حين تعيد الطبيعة اكتشاف نفسها مرة واثنتين وثلاثاً، يجد الإنسان نفسه أمام واحدة من أمتع التجارب العلمية، وأكثرها دهشةً وثراءً. كان هذا واقع علاقة الإنسان بمادة السيراميك «الخزف» الذي أعاد الإنسان اكتشافه أكثر من مرة، باستخدامه استخدامات متنوعة إلى حد التباين، ونجاح تجربة الاعتماد عليه في صناعات وأغراض شتى بامتياز، لا يتوافر لكثير من عناصر الطبيعة وموادها أحادية الاستخدام، حسبما ستوضح لنا د. وفاء إسماعيل، ما يجعل هذه المادة المدهشة في قدرتها على التوغل في حياة الإنسان، وتلبية احتياجاته المتعددة، وتطوير استخداماتها عبر حضاراته المتعاقبة، أشبه ما تكون بملح الطعام.
يحتل السيراميك ترتيباً متقدماً بين المواد التي تلعب دوراً مهماً في أولويات الصناعة بالدول المتقدمة
أثبت اكتشاف مادة السيراميك في الآثار الفرعونية، تجذر حضور هذه المادة في حياة الجنس البشري
في زمن مبكر بدأت علاقة الإنسان بمادة السيراميك «الخزف»، أدرك خواصها التي جعلت خياره يقع عليها ليصنع منها أوانيه وتحفه، بيد أن الإنسان مع الوقت أعاد اكتشاف هذا العنصر الطبيعي بالغ التأثير الذي دخل في صناعات غاية في الأهمية للإنسان، بل أهمها على الإطلاق، ألا وهي صناعة قوة الردع العسكرية، إذ استعمل السيراميك مؤخراً بوصفه منتجاً حيوياً مختلفاً في رؤوس الصواريخ، فضلاً عن الاستفادة من خواصه في الجراحات الدقيقة وغيرها.
يحتل السيراميك ترتيباً متقدماً بين المواد التي تلعب دوراً مهماً في أولويات الصناعة بالدول المتقدمة. وهو مادة أرضية غير عضوية تتكون من الكوارتز أو السليكا والكولينات، ومجموعة من الطفلات والمصهرات. هناك سيراميك غير تقليدي يطلق عليه السيراميك الحيوي، يستخدم في العلاج البشري، إذ يستبدل بعظام الجسم أو يرممها أو يدعمها التي تتضرر من الأمراض أو الحوادث، إذ يستعاض بالسيراميك في الفكين والأيدي والجمجمة والمفاصل فتستحدث لها أنسجة سيراميكية شبيهة بالنسيج المفقود، باعتماد تركيبة خاصة لكل جزء من الجسم تلائم وضعيته واستخداماته. وهي جراحات دقيقة من دون شك، فالأنسجة الصلبة في تركيبتها تختلف عن تركيبه العظام، لذا تكون عملية الاستعاضة بالسيراميك عن العظام المفقودة أو المعطوبة على مستوى المايكرو، من أجل ملء فراغات دقيقة جداً، بمعنى أنه عمل يتم على مستوى الخلية بالمايكرسكوب.
توجد خمس مدارس عالمية في اسخدامات السيراميك، وتختلف كل واحدة منها بحسب تخصصها وخطها العلمي والبحثي والتطبيقي، فهناك مدارس أمريكية وألمانية وهولندية ويابانية. كما يوجد في فرنسا معهد طبي متخصص ينتج الأجزاء التعويضية من السيراميك ويبيعها كذلك في المجر. أيضاً يدخل السيراميك في صناعات شتى منها صناعة السيارات والمفاعلات الذرية، وهي مهام يلزم لكل منها نوع محدد من السيراميك.
ارتباط تاريخي
أثبت اكتشاف مادة السيراميك في الآثار الفرعونية، تجذر حضور هذه المادة في حياة الجنس البشري، إذ أثبتت الدراسات أن جراحي العظام آنذاك استخدموا السيراميك في ترقيع العظام، أيضاً توصل علماء الآثار والإنثربولوجيا إلى أن إنسان الجيل الثاني أو الثالث من العصر الحجري، اعتمد على هذه المادة في صناعة أوانيه التي كانت عماد حياته البدائية القائمة على الجمع والالتقاط والصيد.
ولقد أثبتت التجربة البشرية مع هذا العنصر الحيوي قدرته على أن يصبح قاسماً مشتركاً بين كثير من الصناعات والاستخدامات بعد معالجته، ما يجعل منه استثماراً مضموناً على الصعيد الاقتصادي، فضلاً عن قدرته المدهشة على التأقلم مع جسم الإنسان، في حال استخدامه بديلاً للأجزاء المعطوبة. من هنا اكتسب هذا العنصر أهميته، قديماً وحديثاً، وأصبح همزة وصل بين ماضي الإنسان وحاضره.
وتؤكد دلائل كثيرة على أن الحضارات القديمة عرفت السيراميك واستخداماته في شتى شؤون الحياة. ليس في مصر وحسب، بل أيضاً في العراق وسوريا، فكانت تصنع منه الكؤوس وأدوات الشرب المختلفة، كما كانت تتخذ منه حاويات لحفظ الحبوب، فضلاً عن دخوله في تصاميم المباني التي كانت يستخدم فيها سيراميك بديع أخاذ. وحتى الآن يعتمد على السيراميك في واجهات المباني الحديثة والحمامات والمطابخ والأرضيات والجدران في كثير من دول العالم.
نقلة كبرى
مؤخراً شرعت التقنية الحديثة تطوع هذه المادة المدهشة لخدمة أهداف صناعية متطورة، بعد إدخال بعض التحديثات عليها بصهرها واستنباط مواد جديدة منها، أو خلطها بمواد أخرى، ما يتيح استخدامها في أغراض شتى تصل إلى الاعتماد عليها في صناعة قواعد الصواريخ التي تتطلب تحمل درجات حرارة عالية جداً، إذ توصل اليابانيون إلى استخدام نوع من السيراميك يتحمل درجات عالية جداً من الحرارة تتيح له استيعاب الصدمة الحرارية، ولا سيما ذلك النوع من السيراميك الذي يدخل في صناعة رؤوس الصواريخ، إذ اتضح علمياً أن توليفة السيراميك مع البلاستيك يتولد عنها مركب جديد أقوى منهما معاً يتحمل درجة حرارة تصل إلى 2000 درجة مئوية، في حين أن أقصى درجة حرارة يمكن أن يتحملها كل منهما على حدة تراوح بين 200 و600 درجة مئوية. الأمر نفسه يتكرر بخلط السيراميك والألمونيوم الذي ينتج منه مركب يتحمل حرارة تصل إلى 2050 درجة مئوية، في حين أن معدن الألمونيوم وحده ينصهر عند 900 درجة مئوية.
وعليه يمكن تركيب مزيج ذي مواصفات محددة تخدم الغرض الذي يراد له، فعلى سبيل المثال هناك الطوب الذي يحتوي على خامات غير نقية نسبياً تحتوي على أكاسيد حديد يجري حرقها عند درجة حرارة منخفضة، وهناك عوازل الكهرباء التي لا بد من نقاء خاماتها بشكل تام، فلا تحتوي على الحديد مطلقاً، حتى لا تقوم بتوصيل الكهرباء ومن ثم فهي تحتاج إلى درجات حرارة عالية لحرق أكاسيد الحديد أو البوتاسيوم.
ولقد كان عام 1963م فارقاً في تطور استخدامات السيراميك، بابتكار مادة السيروزيوم، مركب من السيراميك المخلوط بالبوليمار «البلاستيك» الذي استخدم في صناعة العوازل الكهربائية والمواد الموصلة كهربائياً، وأخيراً المواد فائقة التوصيل الكهربائي في نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات. وتدخل أشباه الموصلات في جميع وسائل الاتصالات والحاسوب، كما أنتج سيراميك على هيئة شرائح وأفلام، ضمن ما يسمى بسيراميك التقنية المتقدمة والأداء العالي.
وعلى الصعيد الطبي يأتي دور السيراميك الحيوي المركب من فوسفات كالسيوم بنسبة %65 ومواد عضوية بنسبة %35. كانت ثمة مشكلة تتمثل في أن فكرة بنوك العظام، التي تضم عظام الموتى التي يتبرع بها أصحابها أو ذووهم، تنطوي على محاذير علمية ودينية، فضلاً عن أن ترقيع العظام وإبدال التالف منها بعظام آدمية ثبت فشله علمياً، لأن الجسم يلفظها بعد مدة. وكان البديل تخليق مواد كيميائية لتغطية هذه الأغراض ومساعدة الجسم على بناء عظام بديلة يقبلها الجسم. فكان أن تم التوصل إلى خلطة من بودرة البروتين تستخدم حالياً في طب العظام والأسنان، تحقن هذه المادة تحت الجلد أو في العضلات، بل يصل الأمر إلى بناء جسور لتوصيل العظام ببعضها اعتماداً على هذه المادة. تقوم فكرة دخول هذا المركب إلى جسم الإنسان على أن الجسم البشري هو أكبر بركة للأملاح مثل الكالسيوم والفوسفات الخاص بالعظام في العالم، وتوجد لدى الأحياء من الإنسان والحيوان غدة بي –تي – إتش الصنبورية، التي تتحكم في التوازن بين هذه الأملاح. فإذا انخفضت نسبة الكالسيوم تعطي أمراً بزيادته، وإذا قل البوتاسيوم أو زاد تفرز أو تقلل من إفرازها للبوتاسيوم حسب الحاجة.
هذا الاكتشاف لبركة الأملاح أدى إلى التفكير في مساعدة جسم الإنسان بحقنه بالبروتين لإعادة بناء التالف من عظامه طبيعياً وآلياً.
لقد احتاج هذا الأمر إلى تضافر فريق من علماء متخصصين في السيراميك والكيمياء والطب والهندسة والتحاليل الطبية والفيزياء، إذ يشترط لكل بحث في هذا المجال توقيع تسعة من العلماء يشتركون في كتابته وصياغته.
هكذا لم يكن السيراميك كيمياء أو فيزياء أو طباً فقط، بل مجموعة هذه العلوم وهمزة الوصل بينها. فالإحصائيات تشير إلى ازدياد الطلب على السيراميك الحيوي، والحاجة إليه، سواء في مجال الأسنان أو العظام، إضافة إلى براءات الاختراع في تطبيقات جديدة تخدم جميع أنواع الزراعات الطبية والترقيع.
ولا تتوقف محاولات إنتاج أنواع جديدة من السيراميك المخلق، إذ أنتجت منه الثلاجات الصديقة للبيئة التي تنظف نفسها بنفسها باستخدامها أكسيد التيتايوم، كما تجرى أبحاث على السيراميك الحيوي بشكل موسع لإنتاج نوع منه يستفاد به في تعقيم غرف العمليات له خاصية تفريغ الشحنات الكهربائية في تلك الغرف، وأيضاً يستخدم في عزل أسلاك الفولت العالي.
غياب شرق أوسطي
إذا كانت اليابان وعدد من الدول الأوروبية مثل إيطاليا وفرنسا والمجر والصين تأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة وألمانيا وكوريا في بحوث السيراميك وصناعته وإنتاجه، فإن المنطقة العربية والشرق الأوسط ليست سوى أسواق لترويج منتجات هذه البلدان. بالرغم من أننا في الوطن العربي نمتلك مزايا جديرة بالاهتمام في هذا الميدان، فنحن نتفوق بتوافر الأيدي العاملة الرخيصة والخامات والطاقة، ما يجعل الفرصة سانحة لاستثمار الخامات المتوافرة بكثرة لدينا، فنتمكن من الدخول إلى قائمة مصدري هذه المنتجات، أو على الأقل ننتج ما نحتاج إليه منها.
ينتشر خام السيراميك التقليدي المسمى «كراموس» في صحراء المنطقة الشرقية بمصر، كما تتوافر في الصحراء نفسها مادة الفلدسبار، التي يستعان بها في حرق السيراميك. وتعد الرمال المصرية من أنقى أنواع الرمال في العالم لهذا الغرض.