لا يكاد يمر وقت دونما أن نسمع عبارة «التعلم في الصغر كالنقش على الحجر»، أو عبارة «كبرت على التعليم» أو «..الكبير لا يتعلَّم». ليس هذا مقتصراً على العقل الجمعي العربي، بل إنه أمر شائع أينما توجَّهت وكنت. وفي حين أنك تسمع هذا كثيراً، لكنك في الوقت نفسه تجد هناك عدداً متزايداً من الناس لا يهمه أمر هذه المقولة وهم يواصلون التعلم غير آبهين بالنتائج، سواء كان تعليماً ذاتياً أو في مؤسسات، وسواء كان متعلقاً متعلق بمتطلبات أو هو تماشياً مع الطموح.
فاضل التركي يناقش في هذا المقال إن كان هناك ثمة فرق بين التعلم في الصغر وبينه في الكبر.
يبدو أن بعض الدارسين يُصِرُ على أن في الأمر فوارق بين التعلم في الصغر والكبر قد تكون جديرة بالتأمل والدراسة، وحري بنا أن ننتبه لها حتى نتخذ قرارات بهذا الشأن خيراً مما قد نكون اتخذنا مسبقاً.
في الأمر قلق لا يحبه الكبار ولا ينتبه له الصغار. لنتابع التفكير معاً في هذا الجدل، نحاول أن نستشرف ما استجد من معرفة بهذا الخصوص نعرف مصدر هذا القلق، وأهم الفروقات بين التعلم في الصغر والكبر و نحاول أن نلقي نظرة على الموضوعات التي يتعلمها الكبار والصغار وهل تختلف في تعلمها لكلا الفريقين. نريد في النهاية أن نستفيد من هذه المعارف الجديدة و نوظفها من أجل فاعلية أقصى.
في قلق تعلم الصغر والكبر
شعور الكبار الذين يريدون أن يتعلموا ما لم يتعلموه في الصغر، يختلجه كثير من القلق. تأخرهم عن تعلم ما يريدون حتى كبروا يجعلهم يتساءلون عن فارق يشعرون بوجوده (صدق وجوده أم لم يصدق). إنهم يتساءلون عن حالهم لو كانوا تمكنوا من المعرفة أو المهارة التي يودُّون اكتسابها الآن، في صغرهم، لربما كانوا سيستوعبونها ويحيطون بها أكثر سرعة وإتقاناً منهم اليوم وهم كبار. ثم هو قلق المعلمين الذين يتعاملون مع بالغين، يستطيعون التحدث معهم لا كمعلمين ولكن بصفتهم أقران في الفئة العمرية أو في الخبرة الحياتية، وإن اختلفت مجالات هذه الخبرة. هل لو تعاملوا مع الطلاب البالغين بطريقة تعاملهم مع الطلاب الصغار، في التعليم والتواصل والطريقة والمهام الملقاة عليهم سيكونون مثلهم؟ هل خبرتهم في الحياة تجعلهم أصعب في التعامل والتقبل للمعارف والمهارات، أقل تلقائية من الصغار؟ هل هم أكثر تمرداً من أطفال هم أكثر طاعة لمعلميهم؟ هل ستسعفهم الخبرة في اكتساب المعارف والمهارات أسرع ممن يصغرهم؟
هكذا يمتد هذا القلق إلى المؤسسات التعليمية وإلى التربويين والمنظرين وكأنهم واثقون بشيء من الفارق ويسعون لفعل شيء يعود على الصغار والكبار بأفضل ما هو ممكن في عملية التعليم والتعلم. ولنلقِ نظرة على بعض هذه الجهود والتوصيفات.
فروقات التعلم بين الكبار والصغار
الانطباع العام أن الأطفال هم أكثر استعداداً للتعلم من الكبار وتأتي الأسباب مع هذا الانطباع، من أن الدماغ عند الطفل في طور النمو والتقبل والاكتساب. ببساطة، يمكن أن نلخِّص ذلك في كلمتين، الأطفال فارغو الذهن مستعدون، لديهم قابلية للتلقي والفهم الطبيعي الفوري. هكذا هو الانطباع.
لكن الدارسين لمسألة التعلم بين الكبار والصغار وفي مقدمتهم شهرةً د. مالكوم نُوِلْز، يرون بعض الملاحظات الأكثر تفصيلية وعملية. لقد استعاد مالكوم و نَجَرَ من جديد مصطلح أندروغوجي (ليعني تعلُّم الكبار) في مقابل المصطلح الشائع بيداغوجي (تعليم الصغار). لقد استعاده من كتابات الفيلسوف المعلم ألكسندر كاب في كتابات نشرها عام 1833م. فهناك جدل واسع حول مصطلح الأندروغوجي -في تعدد معانيه قديماً وحديثاً- ولكن تبسيطاً، لنطلق عليه عموماً «تعلم الكبار.»
يرى مالكوم أن هناك ستة افتراضات تتعلق بما يحفِّز الكبار على التعلم. أول هذه الافتراضات هو أن الكبار يريدون أن يعرفوا سبب حاجتهم لتعلم شيء جديد. فقبل أن يشرعوا في تعلمه، فإنهم يسألون، ما الذي يجعلنا نتعلَّمه، ما الفائدة من تعلمه وهل نحتاجه؟ أما ثاني الافتراضات عند مالكوم، فهو أن لدى الكبار خبرة وتجربة في الحياة تُعد أساساً يعتمدونه في تعلمهم لكل جديد. إنهم يحاولون ربط خيالهم وأمثلتهم بخصوص كل معرفة أو مهارة جديدة بقديم مرَّ عليهم في حياتهم. وثالث هذه الافتراضات هو أن الكبار يشعرون بالمسؤولية بخصوص عملية التعليم، إذ عليهم مسؤولية اتخاذ القرار والمشاركة في عملية التخطيط وتقييم ذواتهم أثناء تعلمهم. أما الافتراض الرابع فهو أن الكبار يزداد اهتمامهم بزيادة علاقة ما يكتسبون ويتعلمون بحياتهم العملية والشخصية. الصغار لا ينتبهون أو لا يهمهم اتضاح هذه العلاقة. أما خامس هذه الافتراضات فهو أن طريقة تعلم الكبار هي تعلم مشكلات وحلول أكثر منه تعلم مادة أو محتوى. هم لا يهمهم إنهاء منهج من بدايته إلى نهايته بقدر ما يهمهم أن يتعلموا كيف يتعرفون إلى مشكلات ومن ثم يصلون لحلها. والافتراض السادس والأخير هو أن حافزهم الداخلي والذاتي أكثر تأثيراً عليهم من الحوافز الخارجية مثل تحفيز الآباء لأبنائهم والأقارب.
لكن مالكوم يصف على الجهة المقابلة تعليم الصغار بما يتعلَّق بما يحفزهم لأن الصغار يتعلمون دون أدنى اهتمام بمعرفة سبب تعلمهم للجديد، ويتعلمون بلا تجارب مسبقة في حياتهم ولا خبرات؛ يتعلمون الأفكار والمهارات دون أن يكون لها أدنى رابط بحياتهم. إنه يصف الصغار بأنهم لا يتحملون مسؤولية بخصوص ما يتعلمون من نواحي التخطيط ونواحي تقييم مستوى تعلمهم وتطورهم. إنه لا يهمهم المردود العائد عليهم جرَّاء اكتساب المعارف والمهارات. أما الحافز بالنسبة للصغار، فهو غالباً ما يكون خارجياً وبفعل مؤثرات يمليها عليهم الآباء والكبار أكثر من كونها مؤثرات نابعة من الذات.
لقد لَقِيَتْ أفكار مالكوم انتشاراً وشهرة، لكنه هو نفسه بدَّل أفكاره وأصبح تعليم الكبار يصفه بالتعلم الذاتي (أو تعلم الطالب) مقارنة بما كان يسمى بتعليم الصغار الذي أصبح يصفه بالتعلم على يد معلم (تعليم المدرس). وهنا، أصبحنا نوزع هذه الافتراضات على المتعلمين بغض النظر إن كانوا صغاراً أو كباراً. قد لقي الكثير من الاعتراضات في المقابل؛ إذ إن هذه الرؤية تفترض تبسيطاً لكثير من الحيثيات مثل اختلاف الطلاب في تصنيف الصغار والكبار واختلاف الخبرات وطبيعة الموضوعات المدروسة والدوافع ووسائل التعلم وإن كانت معارف أو مهارات وهكذا.
يقول جل فريستاد، إن تعلم الكبار وتعلم الصغار أصبحا طريقتين منفصلتين ومتعارضتين لسنوات، عكس ذلك وصفاً لتفاعل المعلمين مع طلابهم. لقد تم توصيفهما كطرفي نقيض قد يحاول البعض تطويع الواقع لهذا التوصيف. وفي دراسته، قام جل بمراجعة كل ما نشر مسبقاً من أبحاث وتأمل الإحصاءات والمقابلات التي أنتجت مسبقاً لمعرفة تفاعل الطلاب والمدرسين مع بعضهم البعض ومعرفة أنجع الطرق التي يفضلونها من أجل بيئة ونتائج تعليمية أفضل. النتائج التي توصَّل إليها جل، هي أن الكبار والصغار يتعلمون بنفس النمط ولا فروقات بين الطريقتين التي وصفهما مالكوم ومتابعوه. لقد تبيَّن له أن كلا الفريقين فضَّلا التعلم بممارسة نشاطات يدعمها إرشاد المدرس والتعاون مع الآخرين والبيئة الجيدة وارتباط الموضوعات المدروسة بحياتهم. إن الوسائل المتعبة في الطريقتين، الأجدى بها استخدامُها في وقتها وفي ظرفها حسب حاجة المتعلم بغض النظر عن كونه صغيراً أو كبيراً؛ وإن ما أدهش جل هو أن الأطفال، فضلوا غالباً طريقة التعلم الذاتي أو الأندروغوجي وتعلم التكنولوجيا والوصول إليها أكثر من الكبار.
هل هناك فروقات في التعلم بين الصغار والكبار؟
في بعض المتابعات العلمية الحديثة، انتشر خبر في شتى وسائل الإعلام، يشير إلى أن البالغين والكبار يتعلمون اللغات أفضل من تعلم الصغار على عكس الانطباع الشائع. ويأتي ذلك ضمن تجربة تعليم قاعدة نحوية -مصطنعة- تطبيقياً لذوي السنوات الثمان وذوي الاثني عشر عاماً. بعد مدة، لكي ينسى الطلاب ونرى ماذا بقي، جاءت نتائج التجربة بتمكن الكبار من التعلم أكثر من الصغار. الذين درسوا الأمر قالوا إن هناك كما هو معروف بعض الفروقات. فبغض النظر عن اختلاف السلوك في عملية التعليم بين الكبار والصغار وتقبلهم للتصحيح من المعلمين، فإن هناك فرقاً ظاهراً أيضاً في استخدام الذاكرة. ففي حالة الصغار، نجدهم يعتمدون على الذاكرة والتذكر اللاواعي، أما الكبار، فإنهم يعتمدون على تذكرهم وذاكرتهم الواعية. والجديد في هذه التجربة، ليس الذاكرة وحسب، ولكنه التعلم الذي يعتمد الفهم الضمني في حالة الصغار، والتعلم التصريحي في حالة الكبار. هذا رغم أن الفريقين تعلما بنفس الطريقة من قبل المعلمين، لكن الكبار يصرحون لأنفسهم بما فهموه ويحللون ويستوعبون بشكل تصريحي.
في المقابل، هناك فارق الخبرة؛ الخبرة قد تلعب دوراً سلبياً أو إيجابياً في عملية التعلم. والخبرة تتوافر لدى الكبار. وهم عندما يتعلمون، فإنهم يستحضرون ما خبروا مسبقاً. إذا كانوا يتعلمون مثلاً الرماية أو التزلج أو السباحة، فسيخطر في بالهم الأخطار والآلام التي قد تحدث لهم، كما عايشوها في حوادث في ماضي الأيام. هذا قد يجعلهم «متعقلين» أو حذرين غير مقبلين على التجريب أو التقبل السريع مثلما يحدث لطفل لم يكن له خبرة مؤلمة أو سعيدة. لكن الخبرة قد تلعب دوراً لصالح التعلم. الكبار الذين يتعلمون جديداً، قد يستلهمون من خبراتهم أمثلة أو صوراً من حالات تناسب تماماً الأفكار المجردة مع كل معايشتها في الذاكرة. إنهم إذا درسوا مثلاً موضوعاً تجريدياً في الرياضيات، كان من السهل عليهم أن يأتوا بأمثلة من أنواع الألعاب الذهنية أو تجاربهم في العمل ومعايشتهم اليومية فكانوا أقدر على استيعاب الجديد وأكثر قرباً من فهمه والنجاح في تطبيقه.
فارق سحري بين الصغار والكبار هو توافر الوقت. عندما يصبحُ الصغار كباراً، يصبح الوقت معهم ضحية لكل مشاغل الحياة، فلا يبقى الكثير من الوقت؛ في حين أن الأطفال يشكون من الملل ويريدون أن ندلهم على ما يشغلون به أنفسهم. وإذا سلمنا بحكاية العشرة آلاف ساعة من الوقت التي نمضيها في تعلم شيء ما لكي نصبح بارعين فيه حسب سوزوكي، فإن الصغار أكثر حظوة بهذه العشرة آلاف ساعة منا.
كيف يتعلَّم الصغار؟
يحدث أن يكون هناك مدرسون يعلِّمون الكبار والصغار. يحدث هذا في معاهد الفنون والمهارات والمراكز التي توفِّر تعليماً لكلا الفريقين. يتحدث ويليم عن وجهة نظره في سبب تعلم الصغار أسرع من الكبار، حسبما يتداول الناس.
الأطفال لا يتحملون أية مسؤولية، فهم إذا اصطحبهم أهلوهم إلى معهد ما، أو مدرسة، فهم لا يهتمون بشيء غير التمتع بفعل التعلم وممارسته دون التفكير في المدفوعات ولا في المواصلات ولا المسؤولية عن آخرين وليس لديهم جداول مزدحمة بالمهمات الحياتية، وليس وراءهم من ينتظرهم، على العكس، سيجدون أنفسهم انتهوا من حصة أو مهمة، فإذا بالآخرين ينتظرونهم ليوصلوهم إلى بيوتهم أو إلى أية أمكنة أخرى، أكلهم وشرابهم وحقائبهم وآلاتهم جاهزة دون أي اكتراث لشيء. هم فارغو الذهن من كل هَم ومسؤولية وقلق متابعة وتفكيرٍ في مصاعب قد تواجههم فيما يتعلمون أو غير ذلك. كل ما عليهم، هو التركيز والعمل على شيء واحد، هو ما يتعلمون ولا شيء آخر؛ ألا يحدث ذلك فارقاً كبيراً؟
يقول ويليم إن الأطفال يمارسون عملية التعلم بلا منغصات. إنهم لا يضيعون الوقت ولا الجهد ولا الذهن في صياغة الخطط والترتيبات وإعداد الجداول وكتابة الأولويات ومناقشتها وإعادة التفكير فيها. كثيراً ما يتحول اهتمام الكبار بتعلمهم إلى شكل من هذه الأشكال فينسون ما يستحق الأولوية في بذل الجهد وهو التعلم نفسه ليتحوَّل إلى التخطيط وإدارة التعلم. وبمجرد أن ينجو بعض الوقت (الذي أصبح قصيراً حينئذ) من الوقوع في دائرة التخطيط، سيكون التركيز والتأهب قد تقلَّص معظمه فلا يخرجون بنتائج على المستوى المأمول.
وفي الشأن نفسه، فإن كتب الكبار ومناهج تعليمهم تنشغل بتسطير الأهداف والأهداف التفصيلية وطرق الوصول إليها، في المقابل، فإن الصغار لا ينشغلون بتلك الأهداف. إنهم يتعلمون فوراً لحظة بلحظة دون فلسفة تغطي هذا النشاط. الأهداف غالباً ما تجعل الكبار مطمئنين قريبين من تقدير الجهد الذي يحتاجونه لتحقيقها، فإذا بهم يقعون في التسويف والمماطلة. أما الصغار، فيجهدون في التعلم ويبذلون قصارى جهدهم في التمكن مما يشتغلون عليه.
الصغار يتعلَّمون خطوة خطوة، فكرة فكرة، أو يحلّون مشكلة بعد مشكلة. إنهم يعيشون اللحظة ولا يخلطون ولا يعالجون مشكلات شتَّى في وقت واحد. إنهم يستجمعون كل قواهم وتركيزهم وطاقتهم الذهنية والبدنية من أجل شيء واحد. هكذا ينطقون كل كلمة جديدة يتعلَّمونها في سنواتهم الأولى. إنهم يستجمعون كل شيء من أجل نطقها وحفظها. هكذا يتمكنون مما يتعلمون ومن الإمساك به سريعاً. أما الكبار، فقد تعلَّموا أن يعالجوا شيئاً وهم مشغولون بأشياء أخرى. ويصبح من المعتاد أن يدرسوا موضوعاً صعباً وهم يستمعون للموسيقى ويدندنون معها؛ أن يستمعوا لبرنامج علمي وهم يرسمون تخطيطاً هندسياً يحتاج منهم إلى التركيز. إنهم أصبحوا يشتتون انتباههم وطاقاتهم ويظنون أنهم يحسنون صنعاً ويستغلون الوقت ويستمتعون بكثير من الأمور في آنٍ معاً.
الصغار عندما يتعلمون، فإنهم يبدون تركيزاً عالياً وجهداً في وقت محدود، ثم يليه شيء من الراحة. إنهم لا ينهكون أنفسهم ويدمِّرون تركيزهم بقضاء أوقات مديدة في العمل، ولكنهم يسعون للراحة والتجديد. إن الكبار قد يجبرون أنفسهم على الدراسة والتعلم أوقاتاً طويلة؛ يظنون أنَّ لديهم التحمل والخبرة والذكاء ما يجعلهم ينهون موضوعاً دسماً متشعباً في وقت قصير وجهد مركز. وهكذا لا يبقى في الذاكرة إلا القليلُ.
قد يتوفَّر معلّمٌ للكبار كما يتوفَّر للصغار وقد لا يتوفَّر. وإذا توفَّر، فإن الكبار عليهم مسؤولية معالجة ما يتعلمون واكتسابه بوعي، وقد ينطوون على بعض التمرد عكس ما يشيع لدى الصغار من التلقي والقبول والتفاعل. إن الصغار يأخذون ما يسدى لهم بكل أريحية وقبول، دونما التفكير فيما وراء الموضوع ودون طرح أسئلة تجلبها الخبرة والتحليل.
وقريب من هذا حال الكبار مع العيب والإحراج وتأنيب الآخرين. فلدى الصغار، ومن يكبرهم، انطباع أنهم صغار ليس لديهم خبرة، ولم يسبق أن تعلموا ما يتعلمون. وعلى هذا، فلا يهمهم أن يقعوا في الخطأ ولم يذوقوا مرارة العيب والتأنيب ولا إحراج التعلم. هذا ما لا يجب أن يحدث بتاتاً، لا للكبار ولا للصغار. قد لا يحدث ذلك مع الكبار في مؤسسات التعليم ولا المعاهد، ولكن يبقى عند الكبار هاجس تفادي الوقوع في الخطأ بينهم وبين أنفسهم. ولو وقعوا فيه لكانوا أكثر قناعة بما يتعلمون ولتعلموا بكل ثقة كيف يضعون قدمهم على أرض راسخة.
الصغار لعوبون بطبيعتهم، حتى في تعلمهم أكثر الأمور تعقيداً وخطورة. إنهم يتعلمون بمرح ويضحكون ويخطئون ولا يهتمون بالخطأ بقدر ما يهتمون بتطورهم. وهم لا يعقِّدون الأمور أكثر من اللازم، ولا يفكِّرون بعمق في مدى سهولة الأشياء من صعوبتها.
ما يقف حاجزاً بين متعلِّم وآخر كان كبيراً أو صغيراً، هو الحاجز الطبيعي، وقد لا نعمم. مثال ذلك رغبة أحد الكبار، وهو لم يحظ بالاستعداد البدني و لم يستثمر وقتاً في الرياضة، أن يصبح لاعب جمباز متقدم متفوق. هكذا سيتعلَّم ويتقدَّم غير أن العائق المتعلق باللياقة البدنية سيمنعه من التفوق على أقرانه. أما غير ذلك من مواهب وما شابه، وانطباعات يتداولها الناس، فعزَّ أن تُصدَّقَ أو أن تدعمها الدراسات والتحقيقات العلمية.
كيف نستفيد من هذا كله من أجل الفائدة القصوى؟
لا يكنْ حاجزُ العمرِ ذا بالٍ في عملية التعلم. لقد أصبح هاجساً مزيفاً لم يدعمه دليل علميٌ، ليكون متداولاً بين الناس لهذه الدرجة ولكي نبني عليه قرارات قد تكون أثرت في مصير ما نريد أن نكون ويكون أبناؤنا و ذوونا. كثيراً ما تحدثنا عن نظم التعليم والمؤسسات التعليمية والتوجهات الجديدة و قليلاً ما تحدثنا عن أنفسنا كيف نتعلَّم صغاراً كنا أو كباراً. إذا افترضنا تساوي طرق التعليم وفرص التعلم و كفاءة المعلمين و أهمية ما نتعلَّم وافترضنا زوال كل العقبات والمشكلات، بقي أن ننتبه إلى أنفسنا كيف نتعلَّم، وكيف أصبح لدينا كل هذه الفوارق عنا يوم كنا صغاراً. ليس تعلم الكبار كله سيء، فقد رأينا كيف أن لديهم ميزات فاعلة في عملية التعلم تجعلهم يحظون بنتائج أنجع، لكن لنأخذ من كل ذلك ما يعود على الفريقين بأقصى فائدة. الدارسون الحديثون للفروقات وطريق التعلم عن الفريقين، لاحظوا أن المؤسسات العريقة والمتقدمة، والمعلمون الخبيرون أصبح لا يهمهم هذا التصنيف، بقدر بعض الفروقات ذات الأهمية كالخبرة والوقت والمسؤولية، ليوظفوا وسائل التعلم وأساليبه وعاداته عند الطرفين، الصغار والكبار. إذن أصبح هذا التفريق والتنظير أمراً قليل الأهمية.
تعلُّم الكبار سواء كان تعلماً بدافع ذاتي أو وظيفي أو غير ذلك، أصبح شائعاً إن لم يكن ضرورياً. الشركات والمؤسسات تستثمر في تعليم موظفيها وتدريبهم والأفراد يصرفون من وقتهم وجهدهم ومالهم على المعاهد والمؤسسات وعلى التعلم الذاتي من وقتهم الخاص مع كتبهم و ما يحتاجون. إذا كان هذا هو الحال، فمن الأولى أن نفهم أنجع وسائل التعلم لنكون متعلمين أفضل مما نحن، متمكنين من المعارف والمهارات أكثر حتى تكون هذه المعارف والمهارات أكثر بقاءً وفعالية عندنا، لتعود علينا بالفائدة والمتعة والإنتاج.
العمل على التعلم النقي الصافي من كل التعقيدات غير ذات العلاقة، و تفريغ الذهن من المنغصات وضياع الوقت والجهد على التخطيط والتخطيط للتخطيط؛ التركيز وبذل كل الجهد على ما نتعلم، شيئاً فشيئاً قدر ما نستطيع، كل هذا سيغير عملية التعلم ويصنع منا ما لم نكن نتوقعه.
الصغار يتعلَّمون كما يتنفسون، هذا شيء من طبيعتهم. هل نتوقَّف ونتأمل في طريقة تنفسنا وفي مشينا وكلامنا؟
يجب أن نتنفس ونمضي بدل أن ننشغل بملاحظة ومتابعة ما ليس له صلة بجوهر الانشغال ونتوقف عن أن نتقدَّم. ليكن التعلم طبيعة فينا، يسري فينا ويعمل بتلقائية بفاعلية قصوى، وستأتي زيادة على ما لدى الصغار من ميزات في تعلمهم الطبيعي هذا، التحليل والتفكير يجعلنا أكثر وعياً بما نتعلم.
قد نسأل عن كل شيء، ونحن نتعلَّم، نسأل ما فائدة الرياضيات لكي نتعلَّمها، ولا يسأل الصغار، لكن، لنتعلم ونسأل معاً ونوسع المدارك ونتمرَّد ونكون مرنين، فقد يظهر لنا في الأفق ما قد عمينا عن رؤيته جراء خبرة سيئة هي حاجز لا بد أن نرفعه.
قد لا يقرأ هذه المقالة طفل في مقتبل عمره، وهي فرصتنا للحديث عنهم بكل أريحية، وإن قرأها فنرجوا ألاَّ يخبر أقرانه فيتحالفون ضدنا. وهم على كل حال سيكبرون ويصبحون مثلنا، إن لم يسعفهم الحظ والزمن، وسيقرأون ويستوعبون الفارق الذي يحدث في عصرنا في عملية التعلم. الصغار والكبار في حال التعلم سواء، لدى هؤلاء ميزات حسنة ونواقص ولدى هؤلاء ميزات أخرى ونواقص. من الحكمة أن نعي ما عند الفريقين ونأخذ خير ما عند كل منهم؛ نوظفه من أجل أفضل النتائج. ولن يعمل هذا الاتجاه مالم تتوافر له مقومات التعليم الناجح إن كان عبر مؤسسات أو تعلماً فردياً. طرق التعليم جمدت طويلاً على عادات وقناعات كان آخرها متطلبات وظروف الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. وها هي حركة التعليم في مراكز العالم المتقدِّم تعيد النظر من جديد في كل شيء وتعيد هندسة التعليم ومؤسساته ومعلميه وأفراده وتقنياته لعصر جديد ومستقبل آخر يسارع في الوصول. كل هذا يدحض تلك الحجج بأن الكبار قد فاتهم قطار التعليم أو إنهم أبطأ تعلماً من الصغار وأقل قدرة واستعداداً، والحقيقة أن هندسة التعليم الجديدة تحفِّزنا على مواصلة عجلة الحياة التي قوامها التعلم الذي يضج بالمعارف والمهارات التي نحتاجها لذواتنا وللمؤسسات التي نعمل فيها ولمناحي الحياة المختلفة والمتجددة. ليس لدينا أي عذر إذن أن نلقي باللائمة على العمر والاستعداد؛ لم يعد ذلك صحيحاً.