إنها الرواية الوحيدة للدكتور محمد بن سعد بن حسين. كتبها في العام 1958م، ونشرها في مطلع العام الجاري.
الدكتور حسين علي محمد يقدِّم قراءته لهذه الرواية التي تأخر نشرها نصف قرن، مضمِّناً النص الذي كتبه حولها بعض المقاطع المطولة نسبياً منها، مما يغني عن نشر مقتطفات مختارة بشكل مستقل كما درجت عليه العادة.
كتب الدكتور محمد بن سعد بن حسين هذه الرواية وهو طالب عام 1958م، ويشير هذا التاريخ إلى أسبقية كتابتها على رواية حامد دمنهوري ثمن التضحية (1959م) بعام، وبينها وبين ما اتفق على أنها أول رواية سعودية التوأمان (1930م) للكاتب عبدالقدُّوس الأنصاري ثمانية وعشرون عاماً. وهو يعد بذلك أحد كتَّاب الجيل الثاني من كتَّاب الرواية السعودية.
لماذا هذا التأخير؟
وسبب كتابتها، ثم سبب عدم نشرها حتى الآن (أي بعد تسعة وأربعين عاماً من كتابتها) يوضحه المؤلف في المقدمة:
كان الإنشاء مادة مقررة علينا في كلية اللغة العربية، إحدى كليات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وكان الشيخ عبدالرؤوف اللبدي -متَّعه الله بالصحة- هو أستاذنا في هذه المادة، وقد كلفنا في أحد الأيام من عام 1378هـ (1958م) بأن يكتب كل واحد منَّا قصة لم يحدد موضوعها، فكان. وفي الموعد المقرر جمعنا الدفاتر فأخذها الشيخ، وبعد أسبوع أتى بها إلا واحداً هو دفتري. فلما سألته قال: سوف أقرؤه في رمضان، وكنا في آخر شعبان.
وبعد انقضاء شهر الصوم أتى الشيخ بالدفتر، وقد حلاَّه بثلاثين من ثلاثين، ولم يكن سخياً بالدرجات! وهذا هو سر احتفاظي بهذه القصة، إذ لم أكن أحتفظ بشيء من دفاتر الإنشاء.
وفي تلك الأيام لم أكن أفكر في النشر لأن أحد شيوخي (وهو محمود فرج العقدة، رحمه الله) قد قال حين سألته عن القصة: إنها كذب، والكذب حرام. فنام أصل هذه القصة في القمطر . (ص5).
قصة صعود اجتماعي
وتتحدث هذه الرواية عن طارق الذي جاء من إحدى القرى إلى الرياض، وهو لا يعلم فيها أحداً، ولا يعرفه فيها أحد. جاء إلى مدينة يتلفت فيها وهو سائر يميناً وشمالاً فلا يرى إلا وجوهاً يُنكرها، ويأخذ منه التعب كل مأخذ فلا يجد يداً تمتد لمساعدته.
ولكن طارقاً في هذه الرواية يرينا صعود السلم الاجتماعي -من الفقر إلى الثراء- بمساعدة أهل الخير؛ فقد بدأت الرواية ونحن نرى طارقاً لا يمتلك شيئاً يعينه على الحياة:
مضت أيام وأيام باع فيها طارق زوادته وأكل ثمنها، وعاد بعد ذلك خالي الوفاض من كل شيء إلا من تلك الآنية التي أعاره إياها المؤذن. مرت أيام عجاف وطارق فيها لا يقتات إلا من تلك التمرات التي زودته بها أمه يوم سفره، ليتها كانت كثيرة، إذن لخففت على المسكين آلام الجوع، ولكن المسكين فجع بانتهائها بعد أن كان يأكل منها كل يوم ثلاث وجبات، كل وجبة ثلاث تمرات (ص21).
وكان في تلك الفترة لا يجد ما يرميه في فمه سوى الماء وكان في إمكانه أن يطرق باباً من تلك الأبواب الكبيرة حيث يتيسر فضل الطعام، وما أكثر تلك الأبواب لو أراد، ولكنه كان يرى أن في ذلك جرحاً لكرامته وإهانة لشرفه. ولكم نازعته نفسه وإرادته أن يضع حداً لألم الجوع عن طريق التسول، ولكنه كان يغلبها (ص21).
وبعد ثلاث ليال يختبره شيخ في الخامسة والسبعين عدة اختبارات، وبعد أن يطمئن إليه، يُخبره أن لديه خمس بنات، ويريد منه أن يقوم على تعليمهن، وسيعطيه على ذلك أجراً لا بأس به: عشرون ريالاً كل شهر، أي أربعون ومئتا ريال في السنة. وستأكل وتشرب هنا، وتنام إن شئت، ولك مني كسوتان في السنة (ص29). ولا تنتهي الرواية إلا بعد نجاحات حققها، فنرى أنه يمتلك معرضاً كبيراً لا تقل معروضاته عن ستمائة ألف ريال (ص96).
وما كان يتم له ذلك لولا وقوف أسرة إبراهيم معه، وقد تزوج -فيما بعد- ابنته فاطمة، التي احترقت في نهاية الرواية.
دور الوصف
يقوم الوصف بدور لافت، منذ الفقرة الأولى في الرواية، حيث يستحضر لنا الروائي مدينة الرياض قبل ستين عاماً على افتراض أن أحداث القصة أخذت خمس عشرة سنة منذ مجيء طارق إلى الرياض حتى احتراق زوجته – أو زهرته كما يطلق عليها المؤلف.
يصف الروائي مدينة الرياض حينما قدم البطل (طارق) إليها: كان الليل قد مدّ أجنحته الحالكة السواد، وطوى تحتها تلك المدينة التي كانت في ذلك الوقت لا تبعد كثيراً عن حياة القرية إلا ببعض المظاهر اليسيرة، كالحركة العمرانية المفاجئة التي تجتاحها على غير نظام. الهدوء يسود جو المدينة، فلا ضوء سوى بصيص نور المصابيح المعلقة في الشوارع والميادين المهمة، أو مصابيح الكهرباء الصادرة عن بعض القصور الملكية (ص9).
فالذاكرة تستدعي هنا صورة الرياض منذ أكثر من ستين عاماً، كما تستدعيها في أماكن أخرى لتكون فضاءً لأحداث هذه الرواية. ويصف الروائي الشيخ الأعمى الذي صحب طارقاً إلى بيته، ووجد فيه صورة لابنه الذي غرق في البئر:
وفي زقاق ضيق، وأمام باب قديم صُنع من جذوع النخل توقف الشيخ، ثم طرق ذلك الباب طرقةً واحدة، فتح إثرها، فدخل وأمر طارقاً بالدخول، وأومأ له إلى حجرة عن يمين الداخل، وهي مكان جلوس الضيوف. وكانت حجرة متواضعة، ليس بها من فرش سوى حصيرين صنعا من خوص النخل يبدو عليهما أثر القدم وطول المكث، وبها وجار فيه نار وضع بالقرب منه أبريق الشاي ودلة القهوة، وعلى حافته وضع وعاء كبير مملوء بالتمر ووعاء آخر بجانبه فيه أكواب الشاي والقهوة .(ص19).
ويقوم الوصف بدوره في رسم الشخصيات والتعبير عنها، ومنه هذه الفقرة التي تتحدث عن فاطمة التي أحبت طارقاً، ومرضت في بعده عنها بالطائف:
وبعد ساعة قضتها الأم على أحر من الجمر جاء الطبيب فأخذ في فحصها. وبعدما انتهى من ذلك أعطى الأم ورقة فيها دواء وقال:
–
إنها مضطربة الأعصاب، وهي في حاجة إلى هدوء تام ومواظبة على العلاج، وسأفحصها كل يوم فلا تضايقوها.
مضت الأيام، وقامت فاطمة من فراشها ولكنها لم تعد إلى ما كانت عليه من مرح ولم تعد تملأ البيت بحيويتها ونشاطها.. إنها شاردة الذهن، مشغولة البال دائماً، مما جعل أمها وأباها في حيرة من أمرها. لقد فقدوا السعادة التي كانت تملأ بها البيت بين الابتسامة الحلوة، والضحكة العذبة، والروح المرحة المتفائلة وحل بدلاً من ذلك ذهول وشرود ذهن، ومسحة من الكآبة يطفح بها وجهها الغض الذي استحال إلى لون الوردة التي صهرتها الشمس فأحالتها إلى ما بعد الذبول من شحوب وجفاف. ولم تترك الأم سبيلاً في الاحتيال على فاطمة لفهم السبب في هذا الشرود الذهني والانحراف النفسي الطارئ (ص58).
ويصف الروائي بعض الأماكن مثل الشوارع والمساجد، وصفاً يمتلئ بالحيوية والدقة ويضيء الأحداث. يقول في وصف المسجد الذي لجأ إليه طارق في اليوم الثاني لوصوله إلى مدينة الرياض: وأذَّن الظهر فلم يكن له بد من دخول المسجد للصلاة، فلجأ إلى أول مسجد؛ كانت فيه حجرتان: إحداهما تحت الدرج الجنوبي للمسجد، والأخرى تحت الدرج الشمالي، وأمام كل واحدة منهما حوض مصهرج علقت فيه بعض القرب (ص12).
الصورة الفنية والحالة النفسية
ويرتبط فضاء المكان بالتعبير عن الحالة النفسية للبطل؛ فهو ليس مكاناً مجرداً؛ إنه يتصل بالزمن، ويتقاطع مع الشخصية التي يُعبر عنها. يقول عن طارق عندما قدم إلى الرياض لا يعرف أحداً:
طارق يسير مطرق الرأس، وكأن سحابة من الشقاء المُظلم قد وُكِّلت به؛ تسير معه حيثما سار! إلى أين يذهب هذا الشاب البائس؟ وإلى متى سيبقى سائراً؟ الدنيا صيف، وها هي الشمس قد ألهبت بسياطها الكاوية وجه الأرض فأحالته إلى جحيم يهري الأقدام الحافية. الناس يفرون منها إلى بيوتهم، أو يتفيؤون السقوف التي تظلل بعض الأزقة، وبعضهم يلجأ إلى المساجد ليقضي بها ساعات الهجير. ومع ذلك فمازال طارق يسير من حارة إلى أخرى، ومن شار ع إلى شارع والعرق يسيل من جسمه غزيراً، كأنما على رأسه فم قربة لا ينتهي ماؤها (ص11).
كما يفيد الروائي من الشعر، حيثُ تغص الرواية بالأساليب الجميلة، التي تُثري بناء القصة، وتُضيف لمسة جمالية على الوصف فيها، ومنها: بدأ الليل يطوي ستائره مؤذناً بالرحيل، وتبعته الشمس تقذف بشباكها في كل مكان لتصطاد بها أفواج الظلام، ثم تقذف بها بعيداً (ص11).
إن الصورة الفنية هنا لها وظيفتها، فهي صورة مناسبة للجو النفسي للبطل طارق الذي ترك قريته التي كان يعيش فيها هانئاً بين أبويه وأسرته ويعرف كل فرد فيها، وقد قدم إلى الرياض التي لا يعرفها ولا يعرفُ فيها أحداً، ولا يعرفه فيها أحد.
لقد جاء البطل إلى مدينة كبيرة يتلفت فيها وهو سائر يميناً وشمالاً فلا يرى إلا وجوهاً يُنكرها، ويأخذ منه التعب كل مأخذ فلا يجد يداً تمتد لمساعدته.
كما يميل الروائي إلى استخدام أسلوب الاستبطان الداخلي، ليُطلعنا على خبيئة الشخصية، ومنها هذا الجزء من الفصل الثاني الذي يدور في نفس الأم خوفاً على الابن من غضب أبيه:
أما عائشة فقامت متثاقلة من فراش زوجها الذي كانت جالسة على حافته حينما ناداها واتجهت إلى غرفة فاطمة فوجدتها مازالت نائمة. فجلست على حافة فراشها تفكر في ابنها الذي هرب من البيت. ما الذي جعل حامد يتضايق من وجود طارق بهذا الشكل؟ هل نخسر ابننا من أجل ولد ناس آخرين لا لشيء؟ غير أنه أنقذ فاطمة من النار، وهل هذا قليل؟ ولكن هل يبرر تضييعنا ابننا؟ الله يهديك يا حامد، ما كان الأمر يحتاج إلى هذا كله؟
وانفجرت تبكي وخرجت من غرفة فاطمة التي مازالت تغط في نومها ولاذت بفراشها لتسقيه بكل ما في عينيها من دموع الأمومة، وكان وقت صلاة العصر قد حان فقامت وهي تستعيذ من الشيطان وتمسح ما سرب على خدها من دموع، فذهبت إلى الحمام فتوضأت ثم رجعت إلى فاطمة فأيقظتها للصلاة، ثم تناولت السجادة من على الدولاب ففرشتها وصلت.
قعدت تفكر في حل يعيد إليها ابنها. لماذا لا أحتال في إبعاد طارق؟ ولكن كيف؟ نعم سآخذ له بعض النقود وأغريه بالسفر إلى أهله ولن يعود إلينا بعد ذلك.. ثم افرضي أنه عاد لا نستقبله إلا باستقبال لا يطمعه في البقاء عندنا. واتجهت إلى خزانتها ففتحتها وتناولت منها بعض النقود ثلاثمائة ريال من الفضة ثم أغلقتها . (ص42، 43).
لكن الروائي -في بعض أجزاء الرواية- يختزل بعض الأحداث والوقائع في جمل محدودة، ومنه هذا الوصف السريع لبعض الأحداث التي تلت عودة طارق من الطائف إلى الرياض: وتمر الأيام سريعة، ويستأجر إبراهيم الدكان، ويصل طارق من الطائف بأقمشته وملابسه النفيسة، ويفتح الدكان، ويشتغل فيه بكل نشاط، ويساعده الحظ بفضل صدقه وأمانته وحسن معاملته وتوفيقه في اختيار نوع البضاعة؛ فيقبل عليه الناس ويحوز شهرة عظيمة، فيضطر إلى نقل دكانه الصغير إلى معرض كبير بشارع الوزير (ص75).
تقاطع مع الفن المسرحي
على الرغم من أن هذا النص من النصوص الروائية المبكرة، إلا أن فيه بعض جماليات القص، ومنها إفادته من أجناس الإبداع الأدبي الأخرى، وهذا ما يُشار إليه بـ تعدي النص ، حيثُ يتعدى هذا النص الروائي الزهرة المحترقة ويتقاطع مع فن المسرحية، فيصبح في بعض أجزائه أقرب إلى النص المسرحي؛ حين يلجأ الروائي إلى استعمال الحوار الذي يضيء الحدث، أو ينميه، أو يدفع به إلى إنارة أجزاء معتمة من الشخصية التي يتحاورها الحدث، ومنه هذا الجزء من الفصل الثاني:
تتوقف السيارة فينزل حامد فيراه أبوه متجهمَ الوجه فيظن أنه قلق على طارق فيبادره بقوله:
– إنه في …
ولكن الكلمات تموت على شفتيه وتحتبس في صدره. فقد فوجئ بمنظر الدم الطافح في ثياب ابنته وزوجته. فصرخ بحامد:
– ما هذا يا حامد؟
فيجيبه في سخرية وتهكم:
– بركاتك أنت وهو.
يغلي مرجل غضب الأب، فيصفع حامداً صفعة شديدة ترمي به على الأشجار المجاورة للرصيف فينهض وهو يقول: أظن خسارة -الله يحييك- أن أسقط على الأشجار التي أمام غرفة طارق فأكسرها.
فيركله الأب برجله ركلة أفظع من الأولى فيتدحرج بعيداً فيلحق به ليضربه فتحول دونه أمه وأخته، وتأخذ الأم بيد زوجها مهدئة له إلى داخل البيت لتقص عليه كل ما جرى في الطريق. لكن منظر الدم الذي يكسوها يربك إبراهيم فينزع يده من يدها ليسرع إلى الهاتف طالباً الدكتور ثم يعود إليها ليسمع الخبر، وما هي إلا لحظات أطلعته فيها على كل شيء (ص38، 39).
الحوار لتنمية الحدث
وقد أجاد الروائي استعمال الحوار في أجزاء كثيرة من الرواية، لينمِّي الحدث، ويكشف عن دخيلة الشخصيات ويعبِّر عنها، ومنه هذا الحوار الذي أجراه بين زوجة الشيخ إبراهيم وطارق، وهي تُريد أن تساعده بثلاثمائة ريال فضية ليذهب إلى أسرته ويستقر معها شهرين، حتى تخف حدة التوتر بينه وبين ابنها (حامد).
لم تكد تدنو من الغرفة حتى سمعت بكاء يخرج منها فارتجف قلبها، وخافت أن يكون المسكين قد علم شيئاً، ودخلت وهي تقول:
– طارق ماذا بك؟
رفع رأسه من الوسادة مذعوراً. واعتدل على فراشه وقد أضفى غترته على وجهه ليخفي الدمع المتناثر على خديه:
– أم حامد؟! .. لاشيء يا أمي.
عصفت تلك الكلمة بقلبها عصفاً عنيفاً (أمي):
– لا يا طارق .. لماذا تبكي؟ هل ضايقك أحد؟ والله لا يرضينا شيء من هذا فأنت ابننا وهذا بيتك مادمت راغباً فينا.
– أبداً والله ما حصل شيء.
– إذن لماذا تبكي ولم أرك قبل اليوم باكياً؟
– إني أحس بكابوس ثقيل جداً يضغط على قلبي وأخاف أن يكون مكروهاً قد أصاب أهلي.
– استعذ بالله من الشيطان أهلك بخير وأنت هنا لست بغريب.
ونظرت إلى النقود المربوط عليها في ذلك المنديل الأحمر المزركش وقالت لنفسها:
– ابن يفكر في أهله وأهل يفكرون في ابنهم إن خطتي هذه خطة ناجحة مائة في المائة فلأنفذها إذن.
– طارق ..
– نعم.
– رأيي أن تذهب إلى أهلك وتقيم عندهم شهرين أو ثلاثة ثم تعود. ونحن أهلك هنا وهذه ثلاثمائة ريال اشتر بها بعض الحاجات لهم. أما كسوتك فسأعد لك من ثياب حامد ما يكفيك في مدة غيابك عنا.
– لقد قبلت ببقائي عندكم وتكرمكم بمعالجتي وخدمتي، لأني فقير وغريب ففعلتم معي أكثر مما قد يفعله أهلي لو كنت عندهم. وتريدين مني الآن أن آخذ مالكم أيضاً، لا يا أم حامد.
– ألم تقل لي منذ قليل يا أمي؟
– بلى. وإني لأحس بمحبتك في قلبي وكأنما تريد أن ترجح بمحبة أمي التي ولدتني، ولكن هذا لا يعني أن أطمع في أكثر مما فعلتموه.
– إن ما تجده في قلبك من محبة لي أجده أنا في قلبي بالنسبة لك. ولهذا فإني لمحبتك لي أرجو أن تأخذ هذه النقود. والله لن أعود بها وسأضعها في حقيبتك.
ثم سحبتها وفتحتها ثم ألقت بالنقود وأغلقتها وطارق صامت، وقد غرق في بحر من الخجل لا يدري بماذا يقابل هذا الكرم الذي عاش فيه منذ الحادث حتى هذه اللحظة (ص 44، 45).
يختلط الحوار بين الشخصيات أحياناً بالحوار النفسي الداخلي، ومنه ذلك الحوار الذي دار في نفس طارق حينما ذهب إلى بيت الشيخ إبراهيم ليطلب منه يد ابنته فاطمة:
في الصباح الباكر ذهب طارق إلى بيت إبراهيم فوجده مع زوجته يشربان الشاي، فقدما له فنجاناً فرفض شربه إلا إذا لبيا طلبه فوعداه بذلك فتناوله وهو يقول:
– يا عم، إني أطلب يد فاطمة.. إني ابنكم وتعرفون عني كل شيء، وهي أختي.. ما أظن أحداً سيسهر على راحتها أكثر مني.
رفع إبراهيم رأسه وكان مطرقاً أثناء حديث طارق ونظر إلى زوجته التي سرت في جسدها رعشة، وهي تشد على أصابع يدها بالأخرى.. لا تدري ما الذي سيقوله إبراهيم. وتبودلت نظرات تساؤلية بينهما.. أما طارق فصار يلوم نفسه على هذا التسرع ويحدث نفسه بتكهنات وتوهمات.. هل تسرعت حقيقة؟ إنهما قد تشاجرا مع ابنهما البارحة، ومازال أثر هذا الشجار في نفسيهما. لو تأخرت يوماً أو يومين ألم يكن أنسب؟ إن صمتهما يخيفني.. إن طلبي لم يوافق هوى في نفسيهما وإلا لماذا هذا الصمت؟.. ولماذا هذه الحيرة التي تظهر على وجهيهما؟!! رباه أكاد أفقد أعصابي. لماذا لا يتكلمان؟ على أي حال انتهى الأمر ولابد من جواب (ص87، 88).
ابنة الاتجاه الواقعي
ترتبط هذه الرواية المبكرة بالاتجاه الواقعي في الرواية السعودية أكثر من أي اتجاه آخر، رغم إفساحها مكاناً لوصف العواطف المشبوبة، والأحداث المأساوية التي يُواجهها البطل.. يقترب بها اقتراباً حميماً من تخوم الرومانسية.
ونحن لا نعني بالواقعية هنا الواقعية التي يشهد بصدقها المؤرخون، وتقوم الوثائق دليلاً على صحتها، ولكنها الواقعية التي تلقي في روع القارئ أنها صحيحة ، ويمكن أن يقع مثلها في واقعنا المعاش.