كثيراً ما نسمع القول الشائع إن “الصورة تساوي ألف كلمة” ضمن الأحكام التي تطلق على المطبوعات المصورة من مجلات وكتب.
عبود عطية يناقش هنا الإفراط في استخدام هذا القول من قبل البعض، ويعرض قراءته الشخصية لما يتكشف عنه.
جاء في قول منسوب للكاتب الساخر جورج برنارد شو أن في كل بيت يجب أن يكون هناك كتاب يستفيد الحكيم من قراءته، ويتفرج الجاهل على صوره، وتستخدمه مدبرة المنزل لقتل الصراصير.. ليست الطرفة المضحكة في الوظيفة الثالثة للكتاب حسب هذا القول هي التي نتوقف أمامها، بل الثانية التي ربطت الجهل بالاكتفاء بالتطلع إلى الصور. والجهل محزن.
فكل من عرف شخصاً أمياً في محيطه، لا بد وأنه شعر بالحزن لحالته وهو يراه يمسك بمجلة يقلِّب صفحاتها مكتفياً بالزاد القليل الذي تعرضه عليه من صور. ومثل هذه المواقف كانت كثيرة في الماضي، عندما كانت نسبة الأمية عالية جداً، خاصة في صفوف كبار السن. أما اليوم فقد تبدَّلت الأحوال، ولا نعني بذلك تبدل نسبة الأمية، بل تبدُّل مقادير الحاجة إلى الزاد الثقافي، بحيث أن الصورة صارت لوحدها، على ما يبدو، كافية لإشباع بعض المتعلمين الذين يعرفون القراءة والكتابة. فكثرت الكتب التي صار الحكيم يستخدمها.. لقتل الصراصير.
وبتعبير فج, لأننا أمام مشكلة تستحق شيئاً من الفجاجة في التصدي لها، نقول إن ما من قول مأثور أفرح الأميين في العالم، كما فرح بعض “المثقفين” العرب بالقول “إن الصورة تساوي ألف كلمة”. فنسمعها ونقرأها وتكرر أمامنا بلا كلل ولا ملل. ويتميز نطق هذا القول عادة بثقة كبيرة عند القائل، وكأنه نطق جوهرة الكلام، حتى ولو كان من أولئك الذين لم يقولوا سابقاً أي كلام آخر ذي قيمة.
أصل القول ومعناه الأصلي
يعود القول “إن الصورة تساوي ألف كلمة” إلى رجل أمريكي يدعى فريد برنارد كان يعمل في حقل الإعلانات، وشاء الترويج لإحلال الصورة محل الكلمات في الإعلانات التي تلصق على أبواب السيارات. إذ كانت مشكلة هذه الإعلانات تتمثل في وجوب اختصارها بأقل قدر ممكن من الكلمات كي تصبح قراءتها ممكنة على سيارة عابرة أمام المشاهد. فنشر برنارد هذا في 15 مارس 1927م إعلاناً يقول “الصورة تساوي عشرة آلاف كلمة”.. ولأن الرجل نفسه لم يكن واثقاً من تقبل الناس لهذه الفكرة، زعم أنها حكمة صينية قديمة كي يأخذها الناس على محمل الجد. وبسرعة وصل الخيال الشعبي إلى نسب هذا القول إلى كونفوشيوس!!
فالغاية الأساس من هذا القول هي إذن إعلانية. وبتوسعة دائرة الاستخدامات الممكنة لهذا القول ضمن حدود المعقول، نرى أنها تبقى في إطار القول أنه “يمكن” للصورة أن تعبِّر عن شيء يتطلب التعبير عنه نصاً كتابياً طويلاً. وفي العمق، يعبِّر هذا القول عن أهمية الفن البصري حيثما هناك كمية كبيرة من المعلومات يجب أن تستوعب بسرعة. ولكن مشكلتنا مع بعض المثقفين عندنا أنهم رأوا ما هو “ممكن” في بعض الحالات, على أنه قانون عام أو حكم مطلق، يمكن إطلاقه أمام أية صورة فنية أو صحافية أو وثائقية، إذا كانت تقنياً جيدة.
من “تساوي” إلى “تغني”
وما من شيء يدل على سوء استعمالنا لهذا القول المصنف في موطنه الأصلي على أنه “كليشه” وليس “حكمة” كما يؤكد ذلك وروده في كتاب “قاموس الكليشيهات” للباحث جايمس روجرز، هو التعديل الذي تسلل إلى نصه خلال ترجمته إلى العربية من دون الانتباه إليه، فحلت كلمة “تغني” محل كلمة “تساوي”, ليصبح القول في صيغته العربية “الصورة تغني عن ألف كلمة”.. نعم, تغني.. مع كل ما في هذا القول حرفياً وضمنياً من ازدراء للكلمة ولفعل الكتابة عزّ نظيره عند أكثر شعوب العالم تخلفاً وجهلاً.
مقارنة لامجال لها أساساً
نستدرك ونؤكد أننا أبعد ما نكون عن ازدراء الصورة والاستخفاف بقيمتها. فلا أحد ينكر أن لوسيلة التعبير هذه مجالات استخدام عديدة. إذ يمكنها أن تكون فناً تعبيرياً، وأداة توثيق، وإضافة جمالية، وإثباتاً يدحض الشكوك في بعض الموضوعات. أي أنها فن مستقل. ولأنها كذلك، تكمن المشكلة الأساس في القول إنها تساوي ألف كلمة بالمقارنة التي لا مجال لها.
فما من أداة تعبير وجدت لتلغي أخرى، حتى اللوحة الزيتية التي شعر البعض في القرن التاسع عشر أنها قد تكون مهددة من قبل آلة التصوير لم تتزعزع بتاتاً. ولو تحدثنا بلغة الأسعار (التي يفهمها بعض المثقفين) لأشرنا إلى أن ما من صورة فوتوغرافية في التاريخ قاربت أسعارها أسعار لوحات أساتذة الرسم في القرن العشرين. ليس لأنها أقل قيمة بل لأنها شيء مختلف تماماً. إلى ذلك نضيف أننا لم نسمع يوماً مقارنة تقول إن الرواية تساوي عشر لوحات، أو أن اللوحة تساوي خمسين أغنية, أو أن منحوتة تساوي مئة قصيدة.. فلماذا علينا أن نقبل بقياس الصورة بكمية معينة من الكلمات؟
من الممكن جداً أن تصدر دار نشر “ألبوماً” مصوراً حول موضوع معين، لا يحوي غير الصور وشروحاتها. ومن الممكن أن يكون هذا الكتاب عملاً فنياً عظيماً، ولكن بالله عليكم، لماذا على كل ناشر يصدر هذا النوع من “الألبومات” أن يتحفنا في المقدمة بقوله “إن الصورة تساوي ألف كلمة”؟.. بماذا يمكن تفسير ذلك بغير عقدة النقص تجاه الكلمة، وكأن الناشر يخشى أن يتوجب عليه الاعتذار لافتقار إصداره إلى الأفكار التي يعبِّر عنها بنصوص جرياً على عادة الكتب، فوجد نفسه مضطراً إلى الزعم أنه تعمَّد تفضيل الصورة من خلال إيهامنا أن ما من كلام يرقى إلى مستوى بضاعته..
تضخم صناعة الطباعة وانكماش صناعة الفكرة
إن الفضيحة التي يسعى البعض إلى إخفاء معالمها تتكشف من خلال استحضار أي منا لمعظم المناسبات التي سمع بها «ببغاوات الثقافة» تكرر القول إن الصورة تساوي ألف كلمة. فمعظم هذه المناسبات ينحصر في تقييم المطبوعات مثل الجرائد والمجلات والكتب، أي في وسائل تعبير نشأت تاريخياً لنقل الأفكار بواسطة الكلمات أولاً. ولكن بسبب أزمتنا الثقافية الحادة في البلاد العربية، والانكماش الكبير في الأفكار والمفكرين (وهذا ما يعرفه ويقر به الجميع) مقارنة بتضخم صناعة الطباعة والنشر التي يجب عليها أن تنتج كذا ألف صفحة يومياً، يذهب الكثيرون إلى تعبئة الفراغات على هذه الصفحات بالصور. وعندما نضيف إلى محاولة التستر على النقص في المجهود الذهني والكتابي بزيادة الهامش المعطى للبصري، ما نلحظه من علامات التباهي والاعتزاز على وجوه المبررين لذلك بالقول إن الصورة تساوي ألف كلمة، فإننا لا نجد أنفسنا أمام مثقفين يرتكبون خطأ، بل أمام جهلة سعداء يستمتعون بأميتهم، ويتوقعون منا أن نغبطهم عليها. واستطراداً، نشير إلى أن الاهتمام بالبصري (بما فيه الصورة) إذا انقلب هوساً يمكنه أن يؤدي إلى ردة فعل عكسية. فتتحول جاذبيته إلى عامل منفِّر. ونعترف (شخصياً) أننا بتنا نشعر بفتور تجاه قراءة محتويات كتب ومجلات، تجاوز فيها الاهتمام بالبصري حدود الإتقان المطلوب، ليتحول إلى هوس، وكأن البهرجة هي المبرر الأساس للإصدار، مع الاعتراف بما في مثل هذا الموقف من أحكام مسبقة متجنية.
وأخيراً وليس آخراً، يمكننا نقض القول إن الصورة تساوي ألف كلمة، من زاوية لا تستعصي على فهم مردديه مهما كانت قدراتهم على الاستيعاب محدودة. فالبرامج الحوارية على التلفزيون، أي حفلات الكلام البحت على شاشات تكمن مهمتها الأولى في عرض ما هو بصري، تؤكد أن الكلمة لا تزال ذات وظيفة محددة، لا تستطيع أية صورة ثابتة أو متحركة أن تنال منها، حتى في ميدان أدوات التعبير البصرية.
وقد يقول قائل إن ازدهار برامج الحوارات التلفزيونية ينتصر للكلمة المحكية وليس للنصوص المكتوبة. ونحن نقول إن الأمر صحيح تماماً، وهذا لا يدل على شيء غير أننا بتنا في واقعنا الثقافي الحالي نحب الحكي وليس الكتابة. والأدهى من كل ما تقدم هو أن معظم هذا الحكي يبدو غير صالح للطباعة، فتبقى الفراغات في المطبوعات، ويبقى الاعتماد في سد الفراغات على.. «ما يغني عن ألف كلمة».
ولو عرف الببغاوات أن تكرارهم للقول إن الصورة تساوي ألف كلمة لم يعد يستر أي عيب، ولو عرفوا حقيقة هذا العيب وبقي عندهم الحد الأدنى المطلوب من الحياء، لعرفوا أن صمتهم وحده يساوي ألف مرة القول إن الصورة تغني عن ألف كلمة».