بين قصائد الأمس وما فيها من سادية الشعراء يأخذنا أستاذ النقد الأدبي في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، الدكتور الشاعر عبدالناصر هلال، في جولة مغايرة، حيث الحب العذري وصور من المازوخية والسادية التي يمارسونها على ذواتهم بجنون. وبين ديوان اليوم اختار لنا من قصائده الجديدة ما يشي بالاختلاف عن الأمس البعيد. عندما قال القدماء إن «الشعر ديوان العرب» كانوا يدركون أنه اختزال لشؤون حياتهم العامة والخاصة، وسجل أفراحهم وأتراحهم وعلاقاتهم الاجتماعية، لما يتسم به الشعر من خصوصية فريدة واستيعاب تجربة إنسانية معقدة وشائكة تقوم اللغة بإنجازها وكشف هيئتها عبر إرسال يخضع لحركة الشعور، فتتحول اللغة – في منجز الشعرية – من فاعل مباشر إلى مفعول من أهم سماته التلقائية والعفوية والتدفق، ومن هنا اعتمد الوعي النقدي الحديث – في إجراءاته – النص الشعري وثيقة نفسية إلى كونه وثيقة جمالية.
ترك شعراء الغزل أو الحب العذري – نسبة إلى قبيلة «عذرة» وهي إحدى قبائل «قضاعة» التي كانت تنتشر في شمال إقليم الحجاز- تراثًا شعريًا تمحور حول ذواتهم وأحاسيسهم وآلامهم النفسية والعاطفية المفرطة، وكانت الحياة من حولهم مناخاً ملائماً لهذا النزوع، فلم تكن قاسية كقسوة الصحراء والجدب، بل بها خصوبة ونماء وعلاقات قبلية مستقرة، فاحتفلوا بلذة الحب وعذابه، ولم ينحازوا إلى الأغراض الشعرية الأخرى مثل المدح والفخر والحماسة والهجاء.
امتلأت قصائد العذريين: جميل بثينة، مجنون ليلى، كثير عزة، بالقلق والخوف والعذاب والفقد والحرمان والشعور بالاضطهاد والعجز، فتجلت صور «السادية» و«المازوخية» في شعرهم وهي ظواهر نفسية.
السادية من البكاء إلى الاحتفال بالموت:
السادية تنسب إلى الماركي دوساد، وهو من كبار الكتاب الفرنسيين في القرن الثامن عشر، قامت فلسفته على التمرد على نظام الكون الذي يبيح الشر.
وتدل السادية على انحراف ينحصر في استمداد الشخص السادي لذته مما يلحق الغير ألم بدني ونفسي، وقد يكون الألم الذي يحل بالضحية ألماً عضوياً حاداً من ضرب وقتل، وقد يكون نفسياً من تجريح وإذلال واستمتاع بعذاب الآخر وهوانه.
وقد تجلت السادية، بوصفها موقفاً من العالم الذي يستقطب وعي المحب ومشاعره، في خطاب «مجنون ليلى» لغراب البين الذي يحمل له الشؤم، والشر، ونبأ الفراق، فيهيج في نفس «المجنون» اللوعة والهجر والفراق:
ألا يا غراب البين هيجت لوعــتي
فويحك خـبرني بـما أنـت تـصـرخ
أبالبين من ليلى فإن كنت صادقاً
فلا زال عظم من جناحك يفسخ
ولا زال رام فــيـك فـــــــوق ســــــهــمه
فلا أنــت في عــيش ولا أنـت تـــفرخ
ولهذا يتلذذ قيس بن الملوح بعذاب ضحيته غراب البين الذي كان سبباً في بعده عن محبوبته وحمل له الشر، فله العذاب قبل الموت وبعد الموت:
وعانيت قبل الموت لحمك مشدخاً
على حر جمر النار يشوى ويطبخ
ولا زلـــت في شــر العـــذاب مـخــلــداً
وريـشك مـنــتوف ولـحـمـك يــشـرخ
أما الشاعر جميل بثينة فيتلذذ بعذاب محبوبته – وهي صورة قليلة التجلي في شعر الغزل – لأن «بثينة» كانت سبب مرضه وعذابه، فلا ضير أن يحقق عذابها توازناً نفسيًا ومزاجيًا عنده:
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها
وإذ هي تذري الدمع منها بالأنامل
وينتقل الشعور السادي، في ظل الرغبات المفقودة وعدم التحقق العاطفي، من جنس مواز إلى وجود اتصال الأجزاء المقسومة /الحب كما يسميه ابن حزم، فلم يسلم من رغبة التشفي منه بوصفه مصدر سعادة وشقاء في آن، فليته يجرب العذاب والهجر كما يكابده المحب:
فيا ليت هذا الحب يعشق مرة
فيعلم ما يلقى المحب من الهجر
انتقل الشاعر من إطار التلذذ بعذاب الآخر /الجنس البشري إلى مرحلة التشفي وممارسة السادية ضد الحب بوصفه مصدر تعذيب وملامة وسهاد، وكونه يشكل طبقة من الرغبات المكبوتة لاشعورياً.
لم يكتف الشاعر العذري بموقفه السادي تجاه من أحب ومن الحب نفسه، ولكن ضد كل من لم يعنه على تحققه الوجداني مع محبوبته، فيمارس السادية ضد الحيوان والطير، كما في قول مجنون ليلى وهو يخاطب سرب القطا الذي لم يعره جناحه لكي يطير فله العذاب:
أسرب القطا هل من معير جناحه
لعــلي إلى مــن هويــت أطــير
وأي قــــطــاة لـم تـعــرنـي جــناحـــــهـا
عاشت بضير والجناح كسير
لقد أوقعت حرية سرب القطا وقدرته على التحقق من خلال الحركة حيث يذهب حيث يشاء، وفي المقابل يعاني الشاعر العجز وعدم القدرة على الوصول إلى المحبوب، ومن هنا تدركه نزعة الحقد والتشفي وأمنية العذاب له.
المازوخية وتجلياتها
المازوخية نسبة إلى الكاتب النمساوي «ساخر مازوخ» الذي تفنن في وصف المواقف التي تتسم فيها المرأة بالقسوة واستعبادها للحبيب استعبادًا مطلقًا. والمازوخية تعني أن يستشعر الشخص باللذة بما يعانيه من آلام بدنية ونفسية، وقد تجلت هذه الظاهرة في شعر العذريين بكثرة تختلف عن تجليات السادية، لأن الشاعر المحب يؤثر عذاب ذاته عن عذاب من يحب، بل إن المحب يرى محبوبه كوناً بكراً يتمنى ألا يصيبه عطب أو فناء.
والمازوخية – في الشعر العربي عمومًا وفي شعر العذريين خصوصًا – قد تجلت بصورة كبيرة حتى وصلت إلى حد المازوخية المرضية، فالشعراء لا يريدون الوصل حتى ينعموا به، ولكنهم يريدون الهجر ليتعذبوا به.
ومن أهم العوامل التى تخلق الشعور المازوخي عند الشاعر العذري عدم تحقق علاقته العاطفية بمن يحب على أن تتوج بالامتلاك والتوحد أو التماهي /الزواج، والسبب يكون اجتماعياً حيث تمنع القبيلة زواج المرأة من الشاعر الذي يتشبب بها وتحرم عليه، ومن هنا تتفاقم حدة الصراع النفسي للشاعر فيعذب نفسه لتشبيبه بها:
يقول قيس بن الملوح متلذذاً بعذاب حبه لليلى:
فيا حبها زدني جوى كل ليلة
ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
ويصف العذاب الذي اعتراه وأصابه بالمرض، غير أنه لم يزل هائماً مستطيباً العذاب على الرغم من الإعياء والسقم:
إليك عني أني هائم وصب
أما ترى الجسم قد أودى به العطب
وارتبطت المازوخية عند شعراء الغزل العذري بالبكاء، حيث يجد الشاعر لذته ومتعته فيه، بوصفه مطهرًا عاطفيًا، فـ«المجنون» يبكي على نفسه من فرط قسوة ليلى ومن الصد والهجران:
أبكي لنفسي رحمة من جفائها
ويبكي من الهجران بعضي على بعضي
وإني لأهواها مســيئاً محســــناً
وأقضــي على نفســي لها بالــذي تقـضي
أما «كثير» فلم يعرف البكاء قبل فراق «عزة» ولم يذق لذة عذابه الجميل:
ما كنت أدري قبل عزة ما البكا
ولا موجعات القلب حتى تولت
ومن صور المازوخية وثنائية القتل والشفاء ما ورد في قول مجنون ليلى:
ألا يا نسيم الريح لو أن واحداً
من الناس يبليه الهوى لبليت
فلو خلط السم الزعاف بريقها
تمـــصــصــت منه نــهــلة ورويــت
لقد استخدم المجنون ثنائية القتل والشفاء، حيث يرى أن الداء الذي يلحق به الموت ويتسبب في قتله هو نفسه الذي يشفيه منهما، لقد أدمن العذاب رغبة في المتعة واللذة العميقة، فالتحقق والتوحد بل الارتقاء لا يحدث إلا في ظل هذه المازوخية الخاصة التي لا تتحقق إلا عند أصحاب التجلي العاطفي، أصحاب الشغف المتوقد والروح الفائرة التي تتحقق في وصال معذبها.
السادومازوخية
إذا كانت السادية في مفهومها وتجلياتها في شعر العذريين هي التلذذ والاستمتاع بعذاب الآخر، والمازوخية أن يتلذذ الشاعر بعذاب من يحب، فإن صورة ثالثة جمعت النقيضين معاً في حالة واحدة وهي السادومازوخية، حيث يستمتع الشاعر العذري ويتلذذ بعذاب نفسه وعذاب محبوبته معه في آن، كما ورد في قول كثير عزة:
ألا ليتنا يا عزة كنا لذي غنا
بعيرين نرعى في الخلاء ونعزب
كلانا به عر فـمن يــرنا يــقل
على حسنها جرباء تعدي وأجرب
إذا ما وردنا منهلاً صاح أهله
عليــنا فــما ننــفك نرمى ونـضرب
لقد وجد الشعراء العذريون في مواجهة العالم وجوداً خاصًّا، فلم يرق لهم كثيراً عذاب الآخر، واستمتعوا بعذاب ذواتهم المرهفة وأنين أرواحهم التواقة إلى التماهي مع المحبوب، فازدادت جدلية الأنا والآخر، وهيمن على بنية خطابهم الشعري ضميرا المتكلم والمخاطب، وبنيتا الماضي والمضارع، ما يشير إلى الحركية النفسية والحركية التعبيرية.
قصيدتان
د.عبد الناصر هلال
تفسير
لو يمنحني الماء،
تواشيح الماء
أو يمنحني البحر العشق الكوني،
أفسر:
ما تمليه الدهشة
والغربة تحت الشمس.
وجهي حقل
أقرأ:
تاريخ البهجة أحياناً
عشق المرأة للنافذة وللزهر،
وأحياناً أقرأ:
أرق الخطو،
«وشخبطة» الرمل،
إذا اكتسب الرمل قيامته
وجهي لا يستعصي
أزعم أن الضوء هو القانون السري،
وللماء لغات
تبدو لينة
إذ يقرؤها القلب بشهقته
أو اعترك مع الألوان،
إني منجذب
وَلِهٌ بالشجر وبالأفق
والبحر إذا اهتاج لوحدته
وانصاع لرغوته الصخر
إني منجذب
أطرافي تختلس من الرعشة،
قاموساً للبرد وللغاب
للماء تواريخ
والقلب لديه مواويل محبطة
النار لقاح للماء
والماء كتاب الطير
الكون رحيب
يبدأ بالجرح
وبامرأة ناحلة
أو عرس بكارتها
الخطوة ميثاق
أشرعة للموت
والأرض تباهي الريح بورقة عشب
إني حددت الأرض بمعيار الرغبة
والسحب بخاصرة ضامرة
قلت:
الدهشة ميلاد
والغربة تحت الشمس
جنون غامض.
ابتداء
بين قصيدتك وبيني
أول طير
يخرج من رئة الأرض،
يشاكس ظل جناحيه،
ويجتاح الأفق
امنحني غنوة طفل
أو شكلني الكرة الأرضية
قلت:
للكرة الأرضية
حال ومدار
وأنا مغترب بين الحال وبيني
أنتخب الأرض بجمر
والبحر بشرنقة
والحب بجرح
للكرة الأرضية أسرار
يلبسها ليل
ونخيل
وامرأة تتزيا بالوهج، الإخصاب
المرأة هوس
والكرة الأرضية تأويل للموت
قالت:
بين قصيدتك وبيني وهج
المد الجزر هو الإيحاء لديك،
كتاباتك أشبه بالجرح العربي
لكنك توجز أحياناً
لست المغرم بالإيجاز
أنت احتدمت أعضاؤك
تختصرين دلالات الشمس
تبتدئين اللغة العربية بالرعشة
وأنا أبتدئ اللغة العربية بالنار
فلسفة سأسميك
أو جرحاً يبدأ.