الرحلة معا

حاجة لغتنا العربية إلى الحماية والحُب

بدأت «وثيقة بيروت» التي انبثقت عن المؤتمر الدولي الأول للغة العربية في بيروت، العام الماضي، بعبارة لافتة هي أن «اللغة العربية في خطر، والجميع شركاء في حمايتها»، أما النسخة الثانية من المؤتمر الذي انعقد في دبي، هذا العام، فقد واصلت تحذيراتها بحضور عدد ضخم من الباحثين والمتخصصين في علوم اللغة العربية وآدابها وشؤون الترجمة والتعليم.

ينبغي الاعتراف منذ البداية، بأن اللغة العربية هي لسان كتابنا المقدَّس «القرآن الكريم» وقد حفظ هذا الكتاب اللغة من الزوال، كما أنها ارتبطت بثقافة عريقة وعلى رقعة جغرافية عريضة وواسعة امتدت في عصورها الزاهية من السند إلى الأندلس، ومن أواسط أوروبا إلى إفريقيا، وكانت لسان العلوم والصناعات والاكتشافات كونها لغة الأدب والفلسفة والمنطق، وكل تلك العناصر بلا ريب حمتها من التبدد خلال أربعة عشر قرناً وأكثر.

لكن كل هذا لا ينبغي أن يعمينا عن الحقائق التي نشهدها اليوم، فأية أمة تعيش في دائرة الخطر فإن لغتها وتاريخها ووجودها سيحيق بها ذلك الخطر، فاللغة ليست كائناً منفصلاً دون إنسان تلك اللغة، وهي مرآة للكائن الإنساني تنعكس على سطحها أحواله وحياته وموقعه في السلم الحضاري والإنساني، وتجسِّد مدى تفاعله أو نكوصه مع المتغيرات الحضارية والثقافية والعلمية التي تحرِّك العالم. لذا يندر أن نجد لغة حية وفاعلة ومتجددة وقيادية في حين تكون الشعوب الناطقة بتلك اللغة على قدر من التخلف والضعف والتحجّر. فاللغات التي تقف في واجهة العالم هي لغات الأمم التي تسيطر على حضارات العالم، وعلى اقتصادياته وعلومه وتقنياته وبراءات اختراعه ومصانعه ومختبراته، بل إن سيطرتها تنسحب حتى على العلوم الأكثر بعداً عن الضوء كعلوم اللغة والأدب والنقد والاجتماع والأديان والعمران والتاريخ والجغرافيا وغيرها. وهكذا فحين يحدث نهوض حضاري لأمة فإن مكوناتها الأخرى تنهض معها، وتتجدد وتمنح العقول فرصة تجديد واقعها ويصبح المجتمع بكل ألوانه مولعاً بتجديد خلاياه فيصنع النموذج الذي يحج إليه الناس من كل أصقاع الأرض.

في مؤتمر دبي للغة العربية، كانت هناك أوراق عمل ثرية تستحق عناء السفر، ناقشت بتفصيل مجموعة من عناصر الخطر والتهديد التي أسهمت في تكبيل هذه اللغة التي سادت لقرون طويلة، لكن بعض الأوراق كانت على قدر من الضعف ولم يكن ضرورياً أن تدرج في أيام المؤتمر فبعضها لا يزيد على درس أكاديمي يقدِّمه أستاذ في أحد المساقات الجامعية، وبعضها يناقش مسائل عروضية أو بلاغية أو إحدى القصائد أو مدرسة شعرية، وهي أوراق أبعدتنا عن محور المؤتمر وهو سبيل حماية لغتنا من المخاطر التي تحيط بها، والكشف عن مواطن الخلل والقصور التي جعلت لغتنا في مهب الخطر على أرضها وبين أهلها.

لاحظت وأنا أتنقل بين قاعات المؤتمر وعبر المجلدات السبعة التي اعوجّ ظهري من حملها، أن جلّ المحاضرين هم أساتذة لغة ونقد وألسنيات وباحثون في الترجمة، أو في تعليم اللغة للأجانب، وتساءلت لماذا لم يكن بينهم باحثون آخرون في العلوم والتقنيات، في الحواسيب والترجمة الآلية، في الصناعات والمختبرات، في القانون وعلوم المال والبنوك، وغير هؤلاء كثيرون، خاصة وأن إحدى معضلات اللغة العربية هي في أنها لغة كلاسيكية لم تنفتح على العلوم الجديدة وتفرعاتها وانفجاراتها ما حدا بالشركات والمنظمات الفاعلة إلى اعتماد اللغات الأجنبية، وخاصة الإنجليزية كلغة أساسية في تسيير أعمالها، وفي أساليب تواصلها الداخلي والخارجي. هذه اللغة العظيمة إذا أردنا إحياءها وتطويرها وتحديث معجمها، فإن عليها أن تخرج من شرنقة اللغويين والنحاة ومجامع اللغة العربية، إلى فضاء حر تتنفس فيه اللغة من خلال طاقات الشباب الفوارة وعبر مراكز العلوم والتقنية والبحث وحقول المعرفة الجديدة، وفيما أرى فإن هذه هي إحدى وسائل حماية اللغة من التكلس والجمود.

ولكي نخرج من لغة التآمر التي يحيكها الغرب لديننا ولغتنا، فإن علينا أن نقتنع أن موت اللغات هو حقيقة علمية ناصعة، فمجلة «ناشيونال جيوغرافيك» تكتب أن المجموعات السكانية تهجر لغاتها الأصلية لتلتحق باللغات الأقوى، وأن هناك لغة واحدة تموت كل 14 يوماً، وأن نصف لغات العالم التي تقارب 7000 لغة ستختفي بحلول 2100م.

والحقيقة أن لغات عالمية أكثر هيمنة وانتشاراً من لغتنا تعيش تهديداً نسبياً، فالفرنسية مثلاً تخسر بعض وجودها في المحافل العالمية أمام الإنجليزية مثلاً، ولغات كالألمانية والروسية واليابانية لم تعد لغاتٍ علميةً معترفاً بها في الجامعات والمعاهد الأمريكية، وحلت الإنجليزية محلها، بل إن المؤتمرات العلمية الأهم في العالم تنعقد تحت لواء هذه اللغة، والمجلات العلمية الأكثر تأثيراً تكتب بهذه اللغة. وكان من المفيد لنا لو استضفنا عدداً من أبناء تلك اللغات المهددة في هذا المؤتمر ونظائره، لكي نقف على خططهم وبرامجهم لصيانة لغاتهم ورموزهم التاريخية والثقافية من الذوبان في لغة أخرى.

لكن الجميع داخل قاعات المؤتمر وخارجها متفقون على أن صيانة اللغة العربية ينبغي أن تبدأ من داخل البيت العربي، أي من خلال تجديد طرق وأساليب التعليم والتربية وخاصة في المراحل التعليمية الدنيا، وليس جديداً القول إن هناك نفوراً من تعلم هذه اللغة وإتقانها، وأن هناك شبه إجماع على أن طرائق تعليمها جامدة ولا تُحبِّب إلى التلاميذ لغتهم، وقد فطن «ابن خلدون» إلى ذلك مبكراً فعُدَّ إتقان قواعد اللغة العربية لا يكفي لحصول الملكَة العربية، وذكر أن طلاب زمانه في فاس الذين اعتمدوا على الصمت والحفظ دون الحوار قد أفضى ذلك إلى تأخرهم عن الحصول على ملكة الحذق في العلوم، ويقول: «فنجد طالب العلم منهم بعد ذهاب كثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتاً لا ينطقون ولا يفاوضون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة».

أما التحدي الأكبر الذي يواجه اللغة اليوم فهو التحدي الرقمي، وهو تحد يواجه ثقافات ولغات العالم كله، فإذا عرفنا أن المحتوى الرقمي العربي بكل أشكاله وفروعه على شبكة الإنترنت لا يزيد على %3، وهذا رقم كمي لا كيفي، فإن علينا أن نصدق وثيقة بيروت التي أعلنت أن أي تهاون بمصير لغتنا سيقود إلى كارثة لغوية تهدِّد السيادة والاستقلال والهوية الثقافية والوطنية والشخصية.

أضف تعليق

التعليقات