هل يتحمّل عالمنا ملياراته السبعة؟
لعل أفضل مناسبة نعترف فيها، أمام أنفسنا، أن هذه الكرة الأرضية التي نعيش فوقها قد تخطى سكانها حاجز السبعة مليارات نسمة، هي الأعياد، ولنقل المناسبات الاجتماعية إجمالاً!
ففي صبيحة كل عيد، نكتشف في منازل أقاربنا وجيراننا وأصدقائنا دائماً الوجوه الجديدة ذكوراً وإناثاً. وعلينا أن نهرع إلى صاحب المنزل ليعرفنا بتلك الوجوه، رغم أننا سننساها، مرة أخرى، بمجرد خروجنا من منزله.
الزحام البشري لا تجده في المنازل فقط، بل تشهده في الشوارع، في الأسواق، في المدارس، في المطارات، في مواقع الأعمال، وفي كل قنوات التواصل طبيعية كانت أم إلكترونية، وفي خضم كل ذلك تتراجع الخدمات مقابل ذلك الفيض السكاني، فتزداد شكاوي المواطنين، ويتقلص إنجازهم، ويهدر وقتهم، وتضطرب حياتهم.
بين عامي 1999م و2011م، زاد سكان العالم مليار نسمة. العالم بمؤسساته الحكومية والخاصة ومنابره الإعلامية أفرد مساحات لقراءة هذا الحدث. المجلة العريقة «ناشيونال جيوغرافيك» التي تنطق باللغة العربية الآن، خصصت حيزاً في أعدادها هذا العام لدراسة آفاق النمو السكاني الذي يجتاح هذا العالم، وعنها أنقل جملة من حقائق هذا المقال.
هناك خوف مزمن ورثه الإنسان منذ القدم تجاه الزيادة السكانية، وبعض الأديان ربطت تلك الزيادة بنهاية العالم، أما أساس الخوف فهو واحد: الموارد التي تحتضنها الأرض لن تكفي لإطعام الأفواه المتزايدة في العالم. وكان توماس مالتوس، الاقتصادي والقس الإنجليزي، الذي عاش في القرن التاسع عشر، صائباً في كتابه المبكر: «قانون السكان العام» عام 1798م، حين أعلن أن موارد الأرض محدودة وأن الناس يتزايدون بوتيرة أسرع من توفير احتياجهم للغذاء، وتكاد هذه النظرية، رغم ناقديها، أن تكون ركناً ثابتاً في المناظرات العلمية التي تنعقد حول مشاكل النمو السكاني وخصوصًا لدى الأمم النامية. بل إنها تجددت حين أعلن 16 عالماً و202 من الحائزين جائزة نوبل، تحذيراً مماثلاً عام 1992م، ينص على أن البشر والعالم الطبيعي يسيران في اتجاه تصادمي قد يغيِّر عالم الأحياء بصورة لن يعود معها هذا العالم قادراً على حفظ الحياة بالطريقة التي نعرفها.
لقد خلقت وسائل الإعلام صخباً واسعاً قبيل إطلالة المولودة الفلبينية «دانيكا» في أحد مستشفيات مانيلا، وعيّنتها الأمم المتحدة كائناً رمزيًا للرقم الملياري السابع في تعداد سكان العالم، لكننا لا نعرف جميعاً ما إذا كان اجتياز هذا الرقم هو نذير فأل أم شؤم عليه. فالدراسات والتنبؤات تتلاحق إلى حد يتمنى معه المرء أن ينزوي في منزله أو مدينته بعيداً عن كل هذا الصراع الذي يلف البشرية!
المشكلة أن هذه «القنبلة السكانية» التي أصبحت كتاباً جدلياً صدر عام 1968م للباحث في علم بيولوجيا الجماعات السكانية، «بول أرليتش» لن تنفجر إلا في دول العالم النامي، وبينها الدول العربية بالتأكيد. وسواء حدث الانفجار السكاني أو تأجل فإن غياب الخطط الفاعلة هو ما سيفاقم هذه الأزمة، فالدراسات تشير إلى أن العالم الغربي قد بلغ ذروة نموه السكاني منذ أكثر من قرن، وبعض دوله الاسكندنافية مثلاً تعاني تقلصاً سكانياً واضحاً فيما كندا وأستراليا تضعان حوافز للهجرة واكتساب المواطنة.
والثابت، فعلياً، هو أن الشعوب الآسيوية والأفريقية والأمريكية اللاتينية ستواجه النسبة الأعلى في النمو السكاني المقبل بكل ما يتطلبه من تأمين موارد طبيعية، وخدمات، ومساكن، وفرص عمل، وإقامة مدن صالحة للحياة. وملامح القلق في كوكبنا واضحة، فالمياه الجوفية تنضب، والكتل الجليدية تذوب، وفي كل يوم يقضي قرابة الملياري مواطن يومهم جائعين أو بمستوى معيشي منخفض.
ورغم ما تثيره هذه التحولات من أسئلة فإن أحد التحديات القائمة هو: صعوبة كسر السلوكيات التي يتعودها البشر أو تعديلها، فالمواطن الغربي الذي يستهلك سبعين ضعف ما يستهلكه المواطن البنغلاديشي من الطاقة، أو يحتاج إلى نحو 5.3 طن من الكربون مقابل عُشر طن لأحد السكان الأفارقة، لن يتراجع عن استهلاكه أو أن يتنازل عن جزء من حصته العالية لرفع مستوى الحياة في قرية أفريقية أو هندية، فالحقيقة أن زيادة الاستهلاك تعكس ارتفاعاً في المداخيل، وارتقاء في سلم الرفاهية وتحكماً اقتصادياً فيما ينتجه الآخرون، وإحساساً بالسلطة والهيمنة، وهي عوامل جوهرية لا تشجع أحداً على التنازل عنها، إنها المكتسبات الكونية التي تصنف العالم إلى طبقات بينها: الأول والنامي والفقير، وربما المعدم!
في وسط تلك الصورة القاتمة، لا بد أن نشير إلى نقاط ضوء حقيقية في سماء هذا الطوفان البشري. أولها: تقدم الطب، فبفضل الأبحاث الطبية اكتشفت مئات اللقاحات والعقاقير التي أنقذت الملايين الجائعة والمريضة من حافة الموت، وهناك المنظمات الصحية والإغاثية والإنسانية الدولية التي تعمل بطاقة منتظمة على مكافحة المرض والفقر وتمارس بعض الضغوط على حكومات الدول الغنية لمواجهة المجاعات والكوارث الطبيعية التي أحاطت بدول عديدة، ما رفع المتوسط العمري في دولة كالهند مثلاً من 38 «1952م» إلى 64 اليوم، وهذه أسباب أدت إلى تصاعد مستوى المعيشة وإطالة الأعمار، وأفضت إلى نمو سكاني حتمي، لا في الهند وحدها بل في باقي العالم.
هذا التمدد السكاني المكلف واجهته الصين مثلاً عام 1979م بقانونها الشهير «طفل واحد لكل عائلة» وهو قرار صادم لكل العقائد والإيديولوجيات، وأثار زوبعة من الانتقادات العالمية، لكنه، كما تقول الدراسات السكانية جنَّب الصين الوقوع في كارثة مجاعة عظمى، أما الهند فسيتجاوز سكانها سكان الصين، بحلول 2030م، فلا يعرف ما إذا كانت ستتفادى الكارثة رغم كل جهودها في تنظيم الأسرة وإقامة مخيمات التعقيم والاستثمارات في قطاعي الصحة والتعليم.
هنالك معضلة لم تحل، وهي تلخص المشهد الدرامي لمليارات البشر برمته، وهي المدن العملاقة التي تتناسل مدناً عملاقة أخرى. في هذه المدن تتراكم الحشود البشرية في أحياء أغلبها فقير ومزدحم تنقصه الخدمات والمرافق الأساسية لهذه التجمعات، ورغم أن طفرة المدن الكبرى ذات عمر قصير، أي أنها تراوح بين قرن ونصف القرن، فقد سحبت بساط الحياة من القرى والأرياف والمستوطنات البشرية الصغيرة وكدَّستهم في المدن. وهكذا أصبحت المدينة تهيمن على كل عناصر الحياة المعاصرة: المال، المؤسسات، السلطات، المراكز الحضرية، مواقع العلم والبحث والدراسة، مصهر التحولات وصناعة القيم، صراع الفقر والغنى. إنها المأوى إذًا فيما يتزايد عزل الريف أو استيعاب سكانه.
فهل من سبيل إلى تقليص هذا المد البشري الذي سيزيد ملياري نسمة بحلول منتصف هذا القرن؟
الواقع أنه لا توجد حلول سحرية، فدول العالم ومنظماته وتشريعاته تنظر إلى المستقبل السكاني كنظرتها إلى أي قضية سياسية. إنها أزمة تختلف حولها السياسات، وتتصارع بشأنها المصالح، ولكل تكتل دولي أو إقليمي رؤيته الخاصة لهذه المسألة. الحقيقة أن ملف سكان العالم ضخم وشائك ومكلف. وبما أنه لا يؤرق دول الشمال فإنه سيصبح ملفاً إضافياً ضمن ملفات الجنوب العالقة!