قول في مقال

الـرفق بالبيئة.. يحسّن أرباح الشركات

كاد الاعتقاد بأن التشريعات البيئية تضر بأعمال الشركات الصناعية أن يتحول إلى يقين، غير أن كتابات معمقة ظهرت في صحف اقتصادية غربية بارزة تذهب في الاتجاه المعاكس، مؤكدة على أن مراعاة التشريعات والشروط البيئية يستطيع أن يزيد من أرباح الشركات على المدى الطويل.. فيما يلي تستخلص الزميلة تمار ياكينيان هذه الرؤية.

إذا ذَكرت كلمة “تقنين” لواحد من أنصار السوق الحرة، تكون كمن صرخ فجأة في وجه إنسان شارد الذهن. في البدء يصيبه الذعر، ثم الغضب. فمعظم الشركات يقاوم تنظيم العمل الاقتصادي بقوانين.. يقاومه بشراسة. والتشريع البيئي لا يُستثنى من هذا الأمر. ويرى أصحاب الأعمال إجمالاً، أن الميل إلى سلوك رفيق بالبيئة هو علامة ضعف.

ويدعي أنصار هذا الرأي أن تطبيق قوانين بيئية يقلص قدرة الشركات على جني أكبر ما يمكن من الربح. وقد صارت قناعة الشركات في هذا الشأن شائعة. ولعل فيها بعض القدر من التفكير المبرر. فالحذر حيال بعض القوانين المقيّدة للحركة الاقتصادية، ربما استطاع في الماضي أن يحمي ربح الشركات، ذلك أن هذا الحذر مكّن الشركات من منع تدني أرباحها. ونتيجة لذلك صارت محاربة القوانين المقيدة لعمل الشركات قاعدة عملية، بل قاعدة ذهبية، ومحوراً في سلوك الشركات الصناعية. وصار أي تشريع في نظرها تشريعاً سيئاً.

قيل إنه إذا سلكت الشركة سلوكاً بيئياً فإن هذا سيضر بربحها. فإما أن تقلق بشأن البيئة وإما أن تقلق بشأن الربح الذي تجنيه. هذا ما يظنه معارضو السلوك البيئي، فالسياسة البيئية قد تزيد المنافسة على الموارد الثمينة وتؤدي إلى ارتفاع أسعارها واستنزافها. أليس كذلك؟

لا، ليس كذلك، كما يقول خبراء الاقتصاد ومهندسو البيئة وخبراء الصناعة والشركات الكبرى.

ومع أن هذا الموقف الجديد لا يُعدُّ بعد تحوّلاً جذرياً نحو السلوك البيئي، إلا أن عدة شركات اكتشفت الكثير من الفائدة في تحوّلها إلى هذا السلوك البيئي الأخضر. ففي العقد الماضي، تبين لرجال أعمال خلاّقين أن هذا السلوك لا يعني بالضرورة إفراغ الجيوب، ولا يفترض حكماً افتقاد القدرة على جني الأرباح واستنزاف الموارد وإلحاق الضرر بالرفاه الاقتصادي.

لكن ما هي الحجج الأخرى التي درجت في خطاب معارضي السلوك البيئي؟ ألا يؤذي هذا السلوك القدرة على المنافسة الاقتصادية؟ ألا يقلّص فرص العمل؟

والجواب هو: العكس تماماً. فالسلوك الاقتصادي والصناعي الرفيق بالبيئة، سلوك مربح دائماً كما يبدو.

فالشركات التي التزمت اتباع خطة الرفق بالبيئة في عملها، أخذت تشهد مردوداً للاستثمار الذي أنفقته في هذه الخطة. ومع أن الاعتقاد الشائع يميل إلى أن البرامج البيئية تكلف مالاً لا يمكن استرداده، إلا أن الأدلة أثبتت أن العكس هو الصحيح.

فالبرامج البيئية مجزية من الناحية المالية. ويبقى على كثير من الشركات أن تقتنع إذن، أن نظم الإدارة البيئية تستطيع أن توفر لها المال، فترفع الحد الأدنى للربح، بدلاً من أن تخفضه.

المسألة برمتها هي في أن تُحسِن جني أرباح السلوك البيئي. وهناك عدة أبحاث أجريت ونشرت نتائجها في الآونة الأخيرة توضّح كيف أن الأداء البيئي الجيد يمكن أن يتحول إلى أداء اقتصادي جيد، وتشرح سبل جني أرباح السلوك البيئي من خلال تفصيل نظم الإدارة البيئية واتقاء التلوّث وأسلوب اتباعها. فتطبيق النظم المذكورة تطبيقاً مجدياً يفضي إلى مبتكرات مفيدة في اتقاء التلوث. ولا بد لأية شركة من أن تضع نصب عينيها اعتماد خطوات رفيقة بالبيئة، في إطار خطة عمل اقتصادي سليمة.

يبدو هذا الكلام لطيفاً حتى الآن، وليس أكثر من ذلك. ولكن ما هي بالضبط نظم الإدارة البيئية؟ إنها طرق، فكر فيها واضعوها ملياً. وهي طرق منظمة ومخططة، تساعد الشركة على حسن إدارة تعاملها بالبيئة.

وأكثر ما يهم في إدارة هذا التعامل، هو ما يمكن أن يستنفد الموارد، أو يفسد البيئة، أو يتسبب بمخاطر صحية للبشر.

إن سياسة الوقاية من التلوث هي تلك التي ترمي إلى إحلال التكنولوجيا التي لا تحدث تلوثاً محل تلك التي ينتج عنها أنواع من التلوث. وتركز هذه السياسة على تحسين أساليب الإنتاج لتقليص حجم النفايات أكثر من التركيز على معالجة النواتج والغازات. فمعالجة النفايات الصناعية باهظة التكاليف. وفي المدى البعيد، يكلّفك أقل بكثير أن تتّقي التلويث، من أن تعيد تنظيف الطبيعة بعد أن تلوثها.

ويؤدي اتقاء التلوث في الواقع إلى حفظ الموارد الطبيعية، لأنه يتشدّد حتى أقصى مدى ممكن في جدوى استخدام المواد الأولية.

رجال الأعمال عمليون. وليس مهماً حقاً إذا كانت تحفزهم أو لا تحفزهم مشاعر حب الطبيعة، والتضحية لأجل الغير ليست ضرورية في المعادلة حتى تكون الشركات مسؤولة تجاه شأن البيئة. فالكسب المالي هو المحرّك الأساس الذي سيحرّك الشركات حتى تجتهد في حماية الطبيعة. والحافز عند رجال الأعمال على الدوام هو السعي إلى زيادة الربح والإنتاجية والأداء، بتقليص النفايات الناجمة عن أعمالهم. وقد ظهر شعار في الصناعة أخذ يوجّه عمل الشركات، وهو يتضمن ضرورة بلوغ ثلاثة أصفار:

1 – صفر عيوب (جودة الصنع)
2 – صفر مخزون (تصريف المصنوعات)
3 – صفر نفايات وغازات

يقول ريتشارد فلوريدا وديرك ديفيسون، من جامعة كارنيغي ميلون، إن الشركات التي أخذت تتحرك بحافز اعتماد نظم الإدارة البيئية، تزداد شيئاً فشيئاً. ولا أحد يشك الآن في أن الأداء البيئي الشامل هو كسب أكيد. والأهم من هذا أن رجال الأعمال صاروا مقتنعين بأن اعتماد نظم الإدارة البيئية يحسن وضعهم في المنافسة.

ثمة يقين أن اتخاذ أساليب إنتاج رفيقة بالبيئة يزيد الربح. ولذا أنشأت المؤسسات الكبيرة صناديق للاستثمار في هذه الجهود. وهي تجني من ذلك فائدة قصوى، لأنها تستطيع أن تتكيّف مع مشاريع إعادة الهيكلة قصيرة الأمد، لتجني الأرباح في المدى الطويل. ولدى هذه الشركات “مصاعد” لتطوير تكنولوجيا إنتاج رفيقة بالبيئة. وتسمح لها التكنولوجيا الحديثة بتقليص النفايات الصناعية إلى أدنى حد ممكن، وخفض تكاليف الإنتاج، وبالتالي تحسين الأداء الاقتصادي الشامل.

إن هذه التكنولوجيا الصديقة للبيئة تُلبس الشركات رداءً أخضراً جميلاً، وتطوير التكنولوجيا الجديدة يتيح للشركات هذه أن تظل في طليعة صنّاع المبتكرات ويحول دون خمول الشركة.

يقول غراهام كويلي، المحلل في قطاع الصناعة الكيميائية في شركة “داو كيميكال”: “تحتاج الشركات الصناعية العاملة في قطاع الكيمياء إلى ابتكار أفكار جديدة تتيح لها أن تعود إلى النمو”.

المتشددون من أنصار السوق الحرة قد يتوقفون قريباً عن مصارعة الجهات الحكومية في شأن قيود الإنتاج. فحين يكتشفون أن تحسين أدائهم البيئي يجعلهم أجدى من الناحية الاقتصادية، وأقدر على المنافسة وأفضل أداء في أعمالهم، فسيصبحون أشد ميلاً إلى احترام الحدود البيئية في حدودها الدنيا. وقد يتحول ألد أعداء القوانين البيئية المقيّدة للصناعة، إلى أشد المؤيدين لها.

أضف تعليق

التعليقات