بين الشعر والرسم صلة قربى. فالشاعر يرسم صوره بالكلمات، والرسام يجسِّدها بالخطوط والألوان، وقد أقرّ سيموندس الإغريقي قبل أكثر من 3000 سنة أن «الشعر رسم ناطق والرسم شعر صامت»،
الدكتور عبدالله خلف العسّاف يعـــــــــــــــــــرض لنــــــــــا مقتطفات من الشعر العربي تجلت فيها صلة القربى ما بين هذين الفنين بأوضح الأشكال.
يمكن للباحث من خلال قراءة سريعة للشعر العربي على مر العصور أن يكتشف أثر فن الرسم على الشعر. ويمكننا أن نستعرض جانباً من ذلك انطلاقاً من العناصر التي تميّز فن اللوحة أو الصورة.
أولاً: التكاملُ في المشهد. فلو نظرنا إلى لوحة ما. فإننا نجد فيها الإطار الذي يُسيّج اللوحة، والخلفية، والمشهد ذاته. ولو جمعنا بين هذه العناصر الثلاثة، فإننا سنحصل على لوحة متكاملة محددة معلومة مرئية، ومن ثم على مشهد محدد معلوم مرئي. وقد امتلأ الشعر بهذا اللون من اللوحات إلى درجة أننا أحياناً ونحن نقرأ جانباً من هذا الشعر نشاهد لوحات مرسومة لاكلمات منطوقة. من ذلك مثلاً قول عنترة:
لمَّا رَأيْتُ القَوْمَ أقْبَلَ جَمْعُهُـمْ
يَتَذَامَرُونَ كَرَرْتُ غَيْرَ مُذَمَّـمِ
يَدْعُونَ عَنْتَرَ وَالرِّمَاحُ كَأَنَّـهَا
أَشْطَانُ بِئْـرٍ في لَبَانِ الأَدْهَـمِ
مَا زِلْتُ أَرْمِيهُمْ بِثُغْرَةِ نَحْـرِهِ
وَلَبَانِـهِ حَتَّى تَسَرْبَـلَ بِالـدَّمِ
فَازْوَرَّ مِنْ وَقْـعِ القَنَا بِلَبَانِـهِ
وَشَكَا إِلَيَّ بِعَبْـرَةٍ وَتَحَمْحُـمِ
فنحن هنا أمام مشهد متكامل، أعني لوحة متكاملة العناصر، أناس يستغيثون، وفارس يلبي النداء، وحصان ينطلق بقوة باتجاه الأعداء على الرغم من العدد الهائل من السهام المتجهة نحو صدره. الحصان يتألم، ولكنه مصرٌّ مع فارسه على إنجاز المهمة التي تنتهي بالانتصار. اللوحة متكاملة من حيث الحدث والعناصر الحسية التي تكونها والحركة التي تقدمها مجسدة.
وقد عبّر الشعر المعاصر أيضاً عن هذا الجانب، فقدم لوحات تشكيلية متكاملة. يقول ممدوح عدوان:
(قاتلَ حتى ظلَّ وحدَهْ / قاتلَ حتى النبضةِ الأخيرهْ / مدافعاً عن قريةٍ صغيرهْ / أحبها / قاتلَ خطوةً خطوةً / وطلقةً فطلقةً، وهو يعودُ القهقرى / يمدُّ كفّهُ فلا يرى لظهرهِ جدارْ / وحينما هوى رفاقُهُ / وضاق حولَهُ الحصارْ / ولم يجدْ لظهرِهِ جدارْ / أسندَ ظهرَهُ إلى ذراعِهِ / ثم ارتمى / وفمُهُ معبّأ دما / وفوقَ وجهِهِ تراكمَ الغبارْ).
في مكان ما من اللوحة تتراءى أمامنا قرية عربية وشوارع ترابية، وفي جهة من جهات القرية مجموعة من الرجال المصابين، وخلفهم رجل يسند ظهره إلى جدار، يُلاحظُ عليه أثر المقاومة الشديدة، وتظهر بقعات من الدم على ثيابه، ويُلاحظ أن مصدر الدم فمه، وفي الطرف المقابل هناك مجموعة من الغزاة الذين ينـتشرون أمامه وحوله.
ثانياً: البناء داخل إطار محسوس، مرئي، محدد مكانياً. يقول المعري:
ربَّ لحدٍ قد صار لحداً مراراً
ضاحكٍ من تزاحم الأضدادِ
لهذه الصورة طرفان أساسيان هما فضاء القبر الداخلي، ومجموعة الجثث المدفونة فيه. والمفارقة هنا تبدو من خلال التناقض في طبيعة الأشخاص المدفونين في هذا القبر، والعدد الكبير لهم. فقد اجتمع في هذا القبر الغني والفقير، المتعلم والجاهل، الصغير والكبير. ولهذا السبب نفهم لماذا كان القبر يضحك كلما دُفن فيه ميّت.
ثالثاً: استخدام اللون كمعطى أساس. ولا يقل استعمال اللون في الشعر أهمية عن استعماله في اللوحة. فالشعر يسعى جاهداً لرسم المشاهِدَ التي تمتلك الأثر، وتصل في مستواها إلى أثر اللون. وهو كثيراً ما يتكئ على اللون لأن ألوان الأشياء وأشكالها هي المظاهر الحسية التي تُحدِث توتراً في الأعصاب، وحركة في المشاعر.
واستخدام اللون في الشعر العربي واسع جداً. ويمكن الاستشهاد على ذلك ببعض الأبيات. فزهير يستخدم في معلَّقته لونين هما الأحمر والأزرق، ولكل لون دلالته الخاصة. فهو يستخدم اللون الأحمر للدلالة على الحرب وبشاعتها، كما في قوله:
تَبَصَّرْ خَليلِي هَلْ تَرَى مِنْ ظَعائِـنٍ
تَـحَمَّلْنَ بِـالْعَلْياءِ مِنْ فَوْقِ جُرْثَمِ
عَلَوْنَ بِأَنْمَاطٍ عِتَـاقٍ وَكِـلَّةٍ
وِرَادٍ حَوَاشِـيهَا مُشَـاكِهَةِ الـدَّمِ
كَأَنَّ فُتَاتَ الْعِهْنِ في كُلِّ مَنْزِلٍ
نَزَلْنَ بِـهِ حَبُّ الْـفَنَا لَـمْ يُحَطَّمِ
فَلَمَّا وَرَدْنَ المَاءَ زُرْقَاً جِـمَامُهُ
وَضَـعْنَ عِـصِيَّ الـحَاضِرِ المُتَخَيِّمِ
فالنسوة هربن من الحرب إلى مكان آمن آخر. لأن الحرب سيئة. ويشبه الشاعر لون الأمتعة بالدم، ويؤكد ذلك في البيت التالي من خلال تشبيه ما يتبقى من آثارهن بحب الفنا الأحمر الذي لم يُحطّم. وقد أراد الشاعر من كل ذلك تأكيد ارتباط الحرب أولاً بالدم، أي بالموت والقتل، وليدلل ثانياً على أن القبائل تهاجر وتترك أوطانها بسبب الحرب. وقد اختار لبيان بشاعة الحرب هجرة النسوة. واستخدم الشاعر إلى جانب اللون الأحمر اللون الأزرق ليدلل على السلام والطمأنينة والهدوء. فحين وصلت النسوة إلى المكان الآمن الذي ينشدنه خيّمن. واللون الأزرق لون الماء العميق، ولون السماء والفضاء الأرحب.
ولا بد من الإشارة -في هذا المجال- إلى أن استخدام الألوان يختلف بحسب الموقف والحالة وبحسب الشاعر واختلاف الدلالات. فاللون الأبيض الذي يُشرق من وجه فاطمة في معلقة امرىء القيس هو مصدر جمالها وأساس أنوثتها:
مهفهفةٌ بيضاءُ غيرُ مُفاضةٍ
ترائبُها مصقولةٌ كالسجنجلِ
كبكرِ المقاناةِ البياضِ بصفرةٍ
غداها نميرُ الماءِ غير المحلّلِ
وعند الشاعر زهير اللون الأبيض دلالة على الحسب الطيب والكرم الفيّاض:
بيضُ الوجوهِ كريمةٌ أحسابُهم
شُـمُّ الأنوفِ من الطرازِ الأولِ
واللون الأبيض حين يخالطه السواد في عين المرأة يصبح مؤثراً جداً إلى درجة القتل، كما في قول جرير:
إن العيونَ التي في طرفِها حَوَرٌ
قتلنَنـا ثـم لم يُحيينَ قتـلانا
ولم يستخدم الشعراء اللون الأبيض بمعانٍ متعددة ومتناقضة فحسب، وإنما استخدموا أيضاً اللون الأسود. فهو يدلّ على الحزن والخوف إذا ارتبط بالرحيل أو بالمجهول، وهو مصدر الجمال لو ارتبط بشعر المرأة. والغريب أن هذين المعنيين المتناقضين للون الأسود قد يردان لدى شاعر واحد وفي قصيدة واحدة. يقول امرؤ القيس رابطاً بين اللون الأسود والضيق والاختناق والقبح:
وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سدولَه
عليّ بأنـواعِ الهمـومِ ليبتـلي
ولكنه يغيّر من دلالة اللون الأسود حين يربطه بشعر الحبيبة ليصبح هذا اللون مصدراً للجمال والأنوثة:
وفرعٍ يزينُ المتنَ أسودَ فاحمٍ
أثيثٍ كقنوِ النخلةِ المتعثـكلِ
غدائرُه مستشزراتٌ إلى العلا
تَضِلُّ العِقاصُ في مُثنّى ومرسَلِ
رابعاً: وتهتم اللوحة التشكيلية بالمشاهد الصامتة، فنحن غالباً ما نشاهد في معارض الرسم لوحات تحمل اسم: شجرة، أو مزهرية، أو كأس. ونلحظ هذه الظاهرة في الشعر أيضاً. من ذلك مثلاً ما ورد في قول امرىء القيس وهو يصف حصانه الواقف بشموخ بعد رحلة الصيد الناجحة:
ضليعٍ إذا استدبرتَه سدّ فرجَهُ
بضافٍ فويقَ الأرضِ ليس بأعزلِ
هذه صورة فنية ذات طابع حسي، المشهد فيها ثابت خالٍ من أية حركة، وجماله ينبع من كونه صامتاً.