يوماً بعد يوم يزداد وضوح خريطة الآثار القديمة في منطقة الجزيرة العربية، كما يزداد الاهتمام الرسمي والعلمي بتحديد مواقع هذه الآثار واستكشاف ما لم يستكشف منها لأغراض عديدة؛ من أهمها اهتمام قيادة المملكة بتعريف المواطنين على بلادهم وتاريخها وكنوزها الحضارية، وأيضاً بوضع هذه الآثار على خريطة السياحة الداخلية. ولا أدَلّ على ذلك من ضم وكالة الآثار والمتاحف إلى الهيئة العليا للسياحة كي تتضافر الجهود من الداخل والخارج على البحث والتنقيب وإعداد المواقع للزيارات السياحية، وهذا ما أعقبه مؤخراً قرار يقضي بتطوير خمسة وعشرين متحفاً للآثار السعودية في مختلف المناطق. دينا الشـهوان تعرض هنا مسيرة الاهتمام بالآثار السعودية منذ انطلاقتها الأولى وصولاً إلى الدفع غير المسبوق الذي شهده هذا العلم في المملكة خلال السنوات الأخيرة، ولا يزال يزداد زخماً يوماً بعد يوم.
يمكن للباحث عما يجري في علم الآثار في المملكة أن يعثر بسرعة على فيض من الأخبار المتعددة الأوجه.
فعلى صعيد الحفريات مثلاً، تتوزع فرق البحث والتنقيب السعودية على مواقع متنوعة ومتباعدة, من سواحل جزر فرسان حيث البعثة السعودية البريطانية, إلى نواحي تيماء حيث البعثة السعودية الألمانية, وحتى محيط مدائن صالح حيث تستمر البعثة السعودية الفرنسية في أعمالها التي بدأت عام 2002م.
أما عن المعارض, فيطالعنا الإعداد لواحد من أضخم المعارض العالمية الخاصة بالآثار السعودية, وهو المعرض الذي سيُقام في العام 2010م في متحف اللوفر في باريس في إطار التبادل الثقافي ما بين المملكة وفرنسا, والذي كان من وجوهه المعرض الذي أقيم في العام 2006م في المتحف الوطني في الرياض لروائع الفنون الإسلامية المحفوظة في متحف اللوفر.
وبالنسبة لتنظيم هذا القطاع, هناك طبعاً ما بات يعرفه الجميع, وهو نقل وكالة الآثار والمتاحف من تحت مظلة وزارة التربية والتعليم إلى مظلة الهيئة العليا للسياحة, الأمر الذي كان سبباً في تغيير اسم الهيئة إلى «الهيئة العامة للسياحة والآثار»، التي ستتحمل المسؤولية الكبيرة في متابعة المسيرة التي بدأتها الوكالة منذ سنوات، وتحقيق لأفضل استثمار سياحي للمواقع الأثرية, لا على الصعيد الاقتصادي فحسب، بل أيضاً على الصعيد الثقافي والإعلامي محلياً وعالمياً. وتجدر الإشارة هنا إلى الاهتمام البالغ الذي يوليه الأمين العام للهيئة الأمير سلطان بن سلمان ابن عبدالعزيز لقطاع الآثار بشكل خاص، وما الجهد الشخصي الذي بذله سموه لوضع مدائن صالح على قائمة التراث العالمي إلاَّ مثالاً واحداً عن ذلك. إذ نجحت الهيئة في تحقيق ذلك من خلال اجتماع لجنة التراث العالمي التابعة لليونيسكو في دورتها الثانية والثلاثين التي عقدت مؤخراً في مقاطعة كيبيك الكندية، حيث تنافست 41 دولة على الانضمام إلى القائمة الأولى على مستوى العالم.
وعن التنظيم أيضاً, هناك مشروع نظام جديد للآثار يسعى إلى ضبط جوانب عديدة من هذا القطاع وصولاً إلى تشديد العقوبات على العبث بالآثار والمتاجرة بالقطع المسروقة.
ويومياً تطالعنا أخبار جديدة حول منجزات الهيئة, منها حصولها على 50 شاهداً حجرياً، وتسلمها لعدد من القلاع القديمة.. فيما ينهمك العاملون فيها على وضع نظام رقمي للمعلومات الجغرافية والمواقع الأثرية في مختلف مناطق المملكة.
إن هذه المنجزات وهي غيض من فيض، تُظهر مدى عن التسارع الذي شهده علم الآثار والاهتمام بها في المملكة في الآونة الأخيرة. غير أن الصورة الشاملة لهذا العالم تفرض علينا العودة إلى ما تحقق وتراكم منذ ظهور الاهتمام بالآثار في المملكة قبل ردح طويل من الزمن. ونبدأ بالتوقف للحظة أمام ماهية هذا العلم.
ذكاء الأثر
يهتم علم الآثار بدراسة كل ما تركه الإنسان على مر العصور من أشياء بدءاً من الأدوات التي صنعها لمواجهة متطلبات الحياة في العصر الحجري وصولاً إلى كل الأعمال الفنية والمعمارية والعلمية التي تكشف ما كانت عليه حياة الإنسان وما ميَّزها من قيم ومفاهيم وعادات في زمن محدد وفي بيئة محددة.
ولا يبتعد هذا التحديد لعلم الآثار عن دلالة اسمه اليوناني الأصل «أركيولوجيا», أي «علم القديم»، المعتمد اليوم في اللغات الأوروبية. أما تحديد القِدَم، أي الزمن الذي يتوقف أمامه علم الآثار, فمختلف عليه بين ثقافة وأخرى.
وتنقسم الآثار إلى فئتين: آثار ثابتة وهي متصلة بالأرض مثل الكهوف الطبيعية أو المحفورة، التي كانت مخصصة لحاجات الإنسان القديم، والصخور التي نقش عليها الإنسان كتاباته ورسومه، والقصور والمعابد وأطلال المدن وما تبقى من عمرانها والمدافن وما إلى ذلك.. أما الآثار المنقولة فهي التي صُنعت لتكون بطبيعتها منفصلة عن الأرض أو المباني التاريخية مثل المنحوتات, الأسلحة، العملات, الأدوات المنزلية والزراعية, المخطوطات, المنسوجات وكل ما شابه ذلك.
وتعود جذور الاهتمام بآثار الحضارات الغابرة بشكل عام إلى عصر النهضة الأوروبية, عندما بدأ رفع التراب في روما عن آثار الإمبراطورية القديمة المدفونة في باطنها. ولكن هذا الاهتمام لم يتحوَّل إلى «علم» إلاَّ بدءاً من القرن التاسع عشر الميلادي مع انطلاق البعثات العلمية في العمل وفق منهجيات دقيقة، تتجاوز الاستطلاع للقيام بأعمال الحفر والتنقيب واستنطاق اللقى حتى الحصول على أكبر قدر من المعلومات عن الحضارة التي تنتمي إليها.
فعلم الآثار هو أكثر العلوم تركيزاً على تتبع مسار الإنسان وتطوره عبر التاريخ. ومنذ الأزل لا يزال الأثر يمارس لعبته مع الباحث غموضاً واكتشافاً.. بعبارة أخرى، يمكن وصف علم الآثار بأنه مواجهة ما بين ذكاء العالم وذكاء الأثر الصامت. والغاية من هذه المواجهة هي حمل الأثر على الإفصاح عما يختزنه من أسرار ومعلومات. ولذا، فعلم الآثار هو في المقام الأول بحث عن المعرفة، وليس بحثاً عن الكنوز كما يمكن للبعض أن يتوهم.
بدايات الاهتمام بالآثار السعودية
باكراً جداً ولكن بشكل محدود
قد يفاجأ القارئ إذا قلنا له إن الاهتمام بآثار الجزيرة العربية لم يتأخر أبداً عن تاريخ الاهتمام بالآثار الفرعونية أو الإغريقية، إذ تزامن مع ظهور علم الآثار الحديث في القرن التاسع عشر. ففي تلك الفترة، كانت الآثار الشرقية قبلة أنظار كل الباحثين في هذا العلم في أوروبا الغربية، فاندفع المئات منهم لدراسة آثار مصر الفرعونية، وبقايا الحضارات الإغريقية في تركيا، والتنقيب عن الكنوز المدفونة في أرض فلسطين.. وفي الوقت نفسه اندفع بعضهم باتجاه الجزيرة العربية لاستطلاع ما بقي من شواهد على ما هو غامض من ماضيها. الفرق الوحيد كان في أن مصر وتركيا وبلاد الشام مثلاً حظيت ببعثات تنقيب تسعى إلى استكشاف ما هو مدفون في باطن الأرض، في حين أن وعورة الطرق في الجزيرة العربية آنذاك وعوامل عديدة أخرى جعلت اهتمام المستشرقين يقتصر على زيارات فردية هدفت إلى استطلاع ما هو قائم من هذه الآثار وتدوين المعلومات المتوافرة عنه ورسمه بأقصى قدر ممكن من الدقة لإخضاعه لاحقاً للدراسة والتحليل.
يقول الدكتور عبدالعزيز بن سعود الغزّي رئيس قسم الآثار في جامعة الملك سعود إن عمر الدراسات الأثرية في المملكة العربية السعودية يعود إلى عصر الرحالة الغربيين الذين تعود إطلالاتهم الأولى إلى القرن السابع عشر، غير أنه بدءاً من القرن التاسع عشر, راح الرحالة يصفون تقارير بتقارير مسهبة الآثار التي شاهدوها. وتمثِّل هذه التقارير القاعدة الأولى التي قام عليها البحث الأثري لجهة معرفة بعض المواقع.
ونذكر من جيل الروّاد في هذا المجال وليم بالجريف الذي استطاع أن يعبر في عام 1862م المملكة من الشمال إلى الشرق مروراً بالرياض التي مكث فيها لمدة ستة وعشرين يوماً، وجاء في كتبه المنشورة وصف متكامل لأحياء مدينة الرياض القديمة، إضافة إلى بعض المواقع الأثرية في القصيم مثل آثار عيون الجوار.
واستطاع الرحَّالة أوغوست والن أن يجوب شمال المملكة، وضمّن مذكراته المنشورة معلومات كثيرة عن الآثار في منطقتي الجوف وحائل، ويُعتقد أنه أول رحَّالة استطاع أن يجتاز صحراء النفود ما بين الجوف وحائل.
ومن رحَّالة القرن التاسع عشر ريتشارد بورتون الذي زار شمال غرب المملكة، ونشر كتابين ضمنهما وصفاً لآثار مدين ومغائر شعيب والبدع والعلا. كما زار الرحَّالة الإيطالي جيرماني شمال المملكة وخص آثار الجوف بحديث مفصَّل.
وفيما يخص وسط المملكة، فقد زارها إضافة إلى بالجريف الديبلوماسي البريطاني لويس بلي الذي تحدث عن آثار منطقة الرياض، إضافة إلى تلك التي شاهدها في الأماكن التي مر بها، والديبلوماسي البريطاني أيضاً فوستر الذي وصف عدداً من آثار المنطقة الوسطى.
أما رحَّالة القرن العشرين فعددهم كبير جداً, وإنتاجهم أغزر وتركّز أكثر من ذي قبل على الآثار. ومن الرواد نذكر على سبيل المثال الألماني مورتز الذي زار شمال غرب المملكة عام 1907م، وتناول بالتفصيل موقع قريّة الأثري. واستقبل الموقع نفسه أكاديمياً أمريكياً تشيكي الأصل هو لويس موزل بين عامي 1907 و1914م، وهو الذي عرفه سكان المنطقة باسم (موسى الرويلي). وقد جال موزل كثيراً في شمال المملكة ووادي سرحان ووضع عدداً من الدراسات العلمية. ولا ننسى الرحَّالة الإنجليزي هاري سانت جون فيلبي الذي أقام لوقت طويل في المملكة حيث أجرى عدداً من المسوحات الميدانية ونشر أبحاثاً وكتباً كثيرة، كان للآثار فيها حيّز ملحوظ.
الثمار العلمية الأولى..
حضارة الأنباط مثلاً
من أبرز المواقع الأثرية التي استوقفت المستشرقين وأدهشتهم كانت الآثار النبطية المتوافرة بكثرة في النصف الشمالي من الجزيرة العربية. وتُعد الأبحاث التي أجراها عام 1910م العالمان الفرنسيان جوسان وسافينياك في بلدة تيماء وخارجها كجبل غنيم والخبو، وبين الآكام الصخرية المنتشرة غربي البلدة وشمالها علامة فارقة في مسيرة علم الآثار في المملكة. إذ شكَّلت أبحاثهما ورحلتهما التي نشرت في كتاب في باريس عام 1914م، مصدراً اعتمد عليه الكثيرون في دراساتهم المستفيضة عن الحضارة النبطية.
وبتوالي البعثات المستطلعة لحضارة الأنباط، تم اكتشاف أكثر من خمسة آلاف نقش تحوي نصوصاً معمارية وجنائزية ودينية وتحكي تفاصيل الحياة اليومية للأنباط.
فبعد رحلة جوسان وسافينياك، استطاع كل من البريطاني داوتي والألماني أويتنج، والفرنسي هوبير فك عدد من رموز النقوش النبطية. ويعود الفضل إلى هؤلاء في وضع اللبنة الأساس التي قامت عليها معظم الدراسات اللاحقة.
بداية مرحلة البعثات والتنقيب
وكان من الطبيعي أن يؤدي توحيد المملكة واستقرار الأوضاع الأمنية فيها إلى تحولات بارزة على صعيد الاهتمام بالآثار. فمن جهة لم يعد هذا الاهتمام متروكاً لمشيئة المستشرقين وجهودهم الفردية إذ تولت الحكومة السعودية منذ أواسط القرن العشرين هذه المهمة فتعاونت مع معاهد وجامعات من بلجيكا وكندا وبريطانيا للكشف عن الكثير من المواقع الأثرية المهمة. فكان ذلك بداية مرحلة العمل المنظم في الحفر بحثاً عن الآثار.
ولا يمكن الحديث عن تلك المرحلة الزمنية من دون الإشارة إلى الدور الذي لعبته أرامكو آنذاك في هذا المجال. إذ يقول الدكتور عبد الله المنيف وكيل كلية السياحة والآثار في جامعة الملك سعود إن عدداً من علماء الآثار وعشاقها كانوا يُضمّون إلى بعثات المسح الجيولوجي التي كانت أرامكو تنظمها للقيام بأعمال البحث والتنقيب عن البترول. ومن خلال هذه البعثات والدراسات الميدانية، حقق هؤلاء كماً هائلاً من الاكتشافات في أواسط القرن الماضي. ويعدد الدكتور المنيف من هؤلاء على سبيل المثال هنري فيلد الذي كانت أغلب دراساته عن العصور الحجرية في المملكة، ومكلور الذي رسم خريطة للمواقع الأثرية في الجزيرة العربية ركَّز فيها على المواقع التي تعود إلى ما قبل التاريخ، وزيونر وسمبسون وسورديناس وأوفر ستريت، وكلهم صبوا جهودهم على العصور الحجرية القديمة، وتصنيف الأدوات الحجرية التي عثروا عليها خلال القيام بالمسوحات الجيولوجية.
مرحلة الجهود الوطنية
واحتل الاهتمام بالآثار مكاناً بارزاً في نسيج النهضة الثقافية التي صاحبت النهضة في كافة أوجه الحياة في المملكة خلال القرن العشرين. وما إن حلت السبعينيات حتى عقدت حكومة المملكة العزم على أن تتولى الاهتمام بهذا القطاع من خلال الإمساك المحكم بملفه، من دون أن يعني ذلك الاستغناء عن التعاون مع الجهات الأكاديمية والعلمية في الخارج أسوة بما يجري في مجال علم الآثار في كل بلدان العالم.
ويقول الدكتور عبد العزيز الغزي «إن البداية الفعلية للدراسات الأثرية ووكالة الآثار والمتاحف كانت عام 1976م، حين بدأ مشروع المسح الشامل للآثار في المملكة، المستمر حتى يومنا هذا، وشمل هذا المسح كل المناطق، وخصص مواسم لمسح النقوش والرسوم الصخرية».
ويضيف: «لم يقتصر عمل الوكالة على المسوح، بل أجرت حفريات في عدد كبير من المواقع منها: مقابر جنوب الظهران وثاج والدفي وتاروت والربيعة في المنطقة الشرقية، والصليبيخات ودومة الجندل في منطقة الجوف، ومدائن صالح والخريبة والمابيات وقريّة وتيماء. في منطقة تبوك، والأخدود في منطقة نجران، وسهى وعثر والشرجة في منطقة جازان. كما أسهمت جامعة الملك سعود ممثلة بقسم الآثار في كلية السياحة والآثار في حفريات عديدة، منها حفريات موقعي الخريبة والمابيات التي أنجزت فيها حتى الآن خمسة مواسم، ولا يزال العمل مستمراً عليها حتى الآن».
الثروة التي يقاس بها التحدي
وقبل الغوص في تفاصيل أعمال الحفر والتنقيب الجارية اليوم، يجدر بنا التوقف أمام «مسرح العمليات» الذي وجدت وكالة الآثار والمتاحف نفسها أمامه، والذي تترامى أطرافه من أقاصي المملكة حتى أقاصيها المقابلة.
فمنذ ما قبل العصر الحجري القديم يعود تاريخه إلى نحو مليون سنة، وحتى انتهاء العصر العثماني قبل قرن واحد من الزمن,عرفت الجزيرة العربية عدداً لا يحصى من التجمعات البشرية القديمة والحضارات والثقافات المختلفة التي كانت تقوم وتزدهر في ناحية من نواحيها في فترة معيَّنة. ففي كل من الشويحطية قرب سكاكا في الجوف، وفي منطقة نجران، والعلا ووادي فاطمة بمحافظة جدة عثر على ما يثبت الاستيطان البشري في هذه المواقع منذ نحو مليون سنة وما قبل.
أما بخصوص العصور الحجرية بدءاً بقديمها وصولاً إلى حديثها، فإن أدواتها تتبعثر على كافة أنحاء المملكة: وادي فاطمة في الغرب، تبوك والعلا ونجران وحائل، وصولاً إلى القريّات شمالاً والتمامة في منطقة الرياض.
أما العصور الحضارية بدءاً بحضارة الصبير (5000 سنة ق.م) وحتى الحضارة العثمانية قبل قرن واحد، مروراً بالهلنستية، والساسانية والممالك العربية والنبطية ثم الحضارة الإسلامية بمختلف فتراتها الأموية والعباسية والمملوكية والعثمانية.. فقد تركت كلها آثاراً واضحة في مواقع مختلفة من أنحاء المملكة شمالاً وجنوباً وغرباً وشرقاً..
ومن دون الدخول في عرض «جرد» كامل للمواقع الأثرية في المملكة (مستحيلة في هذا المجال الضيق، وموجودة في مصادر أخرى)، نشير إلى أن الكثير من هذه المواقع
لا يقتصر في أهميته على ما يكشفه من حقائق علمية تتعلق بالماضي، بل يفرض نفسه على الثقافة العامة بمختلف مستوياتها محلياً وعالمياً ويشكِّل عامل جذب سياحي لكل باحث عن المدهش وما يغني ثقافته الشخصية من دون أن يكون مؤرخاً أو عالم آثار.
ومن هذه المواقع على سبيل المثال وليس الحصر، مدائن صالح التي يعرفها الكثيرون. إنها المدينة الثانية في مملكة الأنباط بعد البتراء، وكانت تسمى قديماً بالحجر وباتت اليوم على قائمة التراث العالمي كما أسلفنا، وهناك مدينة الأخدود في نجران التي كشفت الحفريات جانباً مهماً منها، وهي المدينة التي ورد في القرآن الكريم ذكر حادثة حرق سكانها النصارى على يد أحد ملوك حِمْيَر الوثنيين في القرن السادس الميلادي.
وهناك قرية الفاو التي كانت عاصمة مملكة كندة الأولى وعاشت لثمانية قرون بدءاً من القرن الرابع قبل الميلاد، ودومة الجندل التي كانت تدعى قديماً أدوماتو حيث أعمدة الرجاجيل وقلعة مارد.. وقلعة تاروت في المنطقة الشرقية وسلسلة القلاع على طريق الحج الشامي، وموقع جبة في شمال المملكة حيث يوجد أكبر تجمع للرسوم الصخرية في الجزيرة العربية. وصولاً إلى الدرعية القريبة من الرياض، البلدة التي لا تزال أطلالها وبقايا أسوارها وقصورها وأبراجها ومساجدها تشهد على ما كانت عليه المملكة عشية توحيدها.
واليوم يستمر البحث ..
أخذ التعاون السعودي مع البعثات الأجنبية في مجال البحث والتنقيب وصيانة الآثار شكلاً جديداً في الآونة الأخيرة. وثمة مشروعات سعودية – دولية سوف تشكِّل من دون شك نقطة مهمة في هذا المجال. نذكر منها مشروع «الجايكا» للتعاون الفني الياباني في مجال المسح الأثري، الذي شمل في العام 2002م بعض المواقع العائدة إلى ما قبل الإسلام وبعده، وتضمَّن أيضاً مسحاً للنقوش الصخرية ودراستها وترجمتها.
أما التعاون السعودي الفرنسي المستمر في مدائن صالح منذ عام 2002م، فقد توصّل إلى إثبات الحقيقة القائلة بأن هذا الموقع كان مدينة حقيقية ومتكاملة، وليس مجرد مكان للطقوس الدينية ودفن الموتى كما كان البعض يعتقد سابقاً. ومن المرجَّح أن يثمر التعاون السعودي الفرنسي قريباً توقيع اتفاقية علمية حول البحث والتدريب بين كلية السياحة والآثار وجامعة نانسي الفرنسية. وفي ربيع العام 2004م بدأت البعثة السعودية الألمانية المشتركة التنقيب عن الآثار في تيماء. وشملت الأعمال حتى الآن المنطقة الوسطى في موقع تل قريّة، وأكدت اللقى وجود استيطان خارج الأسوار، كان قائماً على مراحل متفاوتة ما بين نهاية الألف الثاني وحتى القرنين التاسع والثامن ق.م.
وبموازاة ما تقدَّم، يتولى المشروع السعودي البريطاني البحث والتنقيب على امتداد ساحل البحر الأحمر حيث يعتقد الباحثون بوجود آثار عديدة تعود إلى آلاف السنين. وقد تمكن القائمون بهذا المشروع من تسجيل نحو ألف موقع أثري متفاوت الأهمية على سواحل جزر فرسان، إضافة إلى بعض الظواهر الجيولوجية المميزة مثل السواحل القديمة التي غمرتها المياه.
أما ما هو مرتقب على صعيد الآثار في المملكة بعدما أصبحت في عهدة الهيئة العامة للسياحة والآثار، فلا يقتصر على أعمال الحفر والتنقيب، ووضع النظام الجديد للآثار.. بل ان التحدي الذي تعمل الهيئة جاهدة على رفعه يتمثل في تحفيز الاطلاع على هذه الآثار من قبل المواطنين لإغناء زادهم الثقافي ووعيهم لتاريخ بلادهم من جهة، وتحقيق المزيد من المنافع الاقتصادية للمدن والمناطق المضيفة لهؤلاء.
الآثار السعودية في الخارج
تُعد المملكة العربية السعودية من أقل دول العالم تضرراً على صعيد اختفاء بعض القطع الأثرية من البلاد وانتقالها إلى الخارج.
غير أن ندوة عقدت في العام 1999م بعنوان «الآثار في المملكة العربية السعودية، حمايتها والمحافظة عليها» عرضت جرداً بالآثار السعودية التي نقلت فيما مضى بطرق مختلفة إلى خارج البلاد، ومنها مسلّة تيماء الشهيرة المحفوظة في متحف اللوفر بباريس، ومجموعة نقوش نبطية ولحيانية استقرت في بعض المتاحف الألمانية، ومجموعة ألواح حجرية تحمل نصوصاً بخط المسند في عدد من المتاحف الأوروبيّة، وآثار من المنطقة الشرقية في بعض المتاحف الأمريكية، وآثار من نجران في المتحف البريطاني، ومجموعة من الآثار الإسلامية نقلها العثمانيون من الحجاز إلى مكان مجهول، وأدوات حجرية مجهولة المصدر في المتحف الجامعي بكمبريدج في بريطانيا.
وكما هو الحال في معظم بلدان العالم، تنقسم الآراء بشأن وجود هذه الآثار في الخارج إلى قسمين: فهناك من يرى وجوب العمل على استردادها، لأنه من حقوق الأوطان استعادة ممتلكاتها الثقافية. بينما يرى قسم آخر عدداً من المبررات التي تدعم بقاء هذه الآثار حيث هي لأنها أولاً محفوظة بعناية وتلقى المعاملة اللائقة بها، وثانياً لأنها تمثل ما يشبه السفارة الثقافية التي يطلع العالم بأسره من خلالها على التاريخ الحضاري الكبير لبلاد لا يعرف إلاّ القليل عنها.
المتحف الوطني السعودي في الرياض
يمثل المتحف الوطني السعودي في الرياض واحداً من أكثر وجوه العناية بالآثار إشراقاً.
فقد أقيم هذا الصرح الوطني في حرم «مربع الملك عبدالعزيز التاريخي» الذي أنشئ على مساحة 17 ألف متر مربع في قلب العاصمة، وتم تدشينه عام 1999م في إطار احتفالات المملكة بمرور مئة سنة على توحيدها.
تتوزع محتويات هذا المتحف على ثماني قاعات كبرى، تعبِّر كل واحدة منها عن مرحلة تاريخية محددة، وتتكامل في رسم صورة شديدة الوضوح لتاريخ المملكة العربية السعودية.
وهذه القاعات هي: الإنسان والكون، الممالك العربية، عصر ما قبل الإسلام، الدعوة النبوية، الإسلام في الجزيرة العربية، الدولة السعودية الأولى والثانية، توحيد المملكة، الحج والحرمين الشريفين.
وتتضمن هذه القاعات إضافة إلى مجموعة ضخمة من اللُقى النفيسة، مجسمات لبعض المعالم الأثرية طبق الأصل، وشاشات عرض تلفزيونية وكمبيوترية تعرض أفلاماً وثائقية وشروحات مستفيضة لجوانب للُقى تعبِّر عنها.