لغويات

العربية بين البريد الإلكتروني والدردشة

واجهت العربية أول أمرها مع الحاسوب مشكلاتٍ كبيرةً مرجعها تقني خالص؛ ذلك أن الحاسوب إنما صُمِّمَ بالإنجليزية، وكذلك مُلْحقاته. ولعل المشكلة المفتاحية كانت في صعوبة إدخال الحرف العربي إلى الحاسوب.

على أن العربية تجاوزت هذه المحنة، وانتقلت إلى مراحلَ نحسبها متقدمة في سبيل دخول عصر الحوسبة ومن ثمَّ مجتمع المعرفة. ولم تعد مشكلات العربية الآن تقنية وهندسية خالصة، ولكنها مشكلات نشأت عن تطويع الحاسوب للعربية، إذ تحولت حوسبة العربية من نعمة إلى شيء من الخطر؛ فقد انتشرت أساليب لغوية واستعمالات حادثة بدأت، على ما يرى كثير من اللسانيين، تهدِّد بنية العربية اللغوية، وتهدِّدها في منزلتها الاستعمالية التداولية، وفي نفوس الناطقين بها.

ونحن نقصد هنا دراسة واقع العربية في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة لنتشوَّف مستقبلها، لتوظيفها في حياتنا المعاصرة في مجالات التعلم ووسائل الإعلام المرئية والمكتوبة، ومن مجالاتها:
الأول: دراسة حقلية ميدانية تمثلت في تتبع نماذجَ واقعيةٍ من استعمال العربية في التراسل الإلكتروني، والتعليق على المواقع الإخبارية، والدردشة على «فيسبوك».
الثاني: استطلاع آراء عيِّنة واسعة من مستعملي الشابكة (البريد الإلكتروني E-Mail) العرب في الوسائل الثلاث السابقة.
الثالث: تتبع الدراسات السابقة، على قلتها، لمضاهاتها بنتائج هذه الدراسة.

العربية في البريد الإلكتروني
البريد الإلكتروني واحد من أهم نتائج ابتكار الشابكة، ويمكننا القول باطمئنان إنه أكثر أشكال التراسل الشابكي محافَظةً على القواعد اللغوية وتقاليدها الأصيلة؛ إذ لا يزال يحتفظ إلى حد بعيد بسمات اللغة الرسمية الفصيحة. وإذا كان الحيز المكاني المتاح للرسائل الإلكترونية قد أثر نسبياً في بنية اللغة المستعملة إلا أن الخيارات المتاحة له قد حافظت على سَمْت اللغة الرسمي؛ فإذا ما شعر المُرْسِل أن حجم رسالته سيتجاوز الحيز المتاح يرجع إلى إرفاق الملفات، وهي ملفات مدونة باللغة الفصيحة المكتوبة.

وقد قدَّمنا بالقول: إن استعمال اللغة الإنجليزية ومزاحمتها اللغات المحلية هو الموضوع الرئيس في لسانيات العولمة ولسانيات الشابكة؛ ولذلك فإنه من المعتاد التحدث عن استعمال العرب اللغة الإنجليزية في التراسل الإلكتروني.

وعلى الرغم من ضآلة الدراسات المتخصصة في الموضوع إلا أنه يمكن القول إن استعمال الإنجليزية في البريد الإلكتروني قليل بين العرب أنفسهم، وإنما يكثر حينما يكون الطرف الآخر في التراسل ناطقًا بالإنجليزية أو ناطقًا بلغة أخرى، فتكون الإنجليزية حين ذاك لغة مشتركة بينهما. وهذا يعني أن استعمال الإنجليزية يغلب أن يكون في سياقات رسمية وليست اعتيادية؛ كأن يكون بين مدير شركة عربي وآخر أعجمي… هكذا.

وليس همنا هنا أن نستعرض التأثيراتِ البنيويةَ للبريد الإلكتروني في العربية، وإنما نقصد تبين واقع استعمال العربية الفصيحة في هذا التراسل الشابكيّ، وقد أظهرت الدراسات الميدانية غلبة استعمال العربية الفصيحة في التراسل الإلكتروني في هذا الباب لدرجة ممتازة.

العربية في مواقع الدردشة (فيسبوك)
لعل ظهور مواقع الدردشة والتواصل الاجتماعي يمثل أقرب مظاهر اقتراب المجتمع الافتراضي الشابكي من المجتمع البشري؛ ذلك أن ثمة تشابهاً كبيراً بين التواصل الوِجاهي والدردشة من حيث بنية عملية التواصل وعناصرها وأساليبها اللغوية؛ فكثير من خصائص لغة الدردشة تضاهي الخطاب المنطوق في سيرته البشرية، وإن حكَمَتْهُ شروط التقنية.

ولا يختلف اثنان على أهمية هذه المواقع في حياة المجتمعات على مستوياتها المختلفة: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية واللغوية. وقد ظهرت للجميع أهمية هذه المجتمعات الافتراضية على نحو لا يقبل المماراة في حراك الربيع العربي وخاصة فيما انعكس أثره في تونس ثم مصر… وغيرها في أقطار العالم العربي ولاسيما موقعي «فيسبوك» و«تويتر»؛ حتى سماها بعض الناس ثورات الفيسبوك.

وقد شغلت اللغة المستعملة أداةً للتواصل بين الناس في هذه المنتديات والمجتمعات المهتمين والباحثين ومؤسسات الدراسة والبحث والتخطيط، على ما سيجيء في هذه الدراسة لاحقاً، ورغم ذلك لم يُحصِّل باحثو هذه الدراسة أي بحث علمي بالعربية يتناول العربية واستعمالها ومنزلتها على «فيسبوك».

وليس يعنينا هنا تحليل البنية اللغوية للعربية في هذه المواقع بقدر اعتنائنا بمنزلة العربية الفصيحة تعييناً لدى مستعملي هذه المواقع في التعبير عن آرائهم وتعليقاتهم.

أضف تعليق

التعليقات