قضية العدد

الملكية الفكرية
في عصر التكنولوجيا
تشنج بين صناعة براءات الاختراع والمنفعة العامة

  • book-cover
  • 90009-117

يطرح تسجيل براءات الاختراع، بشكله المحموم حالياً والذي تضاعف خلال عقد واحد، قضية مستجدة تتمثل في وجوب إعادة النظر في مفهوم الملكية الفكرية وحقوقها.
هدى بتروبولس تتناول هذه المسألة التي أصبحت شائكة من جانبين رئيسين: أولاً التعقيدات القانونية المتزايدة نتيجة تطور التكنولوجيا وبشكل خاص برامج الكمبيوتر، حيث تزداد يوماً بعد يوم صعوبة تحديد أصحاب الحقوق المستفيدين من بعضهم البعض، وثانياً بدء سياسات حماية الحقوق المتشددة في جرف مفهوم الملكية الفكرية في اتجاهات تكاد تكون عكس الغاية الأساس من مفهوم التطور والاختراع، ألا وهو تعميم الفائدة والمعرفة على الجميع، مع كل ما في ذلك من تداعيات على الدول النامية وشعوبها المستهلكة لبراءات الاختراع في الدول المتقدمة.

أدخلت التطورات التكنولوجية والعلمية المتسارعة المجتمع البشري في إشكالية بين استخدام هذه التطورات لحل مشكلات لا تزال البشرية تعانيها بشكل واسع كالفقر والتخلف والأمراض، وبين حماية حقوق الملكية الفكرية في وضع ينزع إلى تقوية هذه الحقوق في الميدان الاقتصادي.

وقد راجت تعابير ومفاهيم جديدة لوصف التطور الحاصل، مثل اقتصاد المعرفة و مجتمع المعرفة و مجتمع المعلوماتية ، ورغم أنها لا تزال تبحث عن تعريف رسمي لها، فإنها تنطق بدلالات مهمة، في ظل الاستخدام المتنامي للمعرفة من أجل إنتاج منافع اقتصادية، وفي الإطار المجتمعي وصناعة المعلومات والتداول بها ومعالجتها، الأمر الذي أصبح نشاطاً ثقافياً واقتصادياً مهماً جداً، تحتل فيه تكنولوجيا المعلومات دوراً مركزياً.

في هذا الوضع الجديد تتعرض المعادلة السابقة بين نشر المعرفة وحماية حقوق الملكية الفكرية لتغيرات مهمة. يعبِّر عنها، من جهة، النزوع إلى تقوية حقوق الملكية الفكرية في الدول المتقدمة تكنولوجياً، من خلال انتشارها ومعاملة المعرفة كمنتج تجاري، أو حسبما يراها البعض، كأحد عناصر الإنتاج الرئيسة التي تستبدل بأهميتها العناصر الأخرى في صناعة الثروة الاقتصادية، ومن جهة أخرى، تطور التكنولوجيا الرقمية التي تسهِّل نقل ونشر المعرفة والتعامل بها وتقوِّي نشاطاً للمشاركة المعرفية ومجانيتها.

هذا التشنج القائم بين السهولة التقنية لنقل ونشر المعرفة والنزوع المتزايد إلى حصرها، يثير استقطاباً مهماً في جدل الملكية الفكرية، وبشكل أساس في براءات الاختراع وحقوق النشر، وما إذا كان ممكناً الوصول إلى توازن ما بين تقدم العام وتشجيع الخاص وكيف؟

المعرفة.. سلعة ما زالت تتضخَّم
باتت الأهمية الاقتصادية للأفكار ظاهرة معممة في الاقتصادات المتقدمة. وهي وإن لم تكن غائبة في السابق، إلا أنها أصبحت اليوم ظاهرة مستقوية بشكل غير عادي. فقد بات عدد من الشركات الكبرى كماً وشركات التكنولوجيا الحديثة في الدول الاقتصادية المتقدمة تعتمد في أرباحها بشكل أكبر على بيع أو ترخيص أفكارها، أي ما يسمى براءات الاختراع، أكثر من اعتمادها على منتوجاتها. ويظهر في ملف خصصته مجلة الإيكونوميست (في 20 أكتوبر 2005م) لموضوع الملكية الفكرية أن ثلاثة أرباع القيمة للشركات المتداولة في الولايات المتحدة تأتي من موجودات غير مرئية، بينما كانت هذه النسبة %40 في الثمانينيات ، وتنقل المجلة عن الرئيس السابق للبنك المركزي الأمريكي آلان غرينسبان قوله: إن المنتج الاقتصادي الأمريكي أصبح بشكل غالب مفاهيمي .

إن حلول الأفكار والمفاهيم محل الموارد المادية في الإنتاج والخدمات خلال العقود الماضية كان مذهلاً في حجمه. وتبدل معه المحيط الصناعي باتجاه الاستعاضة عن المواد الثقيلة بمواد أخف وأصغر وإلى تخصصية في الإنتاج غير مسبوقة. وانطلقت عملية رسملة الابتكار والإبداع بسرعة وعلى نطاق غير معهود تحت وطأة الثورة الرقمية. وقد تبدل دور حقوق الملكية الفكرية ضمن هذا التغيير بشكل جذري، وهو تبدل لم يحصل في فراغ، بل في الإطار والممارسات القانونية تحت ضغط لوبي الصناعات الجديدة التي تعتمد بشكل رئيس على الأفكار. وانتهت مجلة اقتصادية مرموقة (إيكونوميست أكتوبر 2005م) إلى وصف الملكية الفكرية اليوم بـ سيولة الابتكار ، أي أن الملكية الفكرية تتجه، حسب المجلة، من تمكين نقل المعرفة إلى إنشاء سوق تجارية لها .

الانتقال من حق النشر إلى براءة الاختراع
تتخذ حقوق الملكية الفكرية من الولايات المتحدة إلى أوروبا واليابان منحى واحداً تمثل في العقدين الأخيرين بالزيادة في عدد براءات الاختراع، الذي تضاعف خلال العقد الأخير من الزمن. هذه الظاهرة باتت أيضاً ترسم معالم ازدواجية اقتصادية بين قطاعات إنتاج تعتمد على الملكية الفكرية وقطاعات لا تحتاج إلا إلى القليل منها. ويشير المحللون إلى مصدر هذه الازدواجية بأنه بخلاف قطاعات مثل الزراعة والصلب، فإن كلفة إعادة الإنتاج قليلة جداً في قطاعات مثل الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وصناعة الأدوية والتكنولوجيا العالية وغيرها، ومن دون حماية قانونية للملكية الفكرية فإن المنافسة القوية قد تؤدي إلى تقويضها.

إن ما سمح بهذا التزايد في عدد براءات الاختراع هو التحول الذي حصل في الممارسات القانونية. فقد توسع نطاق براءات الاختراع ليشمل علوماً جديدة بات ينظر إليها كتكنولوجيا في قطاع علوم الأحياء وفي برامج الكمبيوتر (بدءاً من أوائل الثمانينيات في الولايات المتحدة)، والتي كانت حتى آنذاك تعتبر كعلوم صرفة في إطار حقوق النشر وليس البراءات. والفرق أن براءة الاختراع لها مدلول سلبي تجيز لحاملها منع استخدامها من قبل الآخرين لفترة زمنية محددة. وامتدت براءات الاختراع في الولايات المتحدة عام 1998م إلى مناهج الأعمال (بيزنيس ميثود)، أي لوسائل جديدة للقيام بالأعمال التجارية وبشكل أساس تطبيقاتها الحاسوبية. ويؤخذ على هذا الانتشار أن الحد الفاصل بين الابتكار المفيد والابتكار غير المفيد أصبح واهياً، وأيضاً متشعباًً، بحيث إن سطراً واحداً في برنامج حاسوبي (سوفت وير) يتألف من مئات البراءات قد يكون كافياً لانتهاك حقوق الملكية. والمعارضة الأشد التي تواجه هذا المنحى تتركز أكثر في موضوع برامج الكمبيوتر، باعتبار أن معاملتها كبراءات اختراع هي إعاقة مهمة لتطورها المبني على التراكم.

وفي الممارسة أصبحت براءات الاختراع سلاحاً رئيساً في المنافسة وضدها. إذ تلجأ اليوم الشركات إلى التعاقد لتبادل الرخص وتجميعها كإحدى الوسائل الرئيسة لتجنب الإعاقات الناتجة عن انتشار حقوق الملكية الفكرية وزيادة تكاليف الدعاوي القانونية الناشئة عنها. ويغذي هذه التعاقدات نزوع إلى سباق تسلح بين رجال الأعمال لحيازة أكبر عدد ممكن من براءات الاختراع لوضع معوقات قانونية في وجه المنافسين، والمقايضة في الدعاوي القضائية أو التوصل إلى اتفاقات لتبادل الرخص تجنبهم دفع مبالغ كبيرة. وينشأ عن ذلك سلوك انتهازي كالبحث عن براءة اختراع لاستخدامها كطعم ضد شركات منتجة أو تحكم الشركات الكبيرة التي تملك آلاف البراءات بالشركات الأصغر. والشركة التي لا تملك براءات اختراع هي في موقع لا تحسد عليه. ومما يُسهِّل من هذه الممارسة، المرونة في إعطاء حقوق من هذا النوع، وهو ما يؤخذ اليوم على الواقع الحالي في الولايات المتحدة، ويدفع البعض إلى مساءلة شرعيتها وما إذا كانت نسبة قليلة منها لها قيمة فعلية.

إن الحرص على حماية حقوق الملكية الفكرية على المستوى العالمي من قبل الدول التي تنتجها أصبح مسألة ملحة في واقع الاعتماد المتزايد لتلك البلدان على الصناعات التكنولوجية، وانتقال أجزاء مهمة من الصناعات الأقل اعتماداً على التكنولوجيا إلى حيث العمالة الأرخص في بلدان أخرى. وقد أرفق منذ عام 1994م بعضوية منظمة التجارة العالمية اتفاقية الوجه المتعلق بالتجارة لحقوق الملكية الفكرية ، التي توسع نطاق حقوق الملكية لتطال برامج الكمبيوتر والصيدلة وغيرهما من التقنيات الحديثة، على أن تنتهي المهلة التحضيرية لتطبيقها عام 2006م. لذلك، فإن الاهتمام بإيجاد نظام ملكية فكرية ملائم لحاجات كل بلد ومنسجم مع الاتفاقيات الدولية يشغل اليوم عدداً كبيراً من البلدان، ويثير معه سجالاً حول ما هو الملائم.

ففي أوروبا يدور سجال صاخب حول امتداد البراءات إلى برامج الكمبيوتر والمعارضة له حالت دون تصديق البرلمان الأوروبي (2005م) على مشروع من أجل موقف أوروبي موحد في هذا الشأن. ووضعت الهند قانوناً جديداً لتقوية حقوق الملكية الفكرية (2005م). وفي الصين تضاعف الحكومة كل سنة العدد الذي تمنحه لبراءات الاختراع. فمع تقوية حقوق الملكية الفكرية عالمياً، ستكون البلدان التي لا تملك المعرفة التكنولوجية في موقع أضعف.

إلى ذلك، فإن الازدواجية التي يتسبب بها انتشار الملكية الفكرية بين قطاعات إنتاج لا تعتمد عليها كثيراً وقطاعات شديدة الاعتماد عليها، هي أيضاً ازدواجية تتأسس عالمياً، بين من يملك التكنــــــــولوجيا الحديثـــــة ومن لا يملكها، ذلك أن %90 من براءات الاختراع عالمياً تعود إلى الولايات المتحدة واليابان وأوروبا.

التكنولوجيا الرقمية وحقوق النشر
أحدثت الثورة الرقمية تغيراً مهماً في المفاهيم والممارسات في عالم النشر. والوعد الذي قطعته وسائل المعلوماتية الجديدة، كالإنترنت، في صناعة حيز عام واسع للمعرفة يشجِّع الإبداع وحرية الرأي لم ينفذ كما كان متوقعاً له، لا بل بات يضيق أمام استقواء نزعة الدفاع عن حقوق الملكية الفكرية. إذ توضع اليوم أشكال متنوعة من الحماية للملكية الفكرية، منها التقني لمنع الوصول إلى المادة، ومنها القانوني الذي شدد حصرية الملكية الفكرية في التكنولوجيا الرقمية أكثر مما كان موجوداً في الماضي. وفي أغلب الأحيان، فإن استخدام المعلومات والموسيقى والرسوم وغير ذلك لم يعد متوافراً من دون دفع بدل الإذن بذلك.

كانت حقوق النشر السابقة للعصر الإلكتروني تعطي لصاحب العمل المبدع، سواء أكان في الآداب أوالموسيقى أو الرسوم أو التصميم أو غيرها، حقوقاً قانونية حصرية تتيح له استغلال عمله بطرق مختلفة، مثل إعادة الإنتاج والتوزيع والعرض أو الاشتقاق، وكان قيام آخرين بنسخ العمل أو توزيعه من دون إذن صاحبه يعتبر انتهاكاً لتلك الحقوق. ولأن الهدف الأساس من حقوق النشر هو تحفيز المعرفة وليس إعاقتها وإغناء المجال العام، فإن حقوق النشر ليست غير محدودة التصرف من قبل حاملها، بل تقابلها حقوق أخرى تراعي استثناءات في التعليم والمصلحة العامة لجهة الوصول إلى المعرفة.

لقد كان هذا التوازن الدقيق بين نوعين من الحقوق في أساس مفهوم الملكية الفكرية . فما يعرف باسم الاستعمال العادل أو التعامل العادل في بريطانيا، هو المبدأ الذي يسمح بالنسخ والتسجيل ضمن شروط محدودة في إطار التعليم والبحث والنقد، على ألاَّ يكون استخدامها لعمل ربحي أو تجاري، وهو الأمر الذي يفسح المجال أمام الطلاب لاستنساخ مقالات، وأمام المعلمين لاستخدام مواد ذات حقوق ملكية في التدريس وللباحثين بالاقتباس. لا بل إن حقوق النشر لا تمنح لصاحبها حق السيطرة على الفكرة نفسها بل طريقة التعبير عنها. وهناك أيضاً حقوق أخرى تجعل من الممكن لمن يشتري كتاباً أو شريطاً موسيقياً أن يعيره أو يعيد بيعه، ذلك أن حق النشر محصور في المحتوى وليس في المادة التي تحويه. بالإضافة إلى استثناءات في حقوق النشر متعلقة بالتعليم والمكتبات وغيرهما.

لقد غيَّرت الثورة الرقمية معادلة التوازن هذه. فالسهولة التي يمكن فيها نقل المعلومات من خلال الإنترنت أو تسجيل الأفلام والبرامج أثارت مخاوف الناشرين من أن يؤدي عدم السيطرة على محتويات حقوق النشر إلى تقليص الأرباح، ودفعتهم باتجاه الضغط لتغيير القوانين من أجل حماية حقوقية أكثر مما هو موجود، خاصة في الدول التي يحتل فيها الإنترنت دوراً اقتصادياً مهماً كالولايات المتحدة وأوروبا. وهذا التغيير أزال من طريقه معظم الحقوق المقابلة لحق النشر واستثناءاتها في استخدامات الإنترنت. فلم يعد ممكناً التسجيل والنسخ ضمن شروط محدودة كما يحصل في الإطار التقليدي أو شراء المادة وإعادة بيعها، وزادت قدرة الناشرين على التحكم بالمادة وتوزيعها. ففي معظم الأحيان يقدِّم الناشرون مادتهم للمكتبات ليس كعملية بيع بل على شكل رخصة تعاقدية لفترة زمنية محددة، ويتصرفون أحياناً كثيرة بالمادة الأصلية، ويشترطون في الرخص عدم توزيع المحتوى أو إعارته خارج جمهور المستخدمين المباشر. وتنتهك هذه الممارسة في طريقها الخصوصية الفردية لما تتطلبه الرخص من تعريف بالأشخاص المشتركين، ولقدرة مراقبة المتصفحين وأي مواد يتابعون. ويشكو العاملون في المكتبات من تأثير ذلك على تهديد دورهم الأساس في حفظ وتسجيل الميراث الثقافي، وفي عدم قدرتهم على تطبيق الاستعارة بين المكتبات فيما يخص المحتويات الرقمية وغيرها من الأمور المعيقة.

الحقوق تؤدي إلى عكس غايتها؟
إن الإضعاف الذي تعرضت له الاستثناءات في حقوق النشر المرتبطة بوصول الجمهور إلى المعرفة في إطار التكنولوجيا الرقمية يهدد في نظر البعض التوازن الدقيق الذي قامت على أساسه ممارسات حقوق النشر في المجالات التقليدية، ويعزز الاتجاه لجعلها حقوقاً اقتصادية بحتة وتحويل المعلومة إلى منتج استهلاكي. ويشار أيضاً إلى أن حق النشر لم يعد يحمل صفة الحق المؤقت، حيث تصل مدته في أمريكا وأوروبا إلى 95 عاماً للشركات و 70 عاماً للأفراد بعد الحياة (قبل عام 1976م كانت المدة 28 عاماً في الحالتين)، وذلك في وضع تنتقل حقوق النشر فيه من الأفراد الذين يضطرون لبيع حقوقهم للموزعين والشركات الكبيرة.

هل أصبحت حقوق الملكية الفكرية في ظل التطور التكنولوجي عائقاً أمام نشر المعرفة بدلاً من أن تكون تسهيلاً لها؟

في دراسة أعدت في هذا الإطار سيقت أمثلة متنوعة لمعوقات من هذا القبيل في مجالات استخدام الإنترنت، مثل تأثير مخاوف انتهاك الحقوق الفكرية على مشاريع تعليمية تهدف إلى تبادل الخبرات والأساليب التعليمية بين المدرسين، وأن حقوق النسخ المسموحة في التدريس للطلاب لا تنطبق على حقوق التسجيل، وأن مشاريع حفظ المعرفة والموسيقى والتراث عبر التكنولوجيا الرقمية قد تجد نفسها أمام عملٍ شاقٍ جداً في محاولة لإيجاد التراخيص المطلوبة في حقوق النشر والتعامل معها، وما يسمى بالترخيص الإلزامي برسوم محددة من أجل المصلحة العامة أو لهدف تعليمي هو محدود بشكل كبير في الإطار التقليدي وغير موجود في إطار التكنولوجيا الحديثة.

إلا أنه يصعب التصور، في وضع طوَّرت خلاله تكنولوجيا المعلومات العديد من الطرق لتلقي المعلومات واستخدامها في الحياة اليومية والاقتصادية وسهَّلت وسرَّعت إلى حد كبير من استخداماتها، إن حصرية الاستخدام التي تفرضها الممارسات القانونية في البلدان المتطورة تكنولوجياً ستقوض هذه السيرورة بشكل فعلي وجذري. إن الاحتمالات الكبيرة التي تقدِّمها التكنولوجيا الرقمية تشكِّل رأياً عاماً أكثر اندفاعاً للمعرفة والتواصل والإبداع في وجه الحصرية المتزايدة لحقوق النشر، وتعبر عن ذلك إرادات مختلفة، منها ما يهدف إلى تغيير الوجهة القانونية الحالية من أجل التأسيس لاستثناءات في حقوق النشر هدفها المصلحة العامة كما يحصل في المجال التقليدي، ومنها ما يعمل لتثبيت مشاريع ضخمة لحفظ التراث الثقافي على تنويعاته، وأخرى تسهم في تشكيل فضاءات معرفية وثقافية مشتركة تشجِّع الإبداع والتواصل وتراكم المعرفة والعلوم وتعمل على مبادئ مختلفة عن حقوق النشر تغلب فيها المشاركة على حقوق التملك.

لقد أصبح سجال الملكية الفكرية أكثر صخباً في العصر الرقمي، لكنه لا يزال يطرح سؤالاً قديماً قِدَم قوانين الملكية الفكرية نفسها حول ما إذا كان بالإمكان تشجيع النشر الواسع للمعرفة والمحافظة في الوقت نفسه على الدوافع التي تأخذ شكلاً حقوقياً للمبدعين والموزعين، وكيف؟

وإذا كان هذا السجال مطروحاً بشكل أساس في الدول المتقدمة تكنولوجياً، إلا أنه يعني وبشكل جوهري الدول الأخرى، خاصة الفقيرة منها والتي يفتح مجال التعليم الرقمي بالنسبة لها إمكانات مهمة بسبب نقص الموارد التعليمية بشكل عام، وهي تعمل في إطار حقوق نشر مختلفة لا تحصر بل توسع الوصول إلى المعرفة من خلال تسهيل استثناءات حقوق النشر التعليمية وزيادة استخدام التراخيص الإلزامية لأهداف التعليم والمصلحة العامة. كما أنها معنية أكثر من السابق في هذا السجال في وضع يتجه إلى تقوية حقوق الملكية الفكرية عالمياً.

في أصول الملكية الفكرية وتبدلاتها
هذه الحصرية المتزايدة لحقوق الملكية الفكرية في الدول المتقدمة تكنولوجياً، والتي تعبر أيضاً عن نزوع إلى تقوية المنحى التجاري للمعرفة، تثير لدى العديد الحاجة إلى العودة إلى أصول مبادئ الملكية الفكرية ومساءلة ما إذا كان الفكر الذي هو ثمرة تاريخ إنساني عبر آلاف السنين من التراكم يمكن معاملته كملكية خاصة لفرد. ولكن يصاحب ذلك أيضاً قبول بالحاجة إلى ملاءمة مع العصر التكنولوجي، مع الاختلاف على طريقة التغيير التي قد تغذي أو تعيق تطور الإبداع ومراكمة المعرفة.

إن الملكية الفكرية كبراءات اختراع هي امتياز يعطى للفرد لاحتكار مؤقت لابتكار صناعي (وقد تطور عن نظام الاحتكار الجماعي للحرفة الصناعية لأوروبا القرون الوسطى)، ويعطى لصاحب الامتياز الحق باستخدامه حصراً دون غيره لمدة زمنية محددة على أن يكون الاختراع غير مألوف سابقاً وبالتلازم مع الإعلان عنه لكي يتسنى للآخرين تعلمه واستخدامه عند انتهاء مدة البراءة، وقد تحقق ذلك مع الإقرار بإلزامية مرافقة طلب البراءة بوصف كتابي للاختراع.

أما الملكية الفكرية في حقوق النشر فهي أيضاً من المفترض أن تكون حقاً مؤقتاً يمنح لشخص مبدع في إطار الثقافة والفنون تتيح له التصرف بمادته وإعادة نشرها واقتباسها وعرضها وغيره. والهدف الأصلي في نشأة الملكية الفكرية بشكل عام هو تعويض المبتكرين والمبدعين تكاليفهم وجهدهم وكحافز يشجعهم على الكشف عن اختراعهم أو نشر وعرض مادتهم بدل إخفائها.

وبقيت النظرة للملكية الفكرية كامتياز، حسبما تشير إليه دراسة تاريخية، حتى منتصف القرن التاسع عشر، وكانت رؤية الأفكار كملكية في أغلب الأحيان مستهجنة. فالإنسان يقف على أكتاف حضارات تعود إلى آلاف السنين، والمخترع الكبير يقف على أكتاف مخترع كبير آخر، والسهولة في عزل فكرة واحدة وادعاء ملكيتها قد تغيِّب الصورة الأكبر بأننا نعتمد على سلسلة من الأفكار لتطوير فكرة واحدة. وارتبط هذا الموقف بالملكية الفكرية كحق حصري يقدمه المجتمع أو لا يقدمه حسب إرادته وحسبما يجده ملائماً، وبالتالي فإن ما يعتبر طبيعياً ليس تملك الأفكار بل نشر المعرفة. وتعبير الملكية الفكرية لم يأت إلا بشكل متأخر كعنوان عريض لمجموعة حقوق تتعلق بالفكر والصناعة، مثل براءة الاختراع وحقوق النشر والعلامة التجارية وسر المهنة.

تجد هذه النظرة تعبيرها فيما خطه جيفرسون، وهو أحد واضعي الدستور الأمريكي، عندما كتب:
لقد جعلت الطبيعة شيئاً واحداً أقل تقبلاً من غيره لأن يكون ملكية حصرية وهو فعل قوة التفكير، وتسمى الفكرة، والتي يملكها الفرد حصراً لطالما يحفظها لنفسه، لكن في اللحظة التي يجري إفشاؤها، فإنها تفرض نفسها في حيازة الجميع لها (…) إن الابتكارات إذن، لا يمكن، في طبيعتها، أن تكون موضع ملكية. والمجتمع يمكن أن يعطي حقوقاً حصرية للأرباح التي يمكن أن تنشأ عنها، كتشجيع للأشخاص على متابعة أفكار يمكن أن تنتج منفعة، لكن ذلك قد يحصل أو قد لا يحصل، حسب إرادة المجتمع وما يجده ملائماً من دون ادعاء أو احتجاج من أحد .

إن هذه النظرة للملكية الفكرية قدمت نشر المعرفة كهدف، ولحقوق الامتياز الدور المشجع من خلال مكافأة الأفراد وحثهم على الابتكار والإبداع ومن أجل نشر الاختراع أو المادة، بدلاً من إخفائها، مع الإدراك لمعوقاتها، وأحياناً التشكيك في أهميتها التي تفرض حقوقاً حصرية ويمكنها أن تمنع التطور لمدة زمنية معينة.

هذا التوازن، إذا صح التعبير، بين نشر المعرفة وبين تشجيع الابتكار بواسطة حقوق حصرية وحقوق نشر لا يجنب بذاته محاذير قد تدفع بها باتجاه احتكاري أو بأضرار قد تلحقها بإنتاج المعرفة وتطورها. إذ إن تقصير مدة حقوق الملكية أو إطالتها، واختيار ما هو مفيد أو غير مفيد، وتوسيع نطاق حقوق الملكية أو تضييقه، كلها أمور قد تكون مؤثرة في دفع التوازن في اتجاه أو آخر. لكن من يقرر في النهاية هو المجتمع مع ما يحويه من مصالح مختلفة، وقدرة تلك المصالح في التأثير على تطورات تحصل من خلال المحاكم التي قادت في منعطفات أساسية (في الولايات المتحدة) إلى استقواء الملكية الفكرية.

يطرح هذا الأمر، بالنسبة إلى البعض، تساؤلاً حول ما إذا كان مفهوم الملكية الفكرية بما يرتبط فيه من محاذير على تطور المعرفة هو الأفضل، أم أن هناك طرقاً بديلة، لتعزيز تقدم العلوم والآداب المفيدة وتشجيع الابتكار الصناعي. فالملكية الفكرية، رغم أنها بقيت مرتبطة بحقوق أفراد، إلا أنها أصبحت تتغذى من شركات ومصالح كبيرة بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر، والفرد يضطر لبيع حقوقه للشركات مدفوعاً بالتكاليف العالية للمخاطر وتطوير الإنتاج وتوزيعه وبيعه.

الملكية الفكرية..
كي لا تصبح ملكية فقط
الهدف الأساس للملكية الفكرية، أي نشر المعرفة، يساق اليوم في إطار الدفاع عن التبدلات المهمة التي حصلت في العقدين الأخيرين. فيقال مثلاً في المنحى التجاري المتزايد للملكية الفكرية إنه يشجع إعلان الابتكارات أو نشرها بدلاً من إبقائها سرية، الأمر الذي يوسِّع استخدام المعرفة ولو بطريقة تجارية، وأنه تغيير يتماشى مع المنحى الاقتصادي الذي تتزايد فيه تعقيدات الإنتاج والتخصصية، بشكل حلت فيه شركات متخصصة تركِّز على أجزاء أضيق في الإنتاج محل الاندماج العامودي السابق، وأصبح الابتكار من أهم عناصر المنافسة.

لكن السؤال الأساس يبقى مطروحاً: ما قيمة مفهوم الملكية الفكرية في حال اختلال التوازن بين العام والخاص في تعريفه؟ ففي معاملة المعرفة كسلعة اقتصادية بحتة لا يعود هناك لزوم لهذا التعبير ومفهومه، وكلمة ملكية مثل سائر الملكيات الأخرى قد تكفي. لقد أسهم هذا التوازن على مدى قرون في استمرار نشر المعرفة والتطوير التكنولوجي رغم المعوقات الاحتكارية والتجارية. ومع اختلال التوازن في المنحى التجاري ستشكل حقوق الملكية الفكرية عائقاً أمام التطور بدلاً من أن تكون مُسهِّلاً، وتصبح مشاركة المعرفة مسألة شديدة الكلفة، وحصرية استخدام المعرفة أكثر تشدداً. وحتى بالنسبة إلى الأعمال التجارية الجارية تطرح مشكلات عملية، مثل تجزئة برنامج كمبيوتر واحد إلى مئات البراءات، وتظهر براءات لا قيمة لها، وتتأخر إجازات البراءات سنوات بسبب الزحمة على طلبها، وتصبح تكاليف الدعاوي التي تنشأ عن البراءات غير عادية. وهذه كلها مؤشرات تظهر اليوم في الدول الأكثر اعتماداً على الملكيات الفكرية.

الملكية الفكرية والمجال العام
يظهر في وجه تخصيص المعرفة نزوع معاكس إلى مشاركة المعرفة تساعد الإنترنت على انتشارها وتطورها. والظاهرة الأهم فيها هي ما يسمى المصدر المفتوح (أوبن سورس)، وهي مشروع يجعل مجموعة من المواد الأصلية متوافرة علانية لاستخدامها من قبل الآخرين ضمن شروط محددة، وأن تجري الإضافة والتحسين على المادة الموجودة ضمن الشروط نفسها. وقد كانت البدايات في التعاون في برامج السوفت وير ، وذلك بسبب التقليد الموجود أصلاً للمشاركة والتعاون في هذا الحقل، وتكرست بشكلها الحالي كرد فعل على توسعة براءات الاختراع لتطال برامج الكمبيوتر، وللتأكيد على استمرار مبادئ حرية الاستخدام وحرية التعديل وحرية التوزيع ، وانتشرت وأخذت طابعاً رسمياً في أوائل التسعينيات مع انتشار الإنترنت. النشر الحر (كوبي ليفت) استبدل حقوق النشر (كوبي رايت) كرخصة، وهو يتطلب من الذين يقومون بتحسين المادة بإعادتها إلى المجال العام. وأهمية المصدر المفتوح أنه يهيمن على سوق البرامج التي تستخدم في الكمبيوتر لخلق صفحات شبكات الإنترنت، ويحتل تقريباً ربع سوق أنظمة تشغيل الكمبيوتر من خلال المصدر الأكثر شهرة لينوكس ، وتتطور مصادر مفتوحة في مجالات حاسوبية أخرى تتحدى فيها الأنظمة التجارية. ومن المصادر المعروفة واسعة التداول أيضاً ما يسمى الموسوعة المجانية وكيبيديا .

ويعتبر المصدر المفتوح كوسيلة تساعد الأكاديميين، خاصة في العلوم التي امتدت إليها براءات الاختراع كعلم الأحياء، للاستمرار في العلم المفتوح في مواجهة التأثير السلبي لتحويل الجامعات إلى مساهمين ناشطين في اكتشاف براءات الاختراع. لكن رغم الاحتمالات والبراعم الموجودة، لم يتطور شيء مماثل لبرامج الكمبيوتر حتى اليوم، والتطور في علم الأحياء باتجاه التعاون في مصدر مفتوح طال حقل استخدامات الكمبيوتر في البيولوجيا أكثر من شيء آخر.

ومنذ عــــام 2003م تتوســـع ظاهــــرة مماثلة في المجال الثقافي، تعرف باسم المشترك الإبداعي (كرياتيف كومونز)، تسمح للفنانين بتقرير حقوق النشر التي يرغبون في الاحتفاظ بها وتلك الحقوق التي يفضلون مشاركتها. وتعبِّر عن سعي إلى الانتقال من موقف يعتمد بالكامل على حقوق النشر إلى إنشاء مجال عام إبداعي مشترك.

وقد شهدت السنوات الأخيرة زيادة في توظيفات الشركات، خاصة في إطار تكنولوجيا المعلومات، في مشاريع مصدر مفتوح ، أو في تخليها عن عدد من براءات الاختراع (والمثل الأهم قيام شركة آي. بي. إم. بالاستغناء عن 500 براءة اختراع للمصدر المفتوح)، وقبول التنسيق مع مستخدمي المصادر المفتوحة من قبل مايكروسوفت. والأسباب قد تتعدد، إلا أن التعايش ييدو للبعض ضرورياً في وضع تتعرض فيه العلوم التكنولوجية لاختناقات براءات الاختراع المتعددة.

هذه التطورات تشير إلى أهمية المجالات القائمة في إطار التكنولوجيا الرقمية، وإلى احتمالات التوسع الممكنة في شكل تعاوني مفتوح. لكن المراقبين يرون المصادر المفتوحة عرضة لمحيطها الأوسع، وأسلوبها لن يجنبها لوقت طويل التفاعل مع براءات الاختراع المتشعبة وأشكال الملكية الفكرية الأخرى، ويسجلون عليها افتقادها أطراً قانونية داعمة، ولكنها قد تشكل رافعة في التوازن المختل اليوم للملكية الفكرية في الممارسة علماً بأنها لم تصبح حتى الآن مفصلاً في تغييره.

اقرأ للملكية الفكرية
حقوق الملكية الفكرية
حقوق الملكية الفكرية

يجيب كتاب حقوق الملكية الفكرية , الصادر عن دار الفاروق للنشر عام 2003م, للمؤلف كرتيس كوك، عن التساؤلات المتعلقة بالملكية الفكرية. ويقع هذا الكتاب في 211 صفحة موزعة على عشرة فصول.
في فصله الأول، يعرض الكتاب نبذة عن تاريخ الملكية الفكرية وكيفية نشأتها ومصادر تطورها. ومن النبذة التاريخية إلى فترة أقرب للوقت المعاصر، يعرض سبب تغلب قوة العقل على قوة العضلات كمقياس للجدارة والكفاءة على مستوى الشركات وعلى المستوى القومي أيضاً.
ويتناول الفصل الثاني مرحلة الانتقال من الأصول الملموسة التي ساعدت على نشأة الاقتصاديات الصناعية الأولى إلى الأصول غير الملموسة في الاقتصاد المعرفي. كما يلقي الضوء على موضوعات وثيقة الصلة بزيادة الاهتمام بالملكية الفكرية في دنيا الأعمال. بالإضافة إلى تناوله الأنواع المختلفة للملكية الفكرية والتي تستحق الحماية, ومنها براءات الاختراع والعلامات التجارية وحقوق الطبع والنشر والتأليف والتصميمات الصناعية وأسرار المهنة وغيرها.
ويحتوي الفصل الثالث على شرح تفصيلي مع أمثلة توضيحية للأساليب المتعددة التي يمكن من خلالها حماية الملكية الفكرية.
أما الفصل الرابع فيعرض المنظمات الدولية والقومية والإقليمية والقواعد التي وضعتها. ويكشف الفصل الخامس مدى فعالية نظام الحماية الحالي للأفراد في مجالات الإبداع والعلم والتجارة والأعمال، بينما يعرض الفصل السادس جرائم السرقة والاحتيال التي تقع فيها الملكية الفكرية وأسباب خرق القانون.
وبعد تكوين الفكرة الشاملة عن الملكية الفكرية يعرض المؤلف في الفصل السابع مستقبلها ومستقبل قيمة الفكر في السنوات القادمة. وبما أن صورة الملكية الفكرية في المستقبل لا تكتمل من دون تأثير الإنترنت, يشرح الكتاب في الفصل الثامن قواعدها في هذا المجال. أما عن العوائق التي تواجهها المدن النامية والإستراتيجيات التي تطبقها الحكومات من أجل الالتزام بقوانين الملكية الفكرية أو تجاهلها في إطار مجهوداتها لدعم اقتصادياتها، فيتناولها الكاتب في الفصل التاسع. ويأتي الفصل العاشر والأخير ملخصاً كل الجوانب المضيئة والمظلمة في موضوع الملكية الفكرية.

أضف تعليق

التعليقات

ناصر

نشكركم على موضوعكم المميز وندعوكم لزيارة الموقع الرسمي للهيئة الدولية لحماية الابداع الادبي والفكري الذي يختص بحماية المنشورات الالكترونية ويضع ختمه على المواقع الالكترونية

http://www.icpli.org.uk/