى، لأن هذه الطبقة هي التي تتصل منازلها بشبكة المياه. وقد يدفع الفقراء في معظم الحالات أكثر بكثير لبياعي الماء من القطاع الخاص. أما الحجة الثانية فهي أن خفض سعر الماء أكثر من اللازم (أو في أسوأ الحالات جعله مجانياً)، يزيل الحافز على ضرورة التعقل في استهلاك الماء. وعندما تصبح الحاجة أَمَسّ إلى زيادة الاستثمار، العام أو الخاص، لتحسين توزيع الماء والتصحاح، لا توفر الأسعار المخفضة ما يكفي من حال لإعادة استرداد رأس المال. ولا ينفي هذا إمكان دعم السعر للمستهلكين الفقراء، لكن لا بد من أن يكونوا هدفاً أوضح للدعم. ولا شك في أن الفكرة التشيلية لمنح مخصصات مالية للفقراء ليدفعوا ما عليهم من تكلفة الماء، هي أحد الحلول. أما الفكرة الإفريقية الجنوبية التي تمنح مقدار الحد الأدنى من الماء بسعر رخيص أو مجاناً. مع زيادة السعر للاستهلاك الزائد، فهي حل ثان.
أما القضية الكبرى الثانية فهي ماء الري الذي يستهلك ثلاثة أرباع الماء أو أكثر في البلدان النامية. في بعض البلدان مياه الري تعطى مجاناً، على الرغم من أن السدود والقنوات والأنفاق والأنابيب الضرورية لتوفيرها، يمكن أن تكون بين أكبر المشاريع وأكثرها تكلفة في البلاد. وحيثما يدفع المزارعون سعر مياه الري تميل الأسعار لأن تكون مخفضة على نحو لا معقول. والبداية المنطقية هي أن يبدأ الفلاحون النظر إلى الماء على أنه مادة يجب دفع ثمنها. فالسعر يمكن أن يحفز على استخدام الماء استخداماً أجدى، مثل الري بالتنقيط. إن أقل من 1 في المئة من المزارع المروية في العالم تستخدم هذه الوسيلة. ومع ذلك فإن هذه الوسيلة تبلغ 95 في المئة من الجدوى، فيما لا يصل الري العادي إلى 60 في المئة. ولكن ليس واقعياً أن نتوقع انقلاب المزارعين في الهند وباكستان مثلاً، بين ليلة وضحاها، إلى أفضل نظم الري بالتنقيط. وليس مقبولاً سياسياً القول إن على المزارعين أن يدفعوا تكلفة مياههم كاملة. فسعر مياه الري من الأمور غير القابلة للمرونة بسهولة، لأن المزارعين لا يجدون بديلاً. ولذا قد تؤدي بهم تقاضي التكلفة كاملة، إلى الإفلاس.
تبادل عادل
أفضل الحلول هي الاتجار بالماء. ففي كثير من الحالات، ما يهم في مياه الري الزراعي، ليس لزوم تقاضي كل التكلفة من المزارعين، بل ضرورة أن يستخدم الماء استخداماً مجدياً. وحتى يفعل الاتجار بالماء فعله على ما يرام. لا بد من خطوتين كبيرتين. الأولى والأهم هي تعيين حقوق الماء وتوضيحها. فالماء، بصفته سلعة عامة، يجب أن يكون على مسؤولية الحكومة. وتقاسمه مع المستهلكين ينبغي أن يكون حقاً تعاقدياً مؤقتاً وقابلاً للمساومة في آن. فإذا انتهينا من هذا الأمر، فإن المزارعين (وغيرهم ممن يستنبطون الماء) يمكن تشجيعهم على المتاجرة بالماء، أولاً فيما بينهم، ثم ربما في حالات أقل، مع مستهلكين في المدن أو في الصناعة.
إن التسعير المناسب وتشجيع تجارة الماء أهم بكثير من المواضيع التي غالباً ما تتصدّر المؤتمرات الدولية: التخصيص والسدود. في التخصيص لا بد من إيضاح ما نعنيه، فليس مطروحاً في هذه الحال يوماً بيع مياه بلد ما إلى شركة خاصة. والتعبير الأدق هو الشراكة بين القطاعين الخاص والعام، توقّع فيها الشركة الخاصة عقداً مع وكالة حكومية لتوفير خدمات توزيع الماء ومعالجة مياه المجاري والمياه الآسنة أو أشغال البناء في هذا القطاع. ولا بد للمتعهد الخاص من أن يظل دوماً تحت الرقابة في أمور مثل التسعير والجودة وتوزيع الخدمات. فإذا احتيط للأمور هذه، يصبح منطقياً أن تستخدم الحكومات القطاع الخاص، لا سيما حيث قصّر القطاع العام.
أما السدود فهي مضت بعيداً على ما يبدو في “الطريق الوعر” للماء، إذ كانت الدول الغنية في القرن العشرين تتسابق في بناء الأكبر ثم الأكبر منها. ويبدو أن الصين والهند أخذتا تسلكان هذا الطريق الآن. وثمة منطق سليم في بناء سدود ولو كبيرة في بعض الأماكن، لا سيما إفريقيا. ولا بد من أن تكون السدود هي الخيار الأخير.
لقد سلف قول هذه الدراسة إن نجاح سياسة الماء يتوقف على حسن الإدارة. فإذا كان لانخراط القطاع الخاص أن يفيد، فلا بد له من رقابة قوية خاضعة للمساءلة. وهكذا أيضاً يعتمد التسعير والاتجار بالماء على إطار قانوني صلب، يعيّن حقوق الماء، ونظام جباية يُرتكن إليه. ولا بد من نزع مركزية الماء لتتولاة السلطة المحلية. وفي المناطق الريفية، تتمكن القرى غالباً من إيجاد حلول أفضل من الحكومات المركزية. كذلك السلطات البلدية في المدن.
2
في المملكة: التوازن بين الأمن المائي والأمن الغذائي
كتب الدكتور عبدالرحمن الحبيب
باحث علمي وكاتب صحافي
تواجه المملكة أزمة تزايد استهلاك المياه مقابل ندرة مواردها المائية ، مما ينذر بخطورة المرحلة المقبلة. ويستنزف القطاع الزراعي ما يقدر بتسعة أعشار إجمالي الكميات المستهلكة سنوياً في المملكة واستمرارية هذه النسبة للقطاع الزراعي في بلد صحراوي جاف سيفضي إلى نتائج خطيرة في المستقبل. ومع اطراد نمو عدد السكان في المملكة يتنامى الطلب على الغذاء والماء، وهذا يستلزم زيادة الإنتاج الغذائي أي التوسع الزراعي والاستهلاك المائي.
وإزاء محدودية الموارد المائية المتاحة والتخوف من استنزاف موارد المياه غير المتجددة، نواجه تحديا حقيقياً يتمثل بالموازنة بين الأمن المائي والأمن الغذائي، أي الموازنة بين الحفاظ على الموارد المائية والمحافظة على استمرارية التوسع الزراعي المؤدي إلى الاستقلال الغذائي (الاكتفاء الذاتي النسبي). لذا فإنه من الأولويات الاستراتيجية لترسيخ هذه الموازنة هو انتهاج أساليب وتقنيات ترفع من كفاءة استخدام المياه ومن ثم تخفض جوهرياً من استنزاف المياه الجوفية القابلة للنضوب دون خفض للإنتاج الزراعي، إضافة إلى البحث عن وسائل جديدة وعن مصادر مياه جديدة ومتجددة. وتعد دقة البيانات الإحصائية من أهم الشروط لوضع سياسات وبرامج للحد من استنزاف المياه، إلا أن البيانات حول الإمكانات المائية للسعودية لا تزال تقديرات نسبية وغير دقيقة، وهناك لجنة علمية في وزارة المياه تقوم بالعمل على تحديدها والمؤمل أن تكون نتائجها على درجة كافية من الدقة. وفيما يلي عرض لأهم التقديرات البحثية مع طرح أهم الوسائل لتقليص استهلاك المياه وزيادة مصادرة ورفع كفاءة استخدامها.
تقديرات الطلب على المياه
أدت الزيادة الهائلة للرقعة الزراعية إلى زيادة الطلب على مياه الري والاستنزاف العالي لمياه الآبار. ويوضح الجدول رقم 1 تقديرات الطلب على المياه للأغراض المختلفة كما ورد في خطة التنمية السابعة (تقرير استعمال المياه في صناعة التعدين، 2003م). وحسب هذا الجدول فإن %89.2 من استهلاك المياه عام 2000م كان لأغراض زراعية، في حين أن القطاع المنزلي والقطاع الصناعي استهلكا ما نسبته %8.5 و %2.2 على التوالي. وتزايد معدل استهلاك مياه الري خلال العشرين سنة الأخيرة إلى معدلات خطرة، تراوحت حسب تقديرات مختلفة بين 15 – 20 بليون م3/سنة، (شكل 1)، مما أدى إلى استنزاف ما يقدر بحوالي 254.5 بليون م3 وهو ما يقدر بنصف السعة التخزينية من مياه الآبار التي غالبيتها مياه غير متجددة. وتشكل المياه الجوفية نحو %85 من هذا الاستهلاك بينما تصل المياه السطحية إلى %14. وهنا تظهر الأهمية القصوى للموازنة بين الأمن المائي والأمن الغذائي. ومما له دلالة في الزيادة المتراكمة لاستنزاف المياه الجوفية هو العدد المتزايد بحدة لحفر الآبار، حيث وصل عام 2000م إلى نحو 98 ألف بئر مرخصة.
ويذكر بعض الدراسات (FAO 1992) أن مخزون المياه الحالي من الآبار الجوفية في المملكة يمكن أن يُستنفذ خلال عشرين عاماً إذا ظل الاستنزاف على المعدلات الحالية ، مما يجعل من خفض الاستهلاك أمرا ضروريا ملحاً. وهنا ينبغي أن ينصب التركيز على ترشيد استهلاك المياه في المجال الزراعي قبل المجالات الأخرى ، باعتباره أكبر مستنزف للمياه في السعودية .
التقديرات المستقبلية للمياه
من المتوقع أن يتزايد الطلب على المياه من عام 2000م وحتى 2025م إلى حدود الضعف، بينما ستنخفض كمية الموارد (شكل 2). وقد أوضحت الدراسات أن كمية مياه الري المستعملة تتجاوز كثيراً الاحتياج الأساسي للمحاصيل، إضافة لزيادة نسبة الفاقد في أنظمة الري، مما يزيد من هدر المياه وكلفة ساعات التشغيل، دون زيادة اقتصادية في إنتاجية المحصول، وهذا كله نتيجة الافتقار للعلوم الحديثة والمعارف التطبيقية وطرق التنفيذ في مجالات الري واحتياجات المحاصيل للمياه ونظم المعلومات الإلكترونية. ويمكن رفع كفاءة استهلاك المحاصيل للمياه في المملكة على أسس أربعة ، وهي: العمليات الزراعية ، العامل النباتي، ظروف المناخ، عامل التربة.
أساليب المحافظة على موارد المياه
تقوم كل من وزارة الزراعة ووزارة المياه بسن بعض التشريعات التي تخفض كمية المياه مثل منع تصدير القمح والأعلاف والحد من زراعة القمح والشعير، وتشجيع استخدام أنظمة الري ذات الكفاءة العالية. ورغم خطط خفض المياه التي تصيغها وزارات التخطيط والزراعة والمياه إلا أنها لا تظهر على أرض الواقع لعدم وجود تفعيل تطبيقي لها، فالنسب المقترحة أو المستهدفة في التخطيط لا تدعم بخطط واقعية تطبيقية باستثناء بعض الإجراءات، مثل الخطة لخفض نحو %3 و %6 سنوياً من الأراضي المنزرعة بالحبوب والأعلاف على التوالي. ومن المنتظر أن تقوم كل من وزارتي الزراعة المياه بالعديد من الإجراءات للحد من استنزاف المياه، حيث استحدثت إدارات ولجان مختصة لهذا الغرض.
من أهم الإجراءات التي قامت بها وزارة الزراعة والمياه سابقاً (وزارة الزراعة ووزارة المياه حالياً) هو إطلاقها حملة وطنية لترشيد استهلاك المياه ، حيث دشَّن سمو ولي العهد السعودي في 25/2/1418هـ بداية نشاط الحملة. وبذلت وزارة الزراعة والمياه جهوداً بخصوص التوعية الإعلامية بأهمية المياه، وما يترافق مع ذلك من إقامة اللقاءات والنشاطات الأخرى الهادفة إلى نشر الوعي المائي لدى المستهلكين. إلا أن هذه الحملة تحتاج إلى التفعيل ومزيد من التطوير، فينبغي تقييم مراحل الحملة التي دخلت مرحلتها الثالثة منذ بداية عام 1421هـ. كما ينبغي توجه التوعية إلى القطاع الأكثر استهلاكاً للمياه وهو القطاع الزراعي، مع تنويع وسائل التوعية المحدودة بالإعلانات تقريباً.
وقد أنشأت وزارة الزراعة والمياه السدود لاستخدام مياه الأمطار في الري ، ويصل عدد السدود في السعودية إلى 197 سداً لمختلف الأغراض، تصل سعتها التخزينية إلى 809 ملايين م3. وهذه الطريقة لا تزال ذات تأثير محدود وتحتاج إلى تفعيل أفضل، ففي المملكة تشكل المساحة المروية بالآبار 86 في المئة من إجمالي المساحة المروية، بينما 14 في المئة من المساحة تروى بالأمطار والعيون والسدود وخلافها، لكن لا يتجاوز ما يروى بالسدود نصف في المائة من المساحة المروية، وهي نسبة ضئيلة من كمية الأمطار الهاطلة فعلاً، مما يعطي أهمية كبيرة لتقنية ما يسمى حصاد الأمطار، سواء بزيادة عدد السدود أو تطوير زراعة المدرجات والمصاطب.
وتقوم إدارة المراعي والغابات بوزارة الزراعة بتسييج المحميات وتشجيرها وري بعضها بمياه الأمطار عبر إنشاء سدود ترابية وعقوم وحواجز من أجل توزيع مياه الأمطار والاستفادة من مياه الجريان السطحي ونشرها على أراضي المراعي المجاورة والصالحة لنمو النباتات، وقد تصل أحيانا كمية المياه المستخدمة في غمر الأرض الرعوية بهذه الطريقة من 5 إلى 10 أضعاف الهطول المطري ويتوقف ذلك على كفاءة الطريقة المستخدمة. مما يساعد على عدم اعتماد الرعاة في تغذية حيواناتهم على الأعلاف المروية تقليدياً، ويعني بالتالي توفير كميات هائلة من مياه الآبار التي تستخدم في ري محاصيل الأعلاف.
كفاءة استهلاك المياه
أشرنا إلى أن القطاع الزراعي يستنزف نحو 90 في المئة من الاستهلاك الكلي للمياه بالمملكة، ومن ثم ينبغي اعطاؤه الأولوية في تقليل هذا الاستهلاك. ولا شك أن التقليص المستمر لزراعة القمح والشعير خلال السنوات الأخيرة أدى إلى خفض استنزاف مياه الآبار. لكن المشكلة أن الرقعة الزراعية بدأت تعود إلى الزيادة من جديد نتيجة الحاجة إلى زراعة محاصيل أخرى، مما يعني تنامي معدلات استهلاك المياه، لذا لا بد من رفع كفاءة استهلاك المحاصيل للمياه، أي زيادة الإنتاج الزراعي دون زيادة الري أو الاستهلاك المائي. وهنا بالضبط يكمن أساس التوازن بين الأمن المائي والأمن الغذائي. وذلك يتم عن طريق العديد من الأساليب مثل اعتماد التركيبة المحصولية المناسبة والميزة النسبية لكل منطقة مع معرفة احتياجات كل محصول لكل منطقة. والتقليل من زراعة الحقول المفتوحة، والتوسع في زراعة البيوت المحمية. ويجدر أن اذكر أن بعض الدراسات أوضح أن العائد النقدي للألف متر مكعب من المياه لم يتجاوز 63 ريالا في بعض الزراعات التقليدية مقابل قفزه إلى نحو 20 ألف ريال في الزراعات المتطورة كالزراعة المحمية! كما ينبغي تشجيع ودعم الزراعة المائية (Hydropoics) أي الزراعة من دون تربة، حيث إن استهلاك المياه وفقدها يقل أضعافاً عن الزراعة في التربة مع زيادة في كمية المحصول، وقد أوضحت بعض التجارب إمكانية توفير نحو 70 في المئة من مياه الري في الزراعة المائية مقارنة بالزراعة في التربة داخل البيوت المحمية.
ومن المفيد أيضاً تحديد الإجراء الأنسب في العمليات الزراعية الحقلية لخفض استهلاك المحصول من الماء مثل زيادة الكثافة النباتية أو معدل البذار وتعديل موعد الزراعة وتحديد عمق الحرث ونوعيته. إضافة لرفع كفاءة نظام الري عبر اختيار النظام المناسب والأسلوب الأفضل وجدولة الري لتحديد مواعيده والكميات اللازمة منه، مع إدخال أنظمة الحاسب الآلي في نظم الري المرتبطة بالحقل. ومن الأهمية بمكان تربية واختيار أصناف تتحمل الجفاف والملوحة، وإدخال أنواع برية صحراوية تتحمل الجفاف والملوحة كمحاصيل اقتصادية مع توفير الدعم اللازم لانتشارها، ومن المفيد أيضاً إضافة محسنات التربة التي تخفض التبخر.
وكل ما ذكر يتطلب سياسات وبرامج وإجراءات إدارية وتشريعية، مثل دعم الدراسات وتوسيع التعاون بين مراكز الأبحاث وتوفير قاعدة من المعلومات والبيانات المتصلة بالمياه والري والصرف والاحتياجات المائية للمحاصيل وربطها بشبكة الحاسب الآلي والانترنت. وأيضاً التوسع في توفير موارد مائية جديدة ومتجددة مثل السدود وحصاد مياه الأمطار واستخدام مياه الصرف الصحي المعالجة والمياه المالحة ومياه الصرف الزراعي. وسن قوانين وأنظمة حول الحقوق المائية تحد من استسهال هدر المياه، مثل وضع عدادات على الآبار مع تسعيرات مناسبة لمن يتجاوز الاحتياجات المائية للمحصول.