حين يُطرد المبدع من فراديس إبداعه ويُشكّك بانتمائه إلى نبض جنانهِ، لتغدو ومضاته الجمالية إبراً مسنونة تقضّ مضجعه، وتهزّ أشجار رؤاه، ما الذي يفعلهُ؟ بل ما الذي تفعله امرأة مسكونة بالرهافة والأنوثة حين تباغتها هراوات التهم وطعنات الشائعات. هل تمزق كراريس بوحها وتترك ساحة الإبداع لتزدرد شوك الراهن المعاش؟. هذا هو ما دار في ذهني وأنا أقرأ عن الروائية الكاميرونية كالكست بيالا حين أصدرت روايتها الأولى (أنّ الشمس هي التي أحرقتني) عام 1987م حيث أحدثت تقنياتها السردية الجديدة في حينها أصداءً قال عنها جوزيف نديندا ( لقد قوبلت هذه الرواية بالتّرحاب من طرف الجمهور ومن طرف النقد الأدبي الغربيين وبالمقابل اعتبر بعض النقاد الكاميرونيين بأن الرواية كانت مثيرة ومحّرضةً. وقد تعرضت الكاتبة للنقد اللاذع بل المهين أيضاً، ووصلت الإهانة حد اتهامها بالسرقة الأدبية وعدم نسبة الرواية إليها).
وقد عجبت لهذا التوافق المدهش بين ما حصل لتلك الروائية وما حدث للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي إثر صدور روايتها البكر ذاكرة الجسد ،التي طبعت أكثر من ثلاث عشرة طبعة، وما إن حازت الرواية قصب السبق حتى انبرت بعض الأقلام الملفعة بالنظرة الفحولية التي تلغي الإبداع الأنثوي تنفخ في رماد الظن علّ جمر الحقيقة يتقّد. فما دامت الروائيةُ أنثى، فإن ثمة من كتب لها الرواية وإذا كانت قد جعلتها قصيدة مشفرة تمزج بين الشعري والسردي ومن خلال وعي رجل (بطل الرواية) فإن أفذاذ عصرها من الشعراء قد زودوها بإكسير الكتابة الروائية. وهي أقاويل على هشاشتها تشكل ظاهرة مؤسفة في حياتنا الأدبية إذ ينساق بعض الكتاب بل وبعض الكاتبات أيضاً مع تيار القدح هذا الذي استنزف حبراً كثيراً وهو يصب في مصب المكر والمراوغة حين يجعل من هذه التقولات فضيحة مسوغاً ذلك بأن ظهور الكاتب الأصلي بعد سطوع نجم الكاتب الزائف المثبت اسمه على غلاف النص الإبداعي أمر ليس جديداً على مشهدنا الثقافي. إن مثل هذه النزعات العدوانية ممّا يوسّع دائرة الضجيج ويؤكدها ويجعل لها جذوراً تحدث شرخاً في قيمنا الأدبية.
بيد إن هذا اللغط لم يغيّب بصخبه الجانب المضيء في فضاءاتنا الثقافية. فثمة من يجد في إبداع المرأة رافداً مهماً للأدب الإنساني الخالد. ويقف عند هذه الإشكالية أكثر من وقفة صحية يناقشها بأسلوب منطقي، ويزيح الغبار عن كينونة المرأة المبدعة وعالمها الملبّد بالمصادرة والإلغاء والقهر. ويرى أن هذه الأزمات المفتعلة ما هي إلا ظواهر تتبلور بفعل النظرة الذكورية القاصرة للمرأة بوصفها مبدعة تشاطر الرجل منصة البوح. وتجلت هذه الإضاءات في مقالات عدّة وبعناوين مختلفة منها: (حتى لا يغرق المبدعون خارج بحر الإبداع) للشاعر عبدالعزيز المقالح و(أحلام مستغانمي وأحلام شهريار) للشاعر شوقي بزيع و(هل أحلام مستغانمي روائية استثنائية حقاً؟) للأستاذ الدكتور صبري مسلم وسواها. وهي مقالات وجدت في مجملها أن في إثارة مثل هذه الضوضاء مناظر مؤلمة لا تؤذي العين فحسب بل وتؤذي القلب والوجدان أيضاً وتجد في دفاع الشاعرة والروائية أحلام عن كينونتها الإبداعية (صرخة مجروحة هي من بين أهم الصرخات التي أطلقتها المرأة المبدعة في العصر الحديث معلنة حزنها وغضبها في آن، ومنددة بهذا الموقف اللاأخلاقي الذي تقابل به من صحافة أمتها).
وإذا كانت الروائية الكاميرونية قد حسمت الموقف في صالحها حين أصدرت روايتها الثانية (ستسمّى طانكا) في العام التالي (1988م) لهذه الفضيحة الأدبية -كما سميّت في حينها- كي تبرهن على موهبتها الإبداعية ومهارتها في مجال التقنية الروائية، فإنني أجد أن إصدار أحلام مستغانمي روايتها الجديدة (عابر سرير) قد نجحت في أن تجتاز محنة المكايدات وأن تسكت كل الأصوات المتشككة في قدرة المرأة على أن تبحر بقلمها إلى مرافئ الإبداع والضّوء.