ارتفعت خلال الأشهر الأخيرة، وبشكل غير مسبوق، وتيرة الاهتمام السياسي والعلمي والإعلامي بقضية الاحتباس الحراري. وما ينجم أو قد ينجم عنه من متغيرات مناخية في العالم بأسره. وتزامنت الدعوة الأخيرة التي أطلقها الاجتماع الأوروبي الأمريكي في واشنطن إلى تحرك عاجل لمعالجة الاحتباس الحراري، مع وصول كتاب نائب الرئيس الأمريكي السابق آل غور حقيقة غير ملائمة إلى مكتباتنا، وهو الكتاب الذي تم تصويره سينمائياً، وحاز آل غور جائزة أوسكار لعمله عليه وظهوره فيه.
عبود عطية يتناول هنا قضية الاحتباس الحراري كما تظهر على صفحات هذا الكتاب.
يعرف الذين تابعوا أخبار السياسة الأمريكية خلال عهد الرئيس بيل كلينتون، الاهتمام الذي أولاه نائبه آل غور للشأن البيئي عموماً وقضية سخونة الأرض على وجه التحديد. واهتمام الرجل بهذه القضية لم يكن وليد منصبه السياسي، بل العكس يكاد يكون صحيحاً. إذ إنه، قبل سنة من توليه نيابة رئاسة أمريكا، كان قد ألَّف كتابه الأول في مجال البيئة الأرض في الميزان .
فماذا إذن عن الكتاب الذي يضعه بين أيدينا اليوم، بعدما أمضى ثماني سنوات في منصب يتيح له الاقتراب من الموضوع أكثر من أي شخص آخر؟
الواقع أن كتاب حقيقة غير ملائمة يتضمن عصارة المعلومات والدراسات والآراء الواردة من كل أصقاع الأرض حول ما تغيَّر في مناخ العالم، وما سيتغيَّر إذا ما استمر العالم في تجاهل قضية الاحتباس الحراري، ناهيك عن دعوة صارخة إلى العمل على درء هذا الخطر. فالمؤلف ليس مراقباً، بل أيضاً مناضل في سبيل هذه القضية.
صورة الكتاب المصور
والكتاب فريد من نوعه لجهة صيغته الشكلية. فهو لكثرة الصور الفوتوغرافية يكاد يبدو مجرد ألبوم مصور. ولكن اعتباره كذلك يتضمن إجحافاً بحقوق النصوص المكثفة والبليغة التي ترافق هذه الصور. فتعليقات الصور، والشروحات تقتصر فعلاً على كل ما قلَّ ودلَّ. ولتسليط الضوء على معلومة خطرة أو فكرة مهمة، لا يتوانى مخرج الكتاب في أن يفرد عشر كلمات على صفحتين. من دون أن يعني ذلك غياباً كبيراً للنصوص المفصلة والطويلة نسبياً التي تمتد على صفحتين هنا، أو ثلاث هناك.
هذا الزواج الموفق جداً ما بين الصورة والنص فرضه الموضوع. هذا الموضوع الذي لا يزال يواجه بعض المشكّكين من ذوي الغايات المختلفة، كما أنه لتشعباته الكثيرة لا يزال يعاني من ضبابية صورته في أذهان الكثيرين. وفي حين أن نشر بعض الصور كان ضرورياً لدعم صدقية المعلومة، فإن بعضها الآخر كان تجسيداً مرئياً لفكرة مجردة يدعم صحتها. فعلى سبيل المثال، نرى على صفحتين كاملتين من هذا الكتاب صورة تبدو الأرض في نصفها صحراء قاحلة، وفي نصفها الآخر تبدو غابة مدارية كثيفة. وفي أعلى الصورة نقرأ: الطريقة التي تعامل بها الغابات هي مسألة سياسية. هذه هي الحدود ما بين هاييتي وجمهورية الدومينيكان. لهاييتي سياستها، وللدومينيكان سياسة مختلفة .
ونظراً للترابط المعقَّد ما بين كل العناصر المتداخلة في قضية الاحتباس الحراري وسخونة الأرض وما رافقها من ظواهر، فقد جاء الكتاب من دون فهرس بالمحتويات التي يستحيل فصلها عن بعضها البعض، فظهرت على شكل مقالات مستقلة متفاوتة الأحجام، ومقتطفات معلومات مصورة من هنا وهناك. وهذا يسهِّل قراءة هذا الكتاب وفهم محتواه، حتى بالنسبة لأولئك الذين لا يعرفون الكثير عن الموضوع. ولو شئنا أن نفهرس كتاب آل غور على هوانا، لقلنا إنه يتضمن أربعة أقسام رئيسة، هي:
1 –
التعريف بماهية غازات الدفيئة وتاريخ رصد سخونة الأرض (ويتضمن ذلك بعض المقتطفات على شاكلة ذكريات شخصية).
2 –
ما حصل في العالم فعلاً من متغيرات مناخية خلال العقود الثلاثة الأخيرة تقريباً.
3 –
ما يتوقع حدوثه من متغيرات كارثية خلال العقود المقبلة إذا استمر العالم في تجاهل قضية الاحتباس الحراري.
4 –
دور السياسة سلباً وإيجاباً في المواجهة، ودور الفرد أيضاً، وبعض الآراء النظرية المختلفة حول ما يمكن القيام به في شأن هذه القضية.
ومن الصعب جداً تقديم عرض كامل لمحتويات الكتاب، خاصة وأنها جاءت أصلاً في صيغة يصعب اختصارها أكثر مما هي مختصرة. ولذا، سنتوقف أمام بعض الأمثلة والعينات ذات الطابع الإخباري، ونعطي فكرة عامة عن ماهية الكتاب.
قصة ثاني أكسيد الكربون
يروي آل غور في الصفحات الأُوَل من الكتاب أن أستاذه الجامعي، روجر ريڤيل، كان أول من خطر له أن يقيس نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. وبدأ بالفعل هذه المهمة عام 1958م مع أحد مساعديه في المحيط الهادئ. وبعد سنوات خمس، جمع ريڤيل من المعلومات ما يكفي لوضع رسم بياني يؤكد أن نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للأرض هي بصدد الارتفاع بشكل ملحوظ.
ويشدِّد الكاتب على أن ثاني أكسيد الكربون هو أهم غازات الدفيئة التي يذكر عدداً منها، هذه الغازات التي تمنع حرارة الأرض من الانطلاق صوب الفضاء الخارجي، فترد جزءاً -وهذا الجزء يتزايد باستمرار- صوب الأرض لتتسبب في ارتفاع حرارة سطحها، مع كل ما يعنيه ذلك من نتائج وتداعيات. واستناداً إلى الرسم البياني في الكتاب، فقد ارتفعت نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي من 280 جزءاً في المليون قبل الثورة الصناعية إلى نحو 315 جزءاً عام 1958م، وصولاً إلى 381 جزءاً عام 2005م، الذي كان أيضاً -وليس من باب الصدفة- العام الأكثر سخونة على صعيد المناخ في العالم.
وبعد ذلك، ينطلق المؤلف في عرض مجموعة من الظواهر المناخية التي طرأت على العالم بأسره خلال السنوات الأخيرة.
ذوبان الأنهر الجليدية
والثلوج الدائمة
يؤكد الكتاب بسهولة على ذوبان الكثير من الأنهر الجليدية والثلوج الدائمة، وذلك من خلال عرض صورتين فوتوغرافيتين للموقع نفسه كما كان قبل سنوات معدودة، وكما هو اليوم. ومنها نهر كولومبيا الجليدي في ألاسكا الذي يتراجع سنوياً، ونهر كولي كاليس في البيرو الذي أصبح عند طرفه بحيرة، والمنطقة المتجمدة في أوبسالا في الأرجنتين التي أصبحت بحيرة، ويتابع جولته على المنوال نفسه وصولاً إلى سويسرا، وجبال الألب الإيطالية، فجبل كليمنجارو في إفريقيا، فجبال الهملايا في آسيا.
الأعاصير.. أقوى بنسبة %50
في يوليو من العام 2005م، أي قبل شهر واحد من تعرض أمريكا لإعصار كاترينا الشهير، تبنت جامعة ام. آي. تي دراسة علمية تؤكد على أن سخونة الأرض تجعل الأعاصير أعنف وذات قوة تدميرية أكبر. ومما جاء حرفياً في الدراسة إن الأعاصير التي تهب فوق الأطلسي قد زادت من سرعتها وديمومتها بنسبة %50 عمَّا كانت عليه عام 1970م .
أما العام 2004م، الذي شهدت فيه اليابان رقماً قياسياً في الأعاصير وصل إلى عشرة (بعدما كان الرقم القياسي السابق سبعة)، فقد شهد حدثاً كان العلماء يقولون باستحالة وقوعه. ألا وهو إعصار في جنوب الأطلسي. وفي تلك السنة أيضاً، ولأول مرة في التاريخ المسجل، تعرضت سواحل البرازيل الشرقية للإعصار.
الجفاف.. بحيرة التشاد مثلاً
ومقابل الفيضانات والأعاصير التي تضرب بعض المناطق، يؤدي الخلل في المناخ العالمي إلى الجفاف والتصحر في مناطق أخرى. فبحيرة التشاد مثلاً، التي كانت قبل أربعين عاماً فقط سادس أكبر بحيرة في العالم، تقلصت اليوم إلى نحو واحد على عشرين مما كانت عليه، وشارفت على الاختفاء كلياً. ومدينة مثل نغويغمي في النيجر كانت تحيط بها البحيرة من ثلاث جهات، وتعتاش أساساً من صيد السمك، باتت اليوم على مسافة 60 ميلاً من البحيرة.. ويحذِّر الكاتب من العواقب السياسية والإنسانية الخطرة لمثل هذه المتغيرات في الدول النامية، ولا يتردد في حالة بحيرة التشاد في ربط جفافها بالاقتتال الدموي الذي حصل في دارفور.
ويشير الكتاب في أحد رسومه البيانية إلى اتسَّاع المساحات المتصحرة سنوياً من 624 ميلاً مربعاً في السبعينيات، إلى 840 ميلاً مربعاً سنوياً في الثمانينيات، ثم 1374 ميلاً مربعاً في التسعينيات.
أشجار تيبس، ومبانٍ تنهار
وعلى المنوال نفسه، يتابع الكتاب عرض عشرات الأمثلة المصورة المفجعة.. ومنها صورة لجزء من غابة صنوبر عملاقة تمتد على مساحة 14 مليون دونم ما بين ألاسكا وكولومبيا البريطانية، وقد ضرب الكثير من أشجارها اليباس بسبب انتشار نوع من الخنافس حيث كان الطقس البارد والشتاء الطويل يبطئ من نشاطها. أما الفارق الحراري المسجل، فهو رغم ضآلته الرقمية، كان كافياً لتنشيط الحشرة إلى درجة تمكنها من الفتك بالغابة.
ومن المناطق الشمالية أيضاً، حيث تأسست البيوت والمنشآت العامة على أساس أن الأرض متجمدة طوال العام، بدأت الكاميرات تلتقط صور المنازل المنهارة في سيبيريا كما هو في ألاسكا، بعد ذوبان الجليد الأرضي الذي يفترض أنه كان دائماً. كما أدى ذوبان الجليد الأرضي إلى تهاوي الأشجار واتكائها على بعضها فيما صار يعرف باسم الغابات السكرانة !
الحرائق الكبرى
ويحمِّل الكتاب سخونة الأرض إلى تزايد معدل الحرائق الكبرى سنوياً في العالم. فالحرارة المرتفعة تجفف أوراق الشجر والأرض، والهواء الجاف يتسبب بصواعق أكثر، ويظهر أحد الرسوم البيانية المنشورة ارتفاع عدد الحرائق الكبرى في أمريكا الشمالية والجنوبية خلال العقود الخمسة الماضية.
ففي الخمسينيات والستينيات، لم يزد معدل هذه الحرائق على اثنين سنوياً. بدءاً من السبعينيات بدأ العدد يرتفع إلى أربعة، ثم إلى عشرة في الثمانينيات، وصولاً إلى 47 حريقاً رئيساً خلال التسعينيات!
الثلوج القطبية.. تقلصت فعلاً
ويركِّز الكتاب بشكل خاص على الخطر المتمثل في ذوبان الثلوج القطبية. وبعد أن يعرض صورة مفزعة فعلاً لما خسرته غرينلاند من ثلوجها الدائمة خلال السنوات الأخيرة، يوضِّح نوعية هذا الخطر من خلال التبصر قليلاً في نوعية القطبين جغرافياً. فالمحيط المتجمد الشمالي هو عبارة عن ماء مغطَّى بطبقة من الجليد متوسط سماكتها نحو عشرة أقدام فقط. أما الثلوج القائمة فوق اليابسة فتكاد تنحصر في غرينلاند. وبالمقابل، فإن القارة القطبية الجنوبية هي يابسة تحمل فوقها جليداً بسماكة عشرة آلاف قدم. وذوبان الثلوج إما في غرينلاند، وإما في القارة القطبية الجنوبية، أو حتى انزلاقها نحو البحر، سيؤدي إلى ارتفاع مستوى سطح البحر نحو عشرين قدماً. الأمر الذي يعني تغيراً كبيراً في خارطة العالم، ليس أقله على سبيل المثال، غرق أكثر من ثلث ولاية فلوريدا الأمريكية، وتهجير 20 مليوناً من سكان بكين وضواحيها في الصين، و60 مليوناً في بنغلادش وكالكوتا في الهند، واختفاء آلاف الجزر من بحار العالم، لتظهر محلها جزر جديدة كانت فيما مضى جزءاً من اليابسة.
التفسير.. صورة المحرك
يشبِّه العلماء المناخ بمحرك مهمته توزيع الحرارة من المناطق الاستوائية والمدارية باتجاه القطبين، لأن هذه المناطق هي أكثر عرضة لأشعة الشمس، في حين أن المناطق القطبية تبقى تباعاً لمدة ستة أشهر في الظلام البارد. وعملية نقل الحرارة هذه تتم عبر التيارات الهوائية والمائية في المحيطات. وحركة التيارات كما نعرفها اليوم هي نفسها كما كانت منذ عشرة آلاف سنة تقريباً. وأي تغير يطرأ على هذه التيارات ستكون له عواقب يصعب تخيلها أو احتسابها.
ما تمكن العلماء من احتسابه هو أن ازدياد معدل حرارة الأرض خمس درجات فقط، يعني تسجيل درجتين فقط عند خط الاستواء مقابل 12 درجة في القطب الشمالي والجنوبي. وللدلالة على خطورة الأمر، يذكر العلماء بأن سخونة مماثلة حصلت بالفعل قبل عشرة آلاف سنة في الشمال الغربي من أمريكا أدت إلى ذوبان الثلوج واحتقانها خلف سد لبعض الوقت، ومن ثم انهيار السد وتدفق المياه الباردة في المحيط الأطلسي، الأمر الذي أدى إلى تبريد مفاجئ لتيار الخليج الحار، الذي كان سابقاً يدفئ أوروبا الشمالية، فدخلت أوروبا في عصر جليدي استمر لنحو ألف سنة. وهذا ما يفسر لماذا يمكن أن تنعكس سخونة الأرض حراً هنا، وبرداً هناك، جفافاً في بعض المناطق، وأعاصير في أماكن أخرى.
إلى العمل قبل فوات الأوان
ويخصص المؤلف الصفحات الأخيرة من كتابه لعرض التعاطي السياسي مع قضية الاحتباس الحراري، والذي يتراوح ما بين التعاطي الواعي، والتغاضي المعتمد لحسابات معينة. وتلفتنا في هذا المجال الصفحتان المخصصتان لخريطة العالم حسب نسب إنتاج ثاني أكسيد الكربون. ومما جاء فيها أن أمريكا وحدها تنتج %30.3 من غازات الدفيئة، تليها أوروبا (مجتمعة) بنحو %27.7. أما اللافت في هذه الخريطة، ومصدرها إدارة معلومات الطاقة في وزارة الطاقة الأمريكية، أن دول الشرق الأوسط مجتمعة بما فيها كل الدول المنتجة للنفط في الجزيرة العربية إضافة إلى إيران وتركيا لا تنتج أكثر من %2.6 من الإنتاج العالمي من غازات الدفيئة. وفي مكان آخر يفسِّر المؤلف إلى تدني هذه النسبة بالإشارة إلى تطور صناعة الطاقة في الجزيرة العربية بحيث صارت تحبس الغاز الطبيعي المرافق للنفط وتستخدمه في مجالات عديدة بدل حرقه.
كما يتضمن هذا القسم الموجه إلى الرأي العام، تصحيحاً لبعض مفاهيم خطأ وشائعة حول التغير المناخي، ودعوة إلى الأفراد، كل فرد على حدة، إلى تخفيض الحصة التي ينتجها من غازات الدفيئة. وأرفق المؤلف دعوته هذه بجملة نصائح عملية في هذا المجال.
وإذا كان المؤلف يعتبر أن لكل فرد دوراً يجب أن يلعبه في مواجهة الاحتباس الحراري، يمكننا أن نتصور قسوة النقد الذي يوجهه في هذا القسم من الكتاب للإدارة الأمريكية الممتنعة حتى الآن (مع أستراليا) عن توقيع اتفاقية كيوتو، علماً بأن 132 دولة وقَّعت هذا البروتوكول، ومعظمها وقَّع طوعاً (مثل المملكة العربية السعودية)، إضافة إلى التوقيع الطوعي لعدد من المدن والولايات الأمريكية دون حكومتها الاتحادية.
أما السمة الرئيسة لهذا القسم من الكتاب، فتكمن في الإلحاح والإصرار على تحمل المسؤولية، إلى جانب التفاؤل بقدرة العالم على أن يكسب هذه المعركة إذا توافرت له الإرادة، مستشهداً بالنجاح الذي حققه العالم في مجال معالجة ثقوب الأوزون. الأمر الذي يعيدنا إلى كلمة أفرد لها المؤلف صفحة كاملة في بدايات الكتاب وتقول: إن الغلاف الجوي رقيق إلى درجة تسمح لنا بإحداث تغيير في تركيبته . والتغيير المطلوب اليوم يبدأ بالاعتراف الملائم بحقيقة غير ملائمة.