الثقافة والأدب

الطوافة

  • Makkahbook4
  • 87938069_de7a253c54_o
  • hajj-426
  • Makkahbook1tif
  • Makkahbook2
  • 298065017_7cfbad2853_b
  • haram
  • Makkahbook5

هم ورثة فخر قريش وسنام شرفها بين القبائل العربية، وسدنة الحجاج والمعتمرين في مناسك بيت الله العتيق والمشاعر المقدسة. وإذا كان الحج مفتاح مكة, فالمطوفون هم مفاتيح شعائر الحج, وترجمان كل غريب لبَّى نداء خليل الله إبراهيم.
لا يكاد يخلو بيت من سكان أقدس بقاع الأرض إلا وفيه قلوب تشتاق إلى طلائع الحجاج, والتشرف بخدمتهم منذ ابتسامة الوصول وحتى دمعة الوداع. عمر المضواحي يروي لنا هذه الحكاية المكية الخالصة، وإليه تضيف القافلة بعض الإسهامات التي تتناول جوانب أخرى من مهنة الطوافة وعالمها الخاص.

المطوفون حكايات مكّية، تفاصيلها منسوجة في ذاكرة كل من قصد الكعبة المشرَّفة حاجاً كان أو معتمراً. حكايات روحانية بيضاء كملابس الإحرام, نقية كنقاء ماء زمزم, عطرة كأستار البيت العتيق. والطوافة أعرق المهن وأقدمها, قديمة قدم شعيرة الحج منذ أن وجه الله سبحانه الخليل (عليه السلام) بأن يؤذن للناس في الحج. يقول المطوف عبدالواحد برهان سيف الدين: هذا الأذان تردد عبر التاريخ, وكان له صدى استجابة بعد أن عمرت مكة, وبدأت رحلة الحج على مذهب الخليل, وبدأ الناس يحجون إلى بيت الله وبالمناسك التي أقرت آنذاك قبل الإسلام. وتفاعل المجتمع المكي مع الحج, فكان يقدم يد المعونة للحجاج, حتى أصبح الأمر مفخرة للمكيين على سائر سكان المعمورة .

ويضيف سيف الدين، وهو رئيس مجلس إدارة مؤسسة مطوفي حجاج الدول الإفريقية غير العربية: لكن بداية تبلور مهنة الطوافة بشكلها المعروف حالياً جاءت عندما ازدادت أعداد الحجاج غير الناطقين باللغة العربية, من الذين يغلب عليهم عدم معرفة أداء مناسك الحج .

بداياتها وتاريخها القديم
وحقيقة الأمر أن المؤرخين اختلفوا في تعيين البداية الحقيقية لمهنة الطوافة, فمنهم من قال إن الطوافة بدأت في زمن الإسلام بمعناها المطلق للدلالة والإرشاد الديني أثناء الحج, عندما نصَّب الرسول (صلى الله عليه وسلم) أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) أميراً على الحج. ومع انتشار الإسلام واتساع بقعة العالم الإسلامي جغرافياً وازدياد أعداد الحجاج وتعدد لغاتهم وحاجاتهم، بدأ كل بلد إسلامي في تعيين أمير على حجه، يأتي بالحجيج إلى مكة في كل موسم. وفي عصر المماليك, عيَّن أمير مكة لكل من هذه البعثات مرافقاً محلياً من الشخصيات المرموقة في مكة لكي يرشدهم خلال الموسم, وكانت هذه هي المرة الأولى التي ظهرت فيها المعالم المهنية للطوافة وأخذت بعداً وظيفياً محدداً .

الطوافة الحالية: عثمانية البدايات؟
لكن المؤرخ المكي الشيخ عاتق البلادي يرى أنها لم تكن معروفة في العهود الإسلامية السابقة. لا في صدر الإسلام ولا في الدولة الأموية أو العباسية, ولا في العهد المملوكي . مشيراً إلى أن ظهورها على أيدي الأتراك إبان حكم الدولة العثمانية عندما كانوا يأتون إلى مكة, يستعينون ببعض العلماء للقيام بمهمة طوافة كبارهم. فأخذها عنهم أهل مكة، وشرعوا بعدها بتطويف أصدقائهم ومعارفهم القادمين للحج أو العمرة، إلى أن تحولت في النهاية إلى مهنة تعدُّ من أهم المهن حالياً في مكة المكرمة .

وخلص المؤرخ البلادي إلى اعتقاده بأنها بدأت في القرن العاشر الهجري بعد أن احتل الأتراك البلاد العربية ومن ضمنها منطقة الحجاز, مستدلاً على قوله بأن هناك كماً هائلاً من القصص التي وردت في أدب رحلات الحج يصف فيها الرحالة دور المطوفين في رحلاتهم إلى مكة والمدينة, وهي مدونة كشذرات في كثير من الكتب والتصنيفات . لكن الدكتور حسن بن علي مختار عضو مجلس الشورى السعودي يرى من جانبه أن مهنة الطوافة لم تكن طارئة على أهل مكة المكرمة بل إنها امتداد تاريخي منذ أن استُوطِنت هذه الأرض المقدسة والمعروفة في التاريخ الإسلامي برحلة إبراهيم عليه السلام مع ابنه إسماعيل وزوجه هاجر، الذي استجاب لأوامر الله له ببناء الكعبة وجعل البلد الحرام مقصد الحج، وتوارث سكان مكة آنذاك من قريش القيام بهذه الخدمات، ووزعت بينهم المسؤوليات فمنهم من كُلِّف السقاية والرفادة، ومنهم من قام بالحجابة والإيواء، ومنهم من كان مسؤولاً عن حماية وأمن الحجيج .

وبالعودة إلى المطوف سيف الدين، فهو يؤكد أن الوثائق العثمانية تشير إلى أن حاكم مصر في العهد العثماني عندما قدم إلى مكة قابله قاضيها آنذاك, وعلمه الطواف ومناسك الحج والعمرة. وعندها بدأت الدولة العثمانية بتنظيم هذا الموضوع. وبدأت تخصص العلماء في تولي خدمة فئات معينة من الحجاج, وبعدها أصدرت أوامرها (فرمانات) بعضها من الباب العالي, والبعض الآخر من أمير مكة, ليتم بموجبها تخصيص شخص معين لكل بلد معين, ووضعت تنظيمات لمعرفة هذا الشخص وكيفية التعامل معه منذ وصول حجاج تلك البلاد وحتى مغادرتهم .

التعامل يرتقي إلى الود وحتى المصاهرة
وزاد سيف الدين: هذا التنظيم ظهر جلياً في المدن التركية حتى أنه لم تعد توجد قرية أو مدينة تركية إلا وهي موزعة على مطوف أو أسرة معينة في مكة تتوارث خدمة حجاجها. وأنشأت هذه التعاملات علاقة ودية بين المطوف وبين حجاجه قد تصل إلى المصاهرة والرحم. وفي المقابل، كان بعض المطوفين يزورون الحجاج في بلادهم, وكانوا يعتبرون زيارة المطوف لبلادهم شيئاً عظيماً يفخرون به, كونهم قدموا من مكة المكرمة, وتحملوا مشاق السفر وتعبه للوصول إليهم . مبيناً أن التنظيمات تتابعت حتى وضعوا لها مشيخة ويتولى شيخ المطوفين عملية إبلاغهم بالمعلومات والتعليمات, وحل مشكلاتهم مع الحجاج. وكان يُعيَّن من قبل أمير مكة, ويرد اسمه وأسماء المطوفين في السرنامة التي تصدرها الحكومة التركية والتي ترصد فيها أسماء كل موظفي الدولة في كل ولاية من ولاياتها .

صورة الشخصية المكية
والمتابع لتاريخ مهنة الطوافة, كونها أهم المهن التي يفضلها المكيون، وظلت لسنوات مصدر الدخل الوحيد لهم، يجد دوراً واضحاً وتأثيراً حاضراً لهذه المهنة وبشكل مباشر في ثقافة المجتمع المكي. وسيقف المتابع على شواهد وافرة في أن المطوفين كانوا رافداً مهماً في التعريف بالشخصية المكية قديماً, وبعاداتها وتقاليدها وبالخصائص التي تتميز بها من خلق وقيم وآداب وفضائل تحكم سلوكها, إلى جانب الحرص على التعريف بآثار مكة ومعالمها المقدسة, وتراثها التاريخي والأدبي والاجتماعي، لكل من قصد مكة حاجاً كان أو معتمراً.

ويقول الدكتور بكر أحمد باقادر، أستاذ علم الاجتماع في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة: تتميز شخصية المكيين في قبول الآخر والانفتاح عليه, والدعوة إلى حواره, بدرجة رفيعة من التسامح والتعددية . ورصد المستشرق الهولندي الدكتور كريستيان سنوك هورخرونيه الذي أقام في مكة وجدة عاماً كاملاً (1884 – 1885 ميلادية) أن عرب مكة أذكياء، لطيفو المعاشرة والتخاطب، مجاملون، متأدبون، مع احتفاظهم بشعور العزة والكرامة, يستضيفون ويضيِّـفون وأنهم يكرِّسون جهودهم لحياتهم الاجتماعية, وأن الذي يراقب حياتهم عن كثب يجد, بجانب الخشونة والفظاظة عند بعضهم, أناساً نبلاء المعشر, كريمي الصفات، أتقياء ذوي ورع وصلاح .

ويقول الكاتب عبدالله محمد أبكر: إن العلاقة بين الحاج ومطوفه لم تكن علاقة عابرة تقوم على خدمة بمقابل وينتهي كل شيء. بل كانت علاقة روحية يستشعر فيها الحاج أن مطوفه هو من بقية السلف الصالح . وفي حديثه لـ القافلة ذكر أنه استعان برجالات مكة ومنهم المطوفون للنقل عنهم وإلقاء الضوء على الصور الاجتماعية التي تبرز حضارة مكة وثقافتها العالمية الموغلة في القدم عند تأليفه كتابه القيم صور من تراث مكة المكرمة في القرن الرابع عشر الهجري لينقل عنهم تاريخ مكة المكرمة بصورها الحية, وذكرياتها الدينية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية الزاخرة بأخبار السنين الخوالي.

ولعب المطوفون دوراً مهماً في إثراء الحياة الثقافية في مكة المكرمة، ومن الشواهد على ذلك ما رصده فضيلة الأستاذ الدكتور عبدالوهاب بن إبراهيم أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء السعودية, عندما عدَّ المطوفين كأحد روافد توافر الكتب في مكة في القرن الرابع عشر الهجري. وذكر أنه نظراً لكون بعض المطوفين على علاقة قربى, وصلة رحم ببعض أصحاب المكتبات (في العالم الإسلامي) فهم يوصونهم بإحضار بعض طلباتهم من الكتب, وغالباً ما تكون من الكتب النادرة . واستدل بدور أحد المطوفين في هذا المجال في قوله من مطوفي المغاربة المشهورين فضيلة الشيخ إسماعيل جمال حريري -رحمه الله تعالى- كانت تربطه علاقة قوية مع العلماء, وطلاب العلم, وأصحاب المكتبات, فكلما عزم على السفر إلى المغرب عرض خدماته على أولئك, وكثيراً ما كان يوفق في إحضار ما يريدون من الكتب المهمة .

صورة من استقبال
المطوفين للحج والحجيج
يقول المطوف عبدالواحد برهان سيف الدين، رئيس مجلس إدارة مؤسسة مطوفي حجاج الدول الإفريقية غير العربية: إن الطوافة وخدمة الحجاج من أوائل القطاعات التي استفادت من خدمة (البرقيات) عندما بدأ استخدامها في المملكة. فبمجرد وصول الباخرة إلى ميناء جدة يبرق الوكلاء للمطوفين في مكة عن وصول الحجاج من أية جهة قدموا وعددهم. وإذا وصل الحجاج عن طريق البر سواء ضمن القوافل أو راجلين على الأقدام, فإنه يوضح ذلك في برقيته ويصف طريقة وصول الحجاج. ثم يضع في البرقية بعض التفاصيل يوضح فيها للمطوف بعض المعلومات التي يحتاجها ليتم الاستعداد لاستقبال الحجاج القادمين بحسب احتياجهم وطلباتهم المتعارف عليها عاماً بعد عام.

ويذكر سيف الدين أن المطوفين كانوا يجتمعون في بداية الموسم في حي البيبان (غرب مكة على الطريق المؤدي إلى جدة), ويرسلون مندوبين عنهم لاستقبال الحجاج عند دخولهم حدود مكة. ويضيف: إن خدمة البرقيات كان لها أثر كبير جداً. لأن دخول الحج ليس سهلاً, حيث يصل الحجاج بعد رحلة شاقة ومتعبة, ووصولهم يغير الحياة كلها في مكة, ويتفاعل كل أهل مكة معهم.

ويصف سيف الدين صورة يفتقدها الآن حول كيفية استقبال المطوف الحجاج بقوله: كان لكل مطوف مجلس خاص خارج بيته (مركاز) أو في أول مدخل الحارة, حيث يجلس مع أصدقائه لتمضية الوقت. وعندما يتأخر وصول الحجاج في أول الموسم يحتار المطوف ويظل شارد الذهن، ويفكر في إن كان سيأتي أحد من الحجاج إليه أم لا في هذا الموسم، إذ كانت وسائل الاتصال محدودة.

وفي المقابل عندما تصل برقية إلى أحد المطوفين، يحملها مراقب البرقيات ويأتي بها مسرعاً. وعندما يصبح على مقربة من مركاز المطوف يرفع صوته قائلاً: البشارة يالشيخ.. البشارة يالشيخ.. جايبلك برقية من وكيلك في جدة . وعندما يسمع المطوف اسمه ينشرح صدره من البشارة. فيبدأ الناس في الحارة يباركون له ويرددون قدوم خير يالشيخ قدوم خير إن شاء الله , وتصدح زغاريد النساء من خلف الرواشين فرحاً بقدوم الحجاج. ومن دون أي تردد، يخرج المطوف لا شعورياً كل مافي جيبه ويعطي صاحب البشارة بشارته ويزيد في إكرامه.

المطوف والطوافة
اشتق اسم المطوف -ومؤنثه مطوفة- من أصل الفعل طاف/يطوف. والطائف هو من طاف حول الكعبة المشرفة سبعة أشواط. والطائفة هي الجماعة من الناس, ومنها جماعة المطوفين. والملاحظ بحسب كلام الدكتورة فاتن حسين أن كلمة (طوافة) على وزن فعالة والتي تطابق في الوزن كلمات مثل (رفادة, وفادة, سدانة, سقاية) وهي مهن وجدت في قريش قبل الإسلام, كما أنها على وزن تجارة وصناعة وزراعة, وهي مهن متنوعة. ويمكن تعريفها بأنها المهنة التي يقوم بها الشخص الذي يستقبل الحجاج الوافدين إلى مكة ويقوم على خدمتهم. حيث يستضيفهم ويرشدهم في طوافهم وسعيهم ويعينهم على أمور دينهم وأداء مناسكهم. ويؤمِّن لهم الراحة والطمأنينة منذ ساعة قدومهم إلى حين مغادرتهم البلاد المقدسة.
ويساعد المطوفون وكلاء لهم في جدة، لأنها تمثل البوابة الرئيسة التي يلج فيها الحجاج إلى أراضي المملكة ويقدم هؤلاء الوكلاء خدمات الاستقبال وتحصيل أجور نقل الحجاج إلى مكة المكرمة أو المدينة المنورة، وتقديم كافة التسهيلات المطلوبة. كما يعاون المطوف الزمازمة الذين يقدمون ماء زمزم يومياً إلى الحجاج في مقر إقامتهم وفي المسجد الحرام منذ قدومهم وحتى مغادرتهم.
أما الإدلاء جمع (دليل) فيقدمون خدمات متكاملة في المدينة المنورة للحجاج من إسكان وإعاشة وترحيل وزيارة المسجد النبوي وغير ذلك من الخدمات التي تعتبر مساندة لما يقوم به هؤلاء تجاه الحجاج، وهنا تجدر الإشارة إلى أن المطوِّف هو الذي يختار من يكون له وكيلاً في جدة أو دليلاً لحجاجه في المدينة المنورة أو الزمزمي الذي يقدِّم ماء زمزم إلى حجاجه القادمين باسمه.

حجاج في بيت مطوف
يقول المطوف عبدالواحد سيف الدين: إنه عندما يصل الحجاج إلى مكة المكرمة, يبدأ المطوف بأخذهم للدعاء وهم مستقبلو القبلة، ويرفع الجميع أيديهم في خشوع مرددين خلفه اللهم اجعل لي بها قراراً وارزقني منها حلالاً، اللهم إن الحرم حرمك والبلد بلدك والأمن أمنك والعبد عبدك، جئتك بذنوب كثيرة وأعمال سيئة، أسألك مسألة المضطرين إليك المشفقين من عذابك أن تستقبلني بمحض عفوك وأن تدخلني فسيح جنتك جنة النعيم، اللهم إن هذا الحرم حرمك وحرم رسولك فحرِّم لحمي ودمي وعظمي على النار . وبعد أن يكمل دعاءه يصلي الجميع على النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وهم يمسحون على وجوههم. ثم يأخذ المطوف الحجاج إلى داره ليقدِّم لهم واجب الضيافة. وبعدها يطلب من ضيوفه تجديد وضوئهم في البيت أو يقوم بأخذهم إلى بئر طوى في حي جرول الذي اغتسل فيه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). ثم يأخذ المطوفون حجاجهم من بيوتهم في مختلف الأحياء, ويمشون كمجموعات يرافقهم أبناء وبنات المطوف اللائي كن يسرن في المؤخرة مع النساء. ويحمي هذا الموكب صبيان المطوف الذين يخرجون معه خوفاً من أن يتوه حاج أو تتخلف امرأة عجوز عن الركب وغير ذلك. وطوال المسيرة إلى المسجد الحرام، يردِّد الجميع الدعاء والتلبية بصوت جهوري يتردد صداه في جنبات الأحياء. ومع خروج أفواج الحجاج خلف مطوفهم يبادر الأهالي في الأسواق والمنازل والطرقات بتهنئة المطوف ببدء الموسم بصوت مسموع (قدوم خير يا شيخ فلان) حتى وصولهم إلى أبواب المسجد الحرام.
عند مشاهدة الحجاج البيت العتيق تفيض أعينهم بالدموع, وتنتابهم رعشة خشوع فيرفع المطوف صوته داعياً بدعاء رؤية المسجد الحرام لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أعوذ برب البيت من الفقر ومن عذاب القبر وضيق الصدر، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، اللهم زد بيتك هذا تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابة ورفعة وبراً وزد يارب من كرَّمه وشرفه وعظمه تشريفاً وتعظيماً ومهابة ورفعة وبراً . وعادة ما يدخل الحجاج من باب السلام عند قدومهم لأداء طواف القدوم. وبعد أداء الطواف والصلاة يعود المطوف بالحجاج إلى بيته إذا كان عددهم بسيطاً. حيث يقيمون معه في داره ومع أهل بيته, ويتصرفون وكأنهم من أهل البيت, حيث يشترك الجميع في تناول وجبات الطعام معاً.
ويذكر المطوف سيف الدين أن والده -رحمه الله- كان يستضيف الحجاج القادمين مبكراً عن موسم الحج في بيته, حيث يحضرون معنا كل مناسبات الأفراح والأتراح, بل إنهم كانوا يعتبرون أنفسهم أفراداً في أسرة المطوف, ولا يترددون في شراء مقاضٍ للبيت أو حطب للمطبخ, أو حتى علف للأغنام التي كانت تُربى في أحواش صغيرة ملحقة بالبيوت . كما أن الحجاج عادة ما يجلبون معهم أمانات, أو مبالغ مالية من حجاج اقترضوها من المطوف في الموسم السابق عندما نقصت عليهم النفقة, أو هدايا يرسلها بعض حجاج أو حاجات الموسم السابق للمطوف وأسرته. فهذه الهدية له من فلان, وتلك لابنه فلان, وأخرى لابنته فلانة, وأيضاً لزوجته, وهكذا. وهي هدايا رمزية عادة ما تكون من منتجات بلادهم كقطع الأقمشة أو حلويات أو غيرها, وبرغم رمزيتها إلا أنها ذات معنى كبير تؤكد مدى العلاقة بين المطوف والحجاج في الزمن السابق.

شقائق المطوفين..
المرأة المكية في خدمة ضيوف الرحمن
مهنة الطوافة من المهن التي تعتبر مشاركة المرأة فيها أمراً ملحاً نظراً لأن أعداد النساء الحاجات قد يصل إلى مستوى أعداد الرجال. وهؤلاء بحاجة إلى من يرشدهن ويوجههن لأداء المناسك وإلى من يسهر على راحتهن ويوفر لهن احتياجاتهن الخاصة وفي حالة مرضهن إلى من يطببهن.
وتؤكد الدكتورة فاتن، وهي ابنة مطوف ومؤلفة كتاب أعلام الطوافة المطوفات.. دراسة استقصائية أن المرأة عملت في مهنة الطوافة في المراحل التي سبقت مرحلة المؤسسات وكان يحق لها توريث المهنة لأبنائها. ورصدت في كتابها أسماء عدد من النساء المكيات اللاتي حصلن على صكوك (فرمانات) يحق لهن بموجبها ممارسة مهنة الطوافة لبعض البلدان, مثل السيدة جميلة حمامي, ورقية سالم باشا, وبنات الحناوي, وابنة عبدالقادر نصير, وجميعهن كن مطوفات لبلدات في آسيا الصغرى.

مَهَمَّاتُهن
وقالت في حديث لها مع القافلة : إن زوجات وبنات المطوفين كن يتولين القيام بمهام كانت توكل إليهن من خلال آبائهن أو من يقوم مقامهم من المطوفين في ذلك الوقت. ومن أبرزها استقبال الحجيج وتقديم واجب الضيافة وتحضير الأطعمة وإعداد الأصناف التي كانوا يأكلونها في بلادهم زيادة في إكرامهم, وتوفير ماء زمزم البارد, وتأمين السكن وتهيئته إلى جانب الذهاب مع النساء إلى الحرم للتعريف بأماكن معينة داخله, والسعي لخلق تواصل بين الحاجات وإشعارهن بأنهن يعشن في وطنهن وبين أسرهن. مشيرة إلى أن أميرة بهوبال في حجها إلى مكة في نهاية القرن التاسع عشر ذكرت كيف أنها وجدت صحبة نساء المطوف في غاية المتعة والأهمية لأنها تقوم على حسن المعاملة والرفقة الطيبة. كما أن المطوفات يقمن أيضاً بتأمين حاجيات الحجيج ومرافقتهم في التسوق إلى جانب الدور التوعوي الذي تقوم به المطوفة من خلال الندوات والمحاضرات الدينية. وأكدت أنه كلما كانت معاملة المطوف وأهله للحجاج معاملة إنسانية كريمة ذاع صيته بين الحجاج وكثر حجاجه. لأن ذلك يمثل أكبر دعاية له بينهم فيتضاعف الإقبال عليه في المواسم اللاحقة.

العربية حج اللغات!
تماماً, كما تجمع عرفة الحجيج بكل أعراقهم وألوانهم ولغاتهم على صعيدها الطاهر, تجمع اللغة العربية بينهم في موسم الحج. ويحرص معظم الحجاج على تعلم نطق الكلمات العربية البسيطة التي تسيِّر حياتهم اليومية في رحلة الحج لتكون اللغة المتفق على اعتمادها في التخاطب بينهم نظراً لتعدد لغاتهم, معتمدين على معرفتهم بقراءة القرآن الكريم في صلاتهم.
وفي المقابل، تعلم أهالي مكة خصوصاً المتعاملين مع الحجاج لغاتهم. فتجد كثيراً من الباعة في الأسواق يعرفون العد والحساب والمحادثة بأكثر من لغة ليسهل لهم كسب ثقة الحجاج الناطقين بها وإقناعهم بالشراء منهم. كما أن النسيج الاجتماعي في مكة يشتمل على عائلات أكرمها الله بالجوار والإقامة في مكة منذ زمن طويل, فتجد منها عائلات تعود أصولها إلى الهند أو إفريقيا أو الصين وغيرها. وعادة ما يكون أبناؤها يتقنون أكثر من لغة بفضل مخالطتهم بعضهم بعضاً في مكة, وكان المطوفون ولا يزالون يستعينون بهم كمترجمين لهم في بعض الأحيان أو كمندوبين في التواصل مع الحجاج أو في أداء الأمانات أو إرسال رسائل معينة إلى الحجاج في بلادهم.

من حكايات الطوافة
كانت الطوافة في عهد المماليك مقتصرة على القضاة في مكة. ثم انتقلت في العهد العثماني إلى أعيان البلد المتفقهين في الدين. ومنهم إلى طلبة العلم الذين كانوا يأتون إلى مكة، فيستضيفهم وجهاؤها ويعينوهم على التفقه في الدين. كان هؤلاء المقيمون من جنسيات كثيرة، بعضها عربي، وبعضها الآخر من بقية الدول الإسلامية. ولذلك، كانت الطوافة في بداياتها تعتبر من مهن الصف الأول، ويمارسها المنتمون إلى طبقة الأشراف والحكام والأمراء وعلية القوم. ثم تحولت تدريجياً لتصبح في متناول كل طبقات المجتمع.

وكانت تقاليد المهنة تقتضي بدايةً ألا يمارسها إلا أبناء الطوافة، وتورث بالتالي من السلف إلى الخلف. ومن ذلك ما ذكره السيد عبدالرزاق حمزة، مستشار وزير الحج والأوقاف السابق، في حديثه إلى القافلة عن مطوفي بلاد الجاوة والهند وغيرها من البلدان الإسلامية. فقد كان المطوف منهم يحرص على تعليم أبنائه لغة الحجاج الذين التزم بتطويفهم، إعداداً لهم ليكملوا المسيرة من بعده. وكان المطوفون يشذون عن هذه القاعدة في حال خدم عندهم أحد الصبيان مدة 15 سنة متواصلة، وأراد بعدها أن يكون مطوفاً مستقلاً برضا وطيب نفس معلمه. وقتها، تجتمع جماعة من المطوفين ليشهدوا له بأنه قد خدم عند مطوفه كصبي طواف مدة خمس عشرة سنة متواصلة، ثم تتجه هذه المجموعة إلى رئيس المطوفين وبحضور هيئة أمناء المطوفين ليدلوا بشهادتهم ويزكوه. فإن حاز رضاهم، خرج من عندهم مطوِّفاً مستقلاً.

ومن تقاليد مهنة الطوافة، يقول السيد عبدالرزاق حمزة: إن المطوف يرتدي عِمّة لتميزه عن بقية الحجاج. وإذا كان الحاج عظيم المنزلة، قام المطوِّف نفسه بتطويفه، فإن كان أقل من ذلك قدراً، طوفه ابن المطوف. أما إن كان الحاج من عامة الناس، فإن أحد صبيان الطوافة هو من يقوم بتطويفه. ويذكر السيد عبدالرزاق أن معظم المطوفين كانوا يعتمدون اعتماداً كاملاً في رزقهم على ما تأتي به طوافتهم للحجاج. ذلك أن الحجاج كانوا يأتون قبل شهر الحج بمدة طويلة. فالباخرة الهندية مثلاً كانت تأتي بحجاجها في شهر رجب، وتعود لأخذهم بعد ثلاثة أشهر من انتهاء موسم الحج. وفي نصف السنة الآخر، وهي الفترة التي تسمى بفترة البصارة ، حيث لا يشغل الحجاج أرض مكة، كان المطوفون يشتغلون بإصلاح البيوت التي تستقبل الحجاج وغيرها من الأمور استعداداً لفترة الحج. وكانت عادة المطوفين منذ أن بدأت مهنة الطوافة الالتزام بإكرام الحاج وتولي تيسير إقامته من دون تحديد لرسم معين يدفعه الحاج، بل كان الحجاج في نهاية زيارتهم يجتمعون ليفرش أحدهم وعادةً ما يكون حاجاً سبق له الحج ويسمون بالمعاودين منديلاً أو قطعة قماش بيضاء، ويدعو زملاءه لإكرامية المطوف، كلٌ بما تجود به نفسه، ابتداءً من جنيه واثنين وحتى الخمسة والعشرة جنيهات. ومن الحجاج من لم يكن يستطيع دفع شيء، فيغطي على عوزه كرم زملائه. واستمرت هذه العادة تقليداً متبعاً حتى صدر القانون بتعرفة الحجاج في عام 1326هـ، وجاء فيها أن الحاج الجاوي يدفع جنيهاً عثمانياً أجرة مسكن بمكة، وعشرة جنيهات هندية يدفعها الحاج من الهند لمطوفه، وخمسة ريالات مجيدية لأهل الصعيد وغزة والعراق وما إلى ذلك.

ويذكر السيد عبدالرزاق وقتاً كان نصف الحجاج يأتون بالسيارات ونصفهم الآخر على الجمال، فتمتلئ مكة بالجمال، ويصل رغاؤها إلى بيوت مكة. ويُروى عن أحد الحجاج المغاربة، أن الحجاج كانوا يخافون المبيت في مزدلفة خشية أن تدهسهم حوافر الجمال، بينما هم نيام، من كثرتها.

ومن ذكريات السيد عبدالرزاق، ما رواه في معرض حديثه عن دعاية المطوفين لأنفسهم، حيث كان كل مطوف يرسل خطابات تهنئة بشهر رمضان المبارك وعيد الفطر إلى كبار الحجاج من البلد الذي التزم بتطويف حجاجه. وكان البعض منهم يزورون البلد للدعاية لخدماتهم وحث الناس على الحج، وكانوا يجدون إكراماً وفرحة بهم، كممثلي البلد الكريم، مكة المكرمة. وكان بعض المطوفين يقبل باستضافة عشرة من الحجاج والتكفل بنفقاتهم، في حالة أن أتى من البلد خمسمائة أو سبعمائة حاج، مثلاً.

وأحياناً، يستعد المطوف لاستقبال عدد معين من الحجاج، فيعد لهم ما يكفيهم من مسكن وتحضيرات، ويفاجأ وقت الحج بحضور ضعف هذا العدد. وفي ذلك ما يُروى عن أن مجموعة من الحجاج الباكستانيين أرسلت إلى خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبدالعزيز -يرحمه الله- وكان وقتها ولي العهد، برقية تقول: نحن في كربٍ عظيم ، فأثارت البرقية ضجة، وظُن أن حريقاً قد وقع أو كارثة من هذا القبيل، فلما استدعى وزير الحج والأوقاف، عبدالوهاب عبدالواسع -رحمه الله- مطوف هؤلاء الحجاج، اتضح له أن المطوف كان قد اتفق مع هذه المجموعة على عدد معين من الحجاج، فأتاه ثلاثة أضعافهم، ولم يكن الوقت يسمح بتوافر مسكن أو إمدادات تتناسب مع عددهم الكبير. ووُّجِه المطوف إلى القيام بما يلزم لتوافر الراحة لهؤلاء الذين يشكون الكرب العظيم !كانت الطوافة في عهد المماليك مقتصرة على القضاة في مكة. ثم انتقلت في العهد العثماني إلى أعيان البلد المتفقهين في الدين. ومنهم إلى طلبة العلم الذين كانوا يأتون إلى مكة، فيستضيفهم وجهاؤها ويعينوهم على التفقه في الدين. كان هؤلاء المقيمون من جنسيات كثيرة، بعضها عربي، وبعضها الآخر من بقية الدول الإسلامية. ولذلك، كانت الطوافة في بداياتها تعتبر من مهن الصف الأول، ويمارسها المنتمون إلى طبقة الأشراف والحكام والأمراء وعلية القوم. ثم تحولت تدريجياً لتصبح في متناول كل طبقات المجتمع.

وكانت تقاليد المهنة تقتضي بدايةً ألا يمارسها إلا أبناء الطوافة، وتورث بالتالي من السلف إلى الخلف. ومن ذلك ما ذكره السيد عبدالرزاق حمزة، مستشار وزير الحج والأوقاف السابق، في حديثه إلى القافلة عن مطوفي بلاد الجاوة والهند وغيرها من البلدان الإسلامية. فقد كان المطوف منهم يحرص على تعليم أبنائه لغة الحجاج الذين التزم بتطويفهم، إعداداً لهم ليكملوا المسيرة من بعده. وكان المطوفون يشذون عن هذه القاعدة في حال خدم عندهم أحد الصبيان مدة 15 سنة متواصلة، وأراد بعدها أن يكون مطوفاً مستقلاً برضا وطيب نفس معلمه. وقتها، تجتمع جماعة من المطوفين ليشهدوا له بأنه قد خدم عند مطوفه كصبي طواف مدة خمس عشرة سنة متواصلة، ثم تتجه هذه المجموعة إلى رئيس المطوفين وبحضور هيئة أمناء المطوفين ليدلوا بشهادتهم ويزكوه. فإن حاز رضاهم، خرج من عندهم مطوِّفاً مستقلاً.

ومن تقاليد مهنة الطوافة، يقول السيد عبدالرزاق حمزة: إن المطوف يرتدي عِمّة لتميزه عن بقية الحجاج. وإذا كان الحاج عظيم المنزلة، قام المطوِّف نفسه بتطويفه، فإن كان أقل من ذلك قدراً، طوفه ابن المطوف. أما إن كان الحاج من عامة الناس، فإن أحد صبيان الطوافة هو من يقوم بتطويفه. ويذكر السيد عبدالرزاق أن معظم المطوفين كانوا يعتمدون اعتماداً كاملاً في رزقهم على ما تأتي به طوافتهم للحجاج. ذلك أن الحجاج كانوا يأتون قبل شهر الحج بمدة طويلة. فالباخرة الهندية مثلاً كانت تأتي بحجاجها في شهر رجب، وتعود لأخذهم بعد ثلاثة أشهر من انتهاء موسم الحج. وفي نصف السنة الآخر، وهي الفترة التي تسمى بفترة البصارة ، حيث لا يشغل الحجاج أرض مكة، كان المطوفون يشتغلون بإصلاح البيوت التي تستقبل الحجاج وغيرها من الأمور استعداداً لفترة الحج. وكانت عادة المطوفين منذ أن بدأت مهنة الطوافة الالتزام بإكرام الحاج وتولي تيسير إقامته من دون تحديد لرسم معين يدفعه الحاج، بل كان الحجاج في نهاية زيارتهم يجتمعون ليفرش أحدهم وعادةً ما يكون حاجاً سبق له الحج ويسمون بالمعاودين منديلاً أو قطعة قماش بيضاء، ويدعو زملاءه لإكرامية المطوف، كلٌ بما تجود به نفسه، ابتداءً من جنيه واثنين وحتى الخمسة والعشرة جنيهات. ومن الحجاج من لم يكن يستطيع دفع شيء، فيغطي على عوزه كرم زملائه. واستمرت هذه العادة تقليداً متبعاً حتى صدر القانون بتعرفة الحجاج في عام 1326هـ، وجاء فيها أن الحاج الجاوي يدفع جنيهاً عثمانياً أجرة مسكن بمكة، وعشرة جنيهات هندية يدفعها الحاج من الهند لمطوفه، وخمسة ريالات مجيدية لأهل الصعيد وغزة والعراق وما إلى ذلك.

ويذكر السيد عبدالرزاق وقتاً كان نصف الحجاج يأتون بالسيارات ونصفهم الآخر على الجمال، فتمتلئ مكة بالجمال، ويصل رغاؤها إلى بيوت مكة. ويُروى عن أحد الحجاج المغاربة، أن الحجاج كانوا يخافون المبيت في مزدلفة خشية أن تدهسهم حوافر الجمال، بينما هم نيام، من كثرتها.

ومن ذكريات السيد عبدالرزاق، ما رواه في معرض حديثه عن دعاية المطوفين لأنفسهم، حيث كان كل مطوف يرسل خطابات تهنئة بشهر رمضان المبارك وعيد الفطر إلى كبار الحجاج من البلد الذي التزم بتطويف حجاجه. وكان البعض منهم يزورون البلد للدعاية لخدماتهم وحث الناس على الحج، وكانوا يجدون إكراماً وفرحة بهم، كممثلي البلد الكريم، مكة المكرمة. وكان بعض المطوفين يقبل باستضافة عشرة من الحجاج والتكفل بنفقاتهم، في حالة أن أتى من البلد خمسمائة أو سبعمائة حاج، مثلاً.

وأحياناً، يستعد المطوف لاستقبال عدد معين من الحجاج، فيعد لهم ما يكفيهم من مسكن وتحضيرات، ويفاجأ وقت الحج بحضور ضعف هذا العدد. وفي ذلك ما يُروى عن أن مجموعة من الحجاج الباكستانيين أرسلت إلى خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبدالعزيز -يرحمه الله- وكان وقتها ولي العهد، برقية تقول: نحن في كربٍ عظيم ، فأثارت البرقية ضجة، وظُن أن حريقاً قد وقع أو كارثة من هذا القبيل، فلما استدعى وزير الحج والأوقاف، عبدالوهاب عبدالواسع -رحمه الله- مطوف هؤلاء الحجاج، اتضح له أن المطوف كان قد اتفق مع هذه المجموعة على عدد معين من الحجاج، فأتاه ثلاثة أضعافهم، ولم يكن الوقت يسمح بتوافر مسكن أو إمدادات تتناسب مع عددهم الكبير. ووُّجِه المطوف إلى القيام بما يلزم لتوافر الراحة لهؤلاء الذين يشكون الكرب العظيم !

أول بريطاني يزور مكة
يصف لحظات وصول الحجاج الى الديار المقدسة
جوزيف بيتس هو أول بريطاني يزور مكة المكرمة في التاريخ الحديث (1091 هجرية – 1680 ميلادية)، رصد مشاهد حول قوافل الحج وشعائره وصوراً عن مكة المكرمة والمدينة المنورة خلال زيارته لها متخفياً تحت اسم (الحاج يوسف) ليكتب عنها لأبناء جلدته الأوروبيين الذين كانوا يجهلون كل شيء عن المدينتين المقدستين عند المسلمين.
وفي كلمات بارعة وصف في مذكراته لحظة وصول قوافل الحجاج إلى مكة: بمجرد وصولنا إلى مكة, سار بنا الدليل في شارع واسع يتوسط البلدة ويؤدي إلى الحرم, وبعد أن أنخنا الجمال, وجهنا الدليل (المطوف) إلى حوض الماء للوضوء, ومن ثم ذهب بنا إلى الحرم فدخلناه من باب السلام (وقد تركنا أحذيتنا عند شخص موكل بها قبل الدخول), وبعد اجتيازنا مدخلاً استغرق اجتيازه خطوات قليلة وقف الدليل (المطوف) ورفع يديه صوب بيت الله الواقع وسط المسجد الحرام, وحذا الحجاج حذوه ورددوا وراءه الكلمات التي يقولها.
وعندما وقع نظر الحجاج للمرة الأولى على الكعبة فاضت عيونهم بالدموع ثم طفنا بالكعبة سبعة أشواط, ثم صلينا ركعتين, ثم قادنا الدليل إلى الطريق مرة أخرى, ورحنا نهرول وراءه تارة, ونمشي تارة أخرى من أحد طرفي الطريق إلى طرفه الآخر (يقصد السعي بين الصفا والمروة). ولا أملك إلا أن أعجب من هؤلاء الحجاج الذين يبدو عليهم التأثر الشديد والعاطفة الجياشة, وهم يؤدون هذه المناسك.. ولم أستطع إلا بالكاد أن أكبح دموعي من الانهمار عند رؤية حماسهم!.. .
وفي المقابل وصف جوزيف بيتس لحظة مغادرة الحجاج مكة المكرمة في مذكراته بقوله وفي المساء السابق لمغادرة مكة المكرمة, لا بد من طواف الوداع, فيدخل المرء من باب السلام, فيطوف قدر ما يستطيع وبعض الناس يظلون يطوفون حتى يعتريهم التعب (طواف الوداع, كطواف القدوم, كطواف دخول المسجد: سبعة أشواط) وتفيض عيونهم بالدمع لأنهم يودعون بيت الله, ويبدون حقيقة غير راغبين في مفارقته, ويشربون من ماء زمزم حتى الامتلاء, ويتراجعون إلى باب الوداع ووجوههم صوب بيت الله, وباب الوداع هذا مواجه لباب السلام.
وعند خروجهم من باب الوداع, يعقدون أيديهم تجاه بيت الله, فمن غير اللائق أن يولوا ظهورهم للبيت عند الوداع, ويظلون في حال بكاء وهم يدعون ويتوسلون إلى الله حتى يصلوا إلى بيوتهم .

أضف تعليق

التعليقات