لم يعد الخيال العلمي مادة إنتاج أعمال أدبية وفنية يقتصر دورها على التسلية. ومن المرجح أن هذا الدور لم يقتصر يوماً على ذلك، بدليل الآثار الواضحة التي بدأ الخيال العلمي في السينما والتلفزيون يتركها على القيم والمشاعر والمقاييس السلوكية والأخلاقية. الزميل أمين نجيب يعرض لنا حقيقة الدور الذي اضطلع به الخيال العلمي خلال قرن من الزمن، والآفاق التي يفتحها العلم أمام الخيال، بعد أن أصبحت الحدود الفاصلة في ما بينها غير محددة بوضوح.
كان موضوع ندوة عقدتها إحدى الفضائيات الأوربية مؤخراً، حول تأثير حروب العقدين الماضيين في الجنود مقارنة بتأثيرات حرب فيتنام. وقد اتفق معظم الحاضرين على أن حرب فيتنام أوجدت مشكلة أخلاقية عند معظم الجنود الذين قتلوا أناساً، أو شاهدوا أناساً يقتلون. ومنهم من رافقته هذه المشكلة طوال حياته. ولكن هذه الظاهرة لم تتكرر في حروب السنوات الأخيرة، وكانت المفاجأة في اتفاق معظم المشاركين في الندوة على أن المحارب الجديد هو، إلى حد بعيد، خريج أفلام الخيال العلمي والحروب الافتراضية في السينما والتلفزيون وألعاب الكمبيوتر.
أول ما يتبادر إلى الذهن في محاولة تفسير هذا التحول هو القول الشائع بأن الإنسان الحديث قد ألف العنف واعتاده. ولكن تحليلاً أعمق من هذا يقودنا إلى عالم الخيال العلمي وثقافته الواسعة بالغة الأهمية. فالمشاهد لأفلام الخيال العلمي أو مسلسلاته أو ألعابه الإلكترونية يتماهى مع الأبطال. وكذلك تتماهى الأماكن المتخيلة مع الأماكن المحيطة بهذا المشاهد. وبما أن التحول والتبدل من حالة إلى أخرى هي من السمات شبه الثابتة في أدب الخيال العلمي، يتشجع المرء على القيام ببعض الأعمال بلا خوف من نتائجها الأخلاقية أو المصيرية. فالمهم هو البقاء في موقع القوة، والمآزق أو حال الضعف في هذه الثقافة هو مجرد حالة عابرة لتلمس وضعية القوة. فعلى المشاهد أن يبقى في وضعية المنتصر أو أن يصل إليها كما هو حال البطل في الخيال العلمي. ولعل الدور الخفي للأسلحة الحديثة والتكنولوجيا العسكرية المتطورة يكمن في هذه النقطة بالذات، فهي تشبه إلى حد بعيد السلاح والعتاد الحربي الذي استعمله الأبطال في هذا الفيلم أو تلك الرواية وانتصروا بفضله، أي أنه يشجع على التماهي ويختصر المسافة ما بين الواقع والمتخيل، فيصبح الإنسان الحقيقي والبطل الافتراضي وحداً.
والواقع إن ثقافة الخيال العلمي باتت تتجاوز هذا الإطار لتشمل أوجه العلاقة ما بين العلم والخيال كافة. وأثر هذه العلاقة في كل منهما، وبالتالي في حياة الإنسان ككل.
خيالات علمية.. بالجمع
غالباً ما تحصل عمليات جمع لكل الأعمال الأدبية والفنية القائمة على الخيال العلمي تحت عنوان واحد. ولكن نظرة مدققة إلى مجموعة من أشهرها تسمح لنا بتصنيفها إلى فئات مختلفة، وإن كانت كلها تشترك في التقاط ناحية من نواحي تطور العلم، لتدفعه بالخيال إلى حدوده القصوى وتنسج منه وعليه قصة درامية كبيرة.
فقد أدى تطور التكنولوجيا الطبية المجهرية في الستينيات من القرن الماضي إلى صناعة الفيلم السينمائي الشهير “رحلة خيالية” في عام 1966م، وفيه نرى مجموعة علماء يتم تصغيرهم إلى درجة ميكروسكوبية، يوضعون في غواصة تجوب جسم إنسان من الداخل لإجراء عملية جراحية في دماغه. وعلى الصعيد المخبري نفسه، كان اكتشاف خصائص الحمض النووي وراء صناعة فيلم “الحديقة الجوراسية” حيث تعود الديناصورات إلى الحياة بعد انقراضها.
ومن أفلام الخيال العلمي أيضاً ما يعتمد على المعطيات العلمية الدقيقة للتحذير من مخاطر سوء استعمالها، أو العجز عن مواجهة آثارها، مثل فيلم “اليوم التالي” الذي يتخيل وقوع حرب نووية، ولكن آثارها المدمرة، كما تبدو في الفيلم، على مستوى عالٍ من الأمانة العلمية.
وأيضاً هناك الأفلام التي تقوم على قصة متخيلة تماماً، ولكن كل معطياتها علمية دقيقة، مثل فيلم “الأثر العميق” الذي يصور ما يمكن أن تتعرض له الأرض من جراء اصطدام نيزك كبير بها.
ولكن الشريحة الكبرى من أفلام الخيال العلمي هي تلك التي تتعلق بغزو الفضاء والصراع من أجل السيطرة عليه.
الفضاء للخير والشر
بدأ غزو الفضاء في الأدب بقلم الروائي الفرنسي المعروف جول فيرن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع روايتين تناولتا سفر الإنسان إلى القمر، وعلى مدى أكثر من قرن، أصبحت الرحلات الفضائية من المواضيع التي لم تغب عن الأدب والسينما والمجلات المصورة.
كان الفيلم السينمائي الأول في هذا المجال في عام 1902م، وأخرجه الفرنسي جورج ميلز بعنوان “رحلة إلى القمر”. وفي العام 1926م ظهر فيلم “ميترو بوليس” الذي كان يدور حول الحياة على الأرض في أواخر القرن العشرين. لكن هذا النوع من الأفلام لم ينطلق بقوة إلا بعد ما تبنته هوليوود في الثلاثينيات. ومن أشهر ما تمّ إنتاجه، آنذاك، “الطابق الثالث عشر” (1937م)، الذي يتضمن أول ظهور لـ “الحقيقة الافتراضية” في السينما..!
أما في الستينيات، وخلال السباق المحموم بين الأمريكيين والسوفيات على استكشاف الفضاء، فقد ظهر المسلسل التلفزيوني “الرحلات الفضائية” (Star Trek) الذي حظي بمتابعة عشرات الملايين من الصغار والكبار، وبلغ تأثيره حداً جعل المفردات التي يستعملها أبطاله، مثل “أطلق الطاقة”، تروج على ألسنة العامة، وتدخل قواميس الجامعات. حتى أن رئيس قسم الفيزياء في جامعة “كايز ويستر ريزورف”، وهو عالم فيزياء شهير يدعى لوارنس كراوس، أصدر كتاباً بعنوان “فيزياء ستار تريك”.
وفي عام 1968م ظهرت تحفة أفلام الخيال العلمي حتى آنذاك، “2001، أوديسا الفضاء” للمخرج العالمي ستانلي كوبريك. وفي شريط وثائقي عُرض مؤخراً تم الكشف عن أن كوبريك صنع فيلمه هذا بدعم علمي ومادي وتقني سري من وكالة الفضاء الأمريكية التي كانت تريد إثارة حماس الرأي العام ودافعي الضرائب لمشاريع غزو الفضاء بغية حصولها على المال اللازم لمشاريع الرحلات القمرية “أبولو”.
بقي فيلم “أوديسا الفضاء” بلا منازع من حيث تزاوج الخيال بالعلم، حتى عام 1977م حين ظهر فيلم جورج لوكاس “حرب النجوم”. وقد سبقت هذه التسمية برنامج الرئيس رونالد ريغان لحرب النجوم بست سنوات. وطبع هذا الفيلم الأفلام التي تبعته كافة، من حيث الصراع بين الإنسان والمخلوقات الفضائية والأسلحة المستخدمة في هذا الصراع، وتتراوح ما بين مسدسات الليزر وتفجير الكواكب..!
الصراع بالمقاييس الفلكية
تمحورت معظم الروايات والأفلام من الشريحة الأخيرة، وغيرها أيضاً، على فكرة الصراع بين الخير المتمثل في بضعة أبطال، والشر الذي قد يتمثل في مخلوقات فضائية غريبة، أو عالم شرير، أو نيزك يهدد كوكب الأرض، أو ديناصور مستولد اصطناعياً، أو حتى آلة أو إنسان آلي.. فالخير متمثل دائماً بإنسان على صورة المشاهد، والشر هو كل الآخرين.. كل الغرباء.. وغالباً ما يستهلك الصراع طاقات متخيَّلة عملاقة تتضمن تدمير مئات المركبات الفضائية العدوّة، قتل المئات منهم، تفجير محطات فضائية وحتى كواكب.. وذلك للوصول إلى النتيجة المتوقعة التي تبرر كل شيء: انتصار الخير..!
الخيال العلمي والعلم
ولكن إذا كان ما أشرنا إليه في البداية من هذه بعض آثار الخيال العلمي في السلوك الإنساني، فيجب التساؤل حول “سلامة” هذا التأثير، وصحة الانطباعات التي تهمس بها أفلام الخيال العلمي. الأمر الذي يقودنا إلى علاقة الخيال بالعلم الدقيق.
يعترف العديد من العلماء الكبار ومن بينهم ستيفن هوكينغ صاحب الكتاب الشهير “مختصر تاريخ الوقت” ومارفن مينسكي أن قصص الخيال العلمي هي التي دفعتهم إلى أن يصبحوا علماء. ويقول هوكينغ إنه كان في سنواته الجامعية الأولى يقرأ من كتب الخيال العلمي أكثر مما كان يقرأ الدروس الجامعية.
كما أدرجت جامعة فلوريدا مادة دراسية ضمن برامجها الأكاديمية تُدعى “علوم سينمائية” تتخصص في الفيزياء في الأفلام. وقد لاحظ كوستاس إثيميون المشرف على هذه المادة أن تلامذته الجامعيين، ومنهم تلامذة علوم، كانوا ينجذبون إلى الأفلام التي لا تتمتع بدقة علمية. فقد أحبوا مثلاً فيلم “آرمجدون” الذي يفتقر إلى القيمة العلمية، ولم يُعجبوا بفيلم “الأثر العميق” الذي بُنيت قصته على معطيات علمية بالغة الدقة في زخارفها.
وفي صيف هذا العام، اجتمع عدد من العلماء في ندوة عُقدت في هوليوود، وكان الهدف تحسين صورة العلم والعلماء في أفلام الخيال العلمي التي أصبحت تسيطر على عقول المشاهدين. وتم خلال الاجتماع عرض فيلم “البركان” الذي يصور تدمير مدينة لوس أنجلس. ولدى عرض مشاهد اندفاع الحمم من باطن الأرض، انفجر علماء البراكين بالضحك، الأمر الذي فسره أحد الحاضرين بالقول: “إن أصوات الحمم البركانية تشبه رنين الزجاج وهو يبرد. لكن مخرج الفيلم أراد الأصوات أن تكون أشبه بصوت قطار الشحن. ولهذا اعتقد علماء البراكين أن الفيلم المذكور هو فيلم فكاهي”..!!
ومن الذين شاركوا في الندوة كان هناك ليو تشانغ، وهو أحد العلماء العاملين على برنامج القمر الاصطناعي “كاسيني”، وقال تعليقاً على الاجتماع: “لقد أعطاني دافعاً لكتابة الخيال العلمي كهواية، وحتى كمهنة”. وبعدما اعتقد معظم العلماء أن الاجتماع سيركز على كيفية تحسين صورة العلم والعلماء، أحسوا بخيبة أمل لأن الدقة العلمية تقع أحياناً كثيرة ضحية الاعتبارات الدرامية التي تشكل بدورها ضحية أخرى. إذ يتساءل أحدهم: “كيف يمكن أن يثيرنا انفجار صامت في الفضاء الخارجي؟ وما الذي سيجعل الجمهور يتفاعل مع موجة تُغرق مدينة؟”. ويعلق عالم آخر بقوله: “من المؤسف أن يفهم الرأي العام العلوم كما تقدمها الشاشات الكبيرة والصغيرة”.
ولكننا، من ناحية أخرى، نرى الكثير من التوقعات العلمية الصحيحة في أفلام الخيال العلمي، فقبل هبوط الإنسان على سطح القمر، بنحو قرن، حدد جول فيرن مكان إطلاق الصاروخ في ولاية فلوريدا، ومكان العودة في المحيط الهادي..!!
والأسس النظرية التي تقوم عليها تكنولوجيا النانو التي بدأ الحديث عنها منذ سنتين فقط موجودة بالكامل في فيلم “رحلة خيالية” الذي يعود إلى منتصف الستينيات..!
الخيال العلمي وصراعات المستقبل
“بين عامي 2004 و 2030م سيدخل العالم حالة متفردة (Singularity) وهي تختلف تماماً عما نحن فيه، ولا نعرف ما هو مصيرنا”. هذا الكلام ليس لعراف أو منجم، بل لعالم الرياضيات والكمبيوتر فيرنور فينج، وجاء في محاضرة ألقاها في مؤتمر عقدته وكالة الفضاء الأمريكية عام 1993م. وأعلن، آنذاك، أن حقبة سيطرة الإنسان على الأرض شارفت على نهايتها، وسيتبعها ما يُعرف بـ “مستقبل ما بعد الإنسان” وهذا التعبير أصبح شائعاً إلى درجة أن فوكوياما، صاحب الكتاب الشهير “نهاية التاريخ”، نشر كتاباً آخر سماه “مستقبلنا ما بعد الإنسان”.
كان فينج قد اكتسب صدقية كبيرة بعد نشره قصة قصيرة عام 1981م بعنوان “الأسماء الحقيقية”، وقد تخيّل فيها شبكات الكومبيوتر وتأثير الإنترنت في المجتمع قبل وجود ذلك كله بمدة طويلة. ويقول فينج اليوم: “إن شخصاً ما سيتمكن من اختراع كومبيوتر يتمتع بقدرة تفوق الدماغ البشري، وبعد ذلك سينفجر تطور الآلة من دون ضوابط، من خلال إنتاج كومبيوترات ذات قدرة أكبر فأكبر، تستبدل نفسها بأنواع أكثر تطوراً حتى الوصول إلى نقطة تصبح معها واعية ذاتياً ولها حاجات تعرفها. وبما أنها أذكى من الإنسان لا يمكننا أن نعلم منذ الآن ماذا ستفعل بنا، لأن كل مفاهيمنا الحالية حول العلم والتكنولوجيا والاقتصاد قائمة على أساس أننا نسيطر على الأرض ونحلم بالكواكب”.
على كل حال، تمثّل نظرية فينج دفعاً للخيال العلمي، وإن كان يمكن الجزم بأنها ليست طليعية، فقد شاهدنا الكومبيوتر يتمرد على الإنسان ويعصي أوامره، وذلك في فيلم “2001، أوديسا الفضاء”، قبل ثلاثة عقود ونصف..!
ما يهمنا في ما ذهب إليه خيال فينج هو أن الأساطير اليونانية لم تُعطِ أبطالها ولا حتى زيوس نفسه مثل هذه القوة. كانت الأساطير اليونانية الجميلة تتحدث عن أبطال متنوعي القدرات والاختصاصات. وكانت الصراعات تدور ضمن ما يُعرف في الفسلفة اليونانية بـ “الطبيعة البشرية”. لكن الخيال العلمي، في عصرنا هذا، حوّل هذه الطبيعة إلى مجموعة أرقام ومعلومات سخيفة. وفي التعامل مع الأرقام والمعلومات تسقط المفاهيم الإنسانية والمشاعر التي تميل إلى الخير ضدّ الشر.