قضية العدد

قضيتها ثقافية واجتماعية وأخلاقية
الجراحة التجميلية بين الضرورة والعبث

  • 13a
  • 12b
  • 13a
  • 14a
  • 15a
  • 16a
  • 16b
  • 17a
  • 10a
  • 11a
  • 12a

من بين كل الاختصاصات الطبية قد تكون الجراحة التجميلية هي الأكثر إثارة للجدل. فمقابل إنجازات علمية كثيرة متلاحقة في هذا القطاع، تشكِّل صورة تبعث على الزهو بما صار بمقدور هذه الجراحة أن تحققه، ثمة أسئلة مربكة يكاد بعضها أن يأتي مصحوباً بالجواب المثير للحزن أو القلق.
الدكتور حذيفة الخراط وسجا العبدلي يستعرضان هنا بعض أوجه هذه القضية المتمثلة في النمو الهائل الذي طرأ على جراحة التجميل خلال السنوات الأخيرة، والمصحوب في الوقت نفسه بتفاعل اجتماعي يكاد أن يتفلت من كل الضوابط، بحيث باتت جراحة التجميل طقساً عالمياً، أكثر مما هي ضرورة كما نفهم من عبارة «جراحة». فما الذي يدفع بالآلاف والملايين إلى وضع أنفسهم طوعاً تحت مبضع الجرَّاح الذي يتردد كثيرون في الخضوع إليه حتى في الحالات الطبية الحرجة؟

ما بين تعريف القاموس لجراحة التجميل من جهة، وصورة هذا الاختصاص العلمي في وجدان العامة، ثمة مسافة كبيرة تكاد أن تضع المفهومين موضع التناقض.

فالقاموس يقول لنا إن جراحة التجميل هي فرع من الجراحات يهدف إلى استعادة التناسق والتوازن والوظيفة لجزء من أجزاء الجسم الخارجية، لإزالة عيب قد يكون ولادياً أو نتيجة إصابة ما، ويقاس نجاحها بمقدار استعادة ما فُقد من مقاييس الجمال في الجزء المصاب. أما في الوجدان العام، فثمة ما حصل خلال العِقدين الماضيين على مستوى العالم بأسره، ورسم صورة مختزلة لجراحة التجميل على أنها أولاً وقبل كل شيء مكافحة آثار التقدم في السن، و«تجميل» القوام أو الوجه وفق مقاييس محددة.

وعلى الرغم من أن صورة جراحة التجميل في الوجدان العام قابلة للتفسير بطبيعة المناسبات التي يتم فيها تناول هذا الاختصاص الطبي في أحاديثنا اليومية، فإن هذه الصورة تكاد أن تجافي الواقع.

فجراحة التجميل علم واسع وعريق، ومجالاته التطبيقية كثيرة، ومعظمها أخطر من «معالجة مظاهر التقدم في السن». فجرَّاح التجميل مثلاً هو المعالج الرئيس لحالات الإصابة بالحروق بأنواعها ودرجاتها المختلفة، سواء تلك الناجمة عن التعرض للنار أو السوائل الساخنة أو المواد الكيميائية. ولجرَّاح التجميل دور رئيس في معالجة ضحايا الحوادث، وخاصة تلك التي يصاب فيها الجلد إصابة بالغة تستدعي تعويض ما فُقد منه، من خلال تقنيات جراحية متطورة ومعقَّدة تقوم على نقل شرائح من الجلد السليم وزرعها في المكان المصاب. وتناط بجراحة التجميل أيضاً معالجة معظم حالات الأورام التي تظهر على جلد الإنسان، بنوعيها الحميد والخبيث. وثمة طرق عديدة لاستئصال هذه الأورام جراحياً، ليتم بعدها التعامل مع الأنسجة المصابة بالطريقة المناسبة.

ومن الجوانب التي يعرفها كثيرون عن جراحة التجميل، هو دورها في معالجة ما قد يظهر على الجسم من تشوهات خلال مراحل العمر المختلفة، بدءاً بالتشوهات التي قد تكون ولادية، أي لوحظت على جسم المولود فور ولادته مثل حالات شفة الأرنب (المشقوقة) وسقف الحلق المشقوق، وتشوهات الأصابع أو الأذنين وما شابه ذلك.. ولكن هذا الجانب من مهمات الجراحة التجميلية ليس هو ما حوَّلها إلى قضية عالمية في يومنا الحاضر وصناعة عملاقة تدر على المستفيدين منها مليارات الدولارات، وتتسبب في الوقت نفسه باضطرابات نفسية واجتماعية يكاد العالم أن يقف أمامها موقف المتفرج مكتوف اليدين.

نمو مثير للعمليات الجراحية
في أمريكا أيضاً
ما بين العامين 1995 و2005م، تضاعف حجم جراحة التجميل في أمريكا %700 استناداً إلى مصادر وزارة الصحة الأمريكية.. أما في السعودية، فصارت المملكة تحتل المرتبة الثانية والعشرين ضمن الدول الخمس والعشرين الأكثر إقبالاً على الجراحة التجميلية في العالم.

وللتأكيد على أن هذا النمو لا يعود إلى تكاثر الحالات الخطرة التي تستدعي تدخل جرَّاحي التجميل مثل حوادث السير أو الحرق أو التشوهات الولادية، نشير إلى حجم الإقبال عليها في دولة ذات تعداد سكاني صغير نسبياً كدولة الإمارات مثلاً، حيث قام أكثر من 30 ألف شخص بإجراء جراحات تجميلية خلال عام واحد، وفي دبي وحدها..

ولعلَّ أكثر ما يعبِّر عن «ازدهار» هذه الصناعة، هو ما حصل في لبنان، حيث استيقظ الناس ذات صباح لتطالعهم لوحات إعلانية ضخمة في الشوارع، يعرض من خلالها بعض المصارف تقديم نوع جديد من القروض تحت اسم «قرض التجميل»، وحملت أكثر من ألف لوحة انتشرت في البلاد صورة فتاة من الواضح أنها خضعت لعمليات تجميل عديدة..

لاقت هذه الإعلانات استحسان كثيرين، حتى أن القائمين على المصرف يقولون إنهم كانوا يتلقون يومياً مائتي اتصال هاتفي للاستفسار عن شروط هذا القرض!؟ وإن المصرف وافق في الأسبوع الأول على عشر طلبات فقط منها.

ويقول الجرَّاح الدكتور نزار شهاب إن عمليات التجميل الأكثر رواجاً في لبنان هي شفط الدهون، وشد بشرة الوجه وتجميل العيون.. أي مما لا علاقة له بالحوادث الطارئة ولا بالتشوهات الولادية، بل لتعديل بعض الملامح الخارجية لكي تصبح «أجمل» استناداً إلى مقاييس بات الكل يسلِّم بصحتها دون أن يناقشها.. ومما لا شك فيه أن هذه الفئة من عمليات التجميل هي التي تقف وراء تضخم هذه الصناعة أينما كان في العالم. وهي التي تطرح نفسها كقضية أخلاقية وثقافية واجتماعية بالدرجة الأولى، ليس من باب الاهتمام بالجمال، وإنما بسبب تحطم كل الموازين والمقاييس الخاصة بمفهوم الجمال والمغالاة في تقدير قيمته قياساً على قيمة الفرد وشخصيته بكل ما فيها من مكونات معرفية وأخلاقية ونفسية..

توحيد أمزجة الشعوب
الجمال أمر نسبي، وهو من ناحية فلسفية قضية معقَّدة وحساسة، كما أنه حصيلة أفكار ومعتقدات تشكِّل في النهاية رأي المجتمع بما هو جميل وما هو ليس كذلك. والجمال شعور يترجم ما تراه النفس ويستقر في القلب، وهو حسّ يُدرك بالفطرة، حاول كثير من الفلاسفة والمفكرين أن يحددوه. فأينشتاين مثلاً يختصر الجمال في ثلاثة عناصر هي: بساطة الشكل وتناسقه وسموه. أما الجمال في عين سقراط فهو مصطلح مرادف للمفيد من الأشياء وللراحة النفسية التي يشعر بها الفرد أمامه.

ولكن أياً كانت التحديدات، فمن المؤكد أنه طوال التاريخ كان لكل شعب ومجتمع نظرته الخاصة إلى الجمال المنطلقة من ثقافته الخاصة المختلفة عن ثقافات المجتمعات والشعوب الأخرى. وكان هذا ينطبق على الفنون والآداب والعمارة والتزيين وكل ما هو منظور وصولاً إلى القيم غير المنظورة..

ولو أخذنا مظهر الأنثى مثلاً، لوجدنا أن النقوش الفرعونية تشير إلى أهمية «العيون الكحيلة» ضمن مقاييس الجمال، حتى أن المصريين القدماء جدُّوا في البحث عن أجود أنواع الكحل، إلى أن صنعوه من الأحجار الكريمة مثل اللازورد الأزرق والمالاكيت الأخضر. أما في اليابان، فتعتبر الأقدام الصغيرة من أبرز مواصفات المرأة الجميلة، إلى جانب صفاء البشرة والعنق، وفي الوقت نفسه كان اليابانبون يعيبون على المرأة طولها. ولشعب الأسكيمو مذهبهم الخاص الذي يولي الرائحة اهتماماً خاصاً ولا سيما رائحة الفم والجسم والشعر، ويذيع بينهم اختبار الرائحة قبل المبادرة إلى خطبة الفتاة والاقتران بها.

أما العرب، فاستحسنوا الأنف الدقيق والعيون الواسعة والعنق الطويل، وتغنَّوا بالشعر الأسود الطويل وأحبوا لون الخضاب والحناء. وإذا كان العربي قد تغنَّى بِحَوَر العيون، فإن قبائل إفريقية أخرى فضَّلت حَوَل العيون، واعتبرته أساس الجمال، فكانت الفتيات يعمدن إلى تدلية ضفائرهن أمام عيونهن بغية تعويدها على الحَوَل.

ومن عادات القبائل التي تقطن جزر بورنيو وبعض مناطق الهند، أن تثقب آذان المواليد لتعليق حلقات فيها تزيد من طولها، حتى أنها قد تتدلى لتصل إلى الكتف. وكلما ازداد تمدد الأذن، ازدادت الفتاة جمالاً في عيون راغبيها من الخطَّاب. ومقابل الطول الفارع والشعر الطويل الذي تميل إليه المجتمعات الغربية، فإن مجتمعات إفريقية عديدة تفضِّل النساء حليقات الرؤوس، المائلات إلى البدانة.

كان هذا فيما مضى. إذ يبدو أن تعزيز وسائل التواصل ما بين الثقافات المختلفة يؤدي حكماً إلى توحيد المقاييس. كل أنواع المقاييس. من مقاييس الأوزان مثل الكيلوغرام الذي اكتسح الليبرة والإقة والقنطار، إلى المتر الذي أزاح اليارد والذراع وغيرهما. وفي زمن العولمة يبدو أن الأمر وصل إلى «الجمال» على الرغم من كل خصوصياته المعنوية والنفسية والثقافية.. ولكن ما السبيل إلى وضع مقاييس لأمر معنوي مرتبط أولاً وأخيراً بالمزاج الفردي غير الخاضع للضوابط والمقاييس؟ حسناً! كان عليهم أولاً أن يوحِّدوا الأمزجة.

الإعلام ومقاييس الجمال
ليس من الصعب الكشف عن جذور عملية توحيد مقاييس الجمال في مظهر المرأة المعاصرة، لأنه لم يوغل كثيراً في القِدم حتى الآن. فخلال ستينيات القرن العشرين، كانت أوروبا قد أكملت إعادة بناء ما دمَّرته الحرب العالمية الثانية، ما مكَّنها من الانصراف إلى تطوير بعض صناعات الكماليات ومن أهمها آنذاك كان تصميم الأزياء الذي شهد نمواً وارتقاءً بصناعته إلى مستويات غير مسبوقة. وتحوَّل عرض الأزياء إلى فن متكامل يؤديه محترفون. وتعزيزاً للترويج التجاري، حوَّل الإعلام بعض المحترفين (أو المحترفات) في هذا المجال إلى نجوم عالميين. ومن أول الأسماء اللامعة عالمياً في هذا المجال كان هناك اسم العارضة تويجي، الشهيرة بقامتها النحيلة والطويلة، وتناسق مقاييس معالم وجهها، ثم أعقبها جيل ثانٍ من العارضات النجوم ضم لورين هاتون وكريستي برينكلي وشيريل تيكس.. لتكر السبحة لاحقاً، بحيث باتت مئات عارضات الأزياء بشهرة أشهر ممثلات السينما، من دون أن يكون بينهن أية اختلافات شكلية ملحوظة، كما هو الحال بين العاملات في السينما.. فمقاييس القامة الجميلة صارت واحدة ومعروفة، وكذلك ما يجب على الأنف أن يكون عليه، والعينين والجبهة والشفتين والذقن والفك.. ولعب الإعلام دوراً بالغ الأهمية في نشر هذه المقاييس على مستوى العالم، حيث باتت المرأة الجميلة هي التي تمتلك هذه المقاييس والمواصفات، وكل ما عداها هو «قبيح»!.

طبعاً كان من الممكن أن تقف الأمور عند هذا الحد، ولكن الرخاء الاقتصادي الذي عمَّ دولاً كثيرة في العقود التالية، وتطور جراحة التجميل وتقنياتها، فتحا أبواباً عريضة أمام المرأة الراغبة في اكتساب مظهر أقرب إلى «المظهر المثالي» المعتمد عالمياً، أو تلك المصرَّة على الاحتفاظ بشبابها الدائم في مواجهة تقدِّمها في السن. فبدأ التهافت على جراحة التجميل لشدّ البشرة وإزالة التجاعيد، وشفط الدهون وتنحيل الخصر، ونشر عظمة الأنف ليصبح خطاً مستقيماً، وغير ذلك مما يصعب إحصاؤه من عمليات مختلفة. ولم يقف الأمر عند عالم المرأة، إذ سرعان ما امتدَّ إلى عالم الرجل، الذي بات ينظر إلى الصلع على أنه عيب، وإلى الأنف المعقوف ولو قليلاً على أنه عيب أكبر.. وغير ذلك مما صار يدفع بكثيرين منهم إلى أسرَّة المستشفيات، آملين أن يغادروها لاحقاً، وهم «أجمل» مما كانوا عليه.

وبخبث ما بعده خبث، ولغايات تجارية بحتة، روَّج الإعلام بألف طريقة وطريقة لما تستطيع الجراحة التجميلية أن تجترحه من «معجزات». وكلنا نذكر البرنامج التليفزيوني الأمريكي الذي كان يُبث على بعض فضائياتنا بعنوان «معالجة قصوى» (Extreme Make Over). حيث كنا نرى في بداية كل حلقة أناساً (رجالاً ونساءً) ذوي مظاهر غير جذَّابة على الإطلاق، يخضعون لعمليات تجميل تحولهم في نهاية الحلقة إلى أناس أفضل شكلاً بكثير مما كانوا عليه.. والرسالة المبطَّنة التي ينطوي عليها البرنامج هي أن الأمر سهل.. وما عليك إلا أن تُقدم!.

على المستوى النفسي
بين الانزعاج المبرر والمرض
في مواجهة هذا الاهتمام المتعاظم بالمظهر الخارجي والجمال الشكلي، يذهب المثاليون إلى الطرف الأقصى فيقولون إن الجمال هو الجمال الداخلي، جمال النفسية والأخلاق والعقل. وبإسقاط هذا الرأي على الواقع نجد أنه صحيح في بعض الحالات. فعقل أينشتاين ينتزع احترام العالم بغض النظر عن مظهر وجهه، والأخلاق أهم من رشاقة القوام عند من يحمل جائزة نوبل للسلام أو مؤسس دار لرعاية الأيتام.. ولكن لأن العالم ليس مؤلفاً من عباقرة العلوم والمحسنين من أصحاب الأعمال الخيرية، بل من أناس يكافحون ويسعون إلى النجاح والعمل، فلا بد من الاعتراف بأن المظهر الخارجي لهؤلاء يلعب دوراً متفاوت الأهمية في تقبّلهم من قبل شرائح اجتماعية تقف على مسافة متوسطة منهم في الأعمال وفي الحياة اليومية. ولذا من الطبيعي أن يسعى هؤلاء إلى الظهور دائماً بأفضل صورة ممكنة. صورة قد تشوبها أحياناً شائبة ظاهرية غير جذَّابة، يشعر صاحبها أنها تشكِّل عائقاً أمام تقبل بعض الآخرين له.

يقول الدكتور أحمد عيَّاش أخصائي الطب النفسي: «إن المسائل التجميلية تتعلق دائماً بنظرة الآخر ونظرة الشخص إلى نفسه. ولا يوجد عمر معيَّن يبدأ من خلاله الشخص في التفكير بتغيير صورته. فإذا شعر الإنسان أن صورة مظهره لا تتناسب مع المقاييس الجمالية المطروحة عالمياً، فسوف يشعر بإرباك، وسيسعى إلى تغيير مواضع الاختلاف. وإذا لم يستطع تغيير شكله بما يتناسب مع المعايير المعتمدة، يبدأ الأمر بالتأثير عليه نفسياً.. فتولَّد عنده حينها مسافة ما بين رغبته وإمكاناته المادية، مما ينعكس اضطراباً أو اكتئاباً، وشعوراً بالعجز وبالنقص وبالاختلاف عن الآخرين اقتصادياً واجتماعياً. ويضيف: إن الأمر يتعلَّق بمدى قناعة الإنسان بذاته، وبأن ما يحصل من ثورة في عالم التجميل ليس بالضرورة الأمر الصحيح».

في البحث عن الحالات التي يمكن اللجوء فيها إلى عمليات التجميل، وجدنا أكثر المواقف اعتدالاً فيما تقوله مصادر مستشفى «مايو كلينيك» الأمريكية، ومفاده أنه «إذا كان الإنسان يشعر فعلاً بانزعاج دائم من وجود شائبة معينة في مظهر وجهه أو جسمه، ويمكن إزالتها بعملية بسيطة، فعليه أن يتقدَّم لإجرائها، وإلا فالأمر ليس ضرورياً». فالهدف السليم من جراحة التجميل وفق هذا المفهوم المعتدل، هو معالجة مشكلة قائمة، وليس البحث عما هو «أفضل». ولكن هذا الرأي المعتدل ليس هو السائد، إذ من السهل جداً أن يخدع المرء نفسه ويرى في أي اختلاف بسيط بين شكل أنفه مثلاً و«الأنف المثالي» مشكلة خطيرة تستدعي المعالجة. وهنا نصل إلى ما يسميه الطب النفسي «Body Dismorphic Syndrome»، وهو الوصول إلى حد الهوس بإعادة تشكيل المكونات الجسمانية. وهذا العارض النفسي هو على مستوى من الخطورة بحيث أنه يؤدي في حال عدم معالجته نفسياً إلى شعور دائم بالإحباط والكآبة، ثم اليأس فالانتحار.

من أشهر الحالات المعروفة عالمياً عن الهوس بالجراحة التجميلية نذكر حالة عارضة الأزياء هانغ ميوكو التي أجرت من الجراحات ما جعل الأطباء يمتنعون عن إجراء مزيد. وأمام هذا الرفض راحت تشتري السيليكون من السوق السوداء لتحقنه بنفسها في مواضع معيَّنة من وجهها وجسمها. ولما صار جسمها يرفض السيليكون، صارت تحقن نفسها بزيت الطبخ، حتى تغيَّر شكلها إلى درجة مخيفة، بحيث تعذَّر على أهلها التعرف إليها. ولما سعت إلى استعادة مظهرها القديم، خضعت لإحدى عشرة عملية تجميل باءت كلها بالفشل.

وثمة حالات مرضية أكثر شذوذاً مما تقدَّم، مثل حالة الفتاة الأوكرانية أناستازيا التي كانت في التاسعة عشرة من عمرها عندما عملت كل ما بوسعها لكي تصبح شبيهة «فاكاسومي» الشخصية الكرتونية التي تظهر في فِلم رسوم متحركة ياباني. فأنقصت وزنها بشكل كبير ليبدو رأسها أكبر من جسمها على غرار شخصية الكرتون تلك، وأجرت عملية جراحية لعينيها لتبدوا أكبر من حقيقتهما بغية تحقيق الهدف نفسه، وكانت النتيجة.. مسخاً!

ومثل هذه الحالات تطرح أسئلة، ليس حول جدواها وقيمتها، فالأمر مفروغ منه، بل حول وظيفة الطب والجراحة التجميلية، وجواز القيام بمثل هذه العمليات قانونياً وأخلاقياً.. إذ ليس من المعقول أن تكون وظيفة العلم والطبابة تلبية نزوات مريضة تسعى إلى التشبه بمخلوق آخر، حتى ولو كان شخصية عامة ناجحة وشهيرة، فكيف الحال عندما يكون المثال الأعلى رسماً على الكرتون؟ هذا ما يقودنا إلى جانب آخر من جوانب قضية جراحة التجميل.

أخلاقياً.. لماذا كل هذه الشبهات؟
من الطبيعي أن يهاب الإنسان مظاهر الشيخوخة وهي تزحف على وجهه وجسمه، ومن الطبيعي أن يحاول وقف تقدُّمها ضمن حدود وبوسائل معقولة. ولكن ليس من الطبيعي مثلاً أن يبيع بيته ليصرف ثمنه على شد بشرة الوجه أو تجميل العيون..

وحالات السعي إلى «التحسين» و«الأفضل» تبقى مهما شاعت قضية ثقافية واجتماعية، وحتى عندما تبلغ حدودها القصوى، أي حدود الهوس، فإنها تبقى في إطار المرض النفسي. والمريض نفسياً لا يلام، بل يعالج. ولكن ثمة جانب في قضية الجراحة التجميلية يتفلت من الأطر الاجتماعية والثقافية والنفسية، ليطرح نفسه على المستوى الأخلاقي. فالجراحة التجميلية هي مع قضايا مثل «القتل الرحيم» و«الاستنساخ»، من أكثر الاختصاصات الطبية إثارة للجدل والشبهات على المستوى الأخلاقي.

فهل يجوز للطبيب مثلاً أن يجري سلسلة عمليات جراحية لفتاة لمجرد أنها تريد أن تصبح شبيهة هذه الفنانة أو تلك؟ القانون لا يمنع ذلك، ويضعه في إطار الحرية الشخصية. ولكن من المرجَّح جداً أن للمنطق السليم والأخلاق الحميدة جواباً مختلفاً. أما كلمة الفصل فيبدو أنها للبعد التجاري.

فجراحة التجميل هي القطاع الطبي الوحيد الذي يحظى بترويج له من خلال الدعاية المباشرة في وسائل الإعلام، وكأنها سلعة استهلاكية يجب إقناع الجمهور باعتمادها من خلال الترغيب.. ولا غرابة في ذلك، عندما نعرف أن عوائدها على الأطباء والعيادات مجزية جداً. فعملية شدّ الجفون حول العينين مثلاً، تكلِّف نحو ثلاثة آلاف دولار في عيادة متوسطة، وشفط الدهون من حول الخصر يكلف ما بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف دولار في عيادة متوسطة أيضاً، ويمكن لهذه الأسعار أن تتضاعف عدة مرَّات إذا أجريت العملية في مستشفى مشهور أو على يدِّ جرَّاح معروف.

المفارقة الثانية تكمن في التطور التقني الذي طرأ على أدوات جراحة التجميل ووسائلها. وبدلاً من أن يكون هذا التطور نعمة كما هو الحال غالباً في كل المجالات العلمية الأخرى، وجدناه في جراحة التجميل «نقمة».

فالأجهزة الحديثة القادرة على تفتيت الدهون أو شفطها من دون شق الجلد، والأجهزة القادرة على شد البشرة من دون جراحة، باتت متوافرة لكل من يرغب بشرائها ويملك المال اللازم. فكثر إنشاء المراكز التي تقوم بعمليات التجميل لغايات تجارية بحتة. وغالباً ما تفتقر هذه الأماكن إلى الأطباء الاختصاصيين، فتكتفي بوجود تقنيين يعرفون كيفية تشغيل هذه الآلات. ولذا صارت تطالعنا أسماء مثل «مركز تجميل» إذا كان المكان يخلو من أي طبيب، أو «عيادة تجميل» إذا كان يحوي طبيباً واحداً غير اختصاصي، وربما كان ذلك لتلافي المساءلة القانونية. فتقريب «مركز التجميل» من «صالون الحلاقة»، يعفيه من التنطح للجراحات المعقدة، وربما أيضاً المساءلة القانونية.

وفي هذا الإطار، يقول الدكتور شهاب: «مع الأسف، يوجد في دول العالم الثالث تحايل كبير على القانون. إن الأطباء المنضوين في جمعيات جرَّاحي التجميل التابعة لنقابات الأطباء تتقيَّد بالمعطيات العلمية في العمليات التي تُجريها وبمبادئ المهنة. ولكن، مع الأسف، هناك كثير من أطباء التجميل الذين يسيئون إلى هذه المهنة. ومع العلم أن هناك قوانين تحاسب المسيئين، فمن النادر أن يطالب المريض بحقه أو أن يشكو الطبيب في حال ارتكابه خطأ».

والأخطاء في الجراحة التجميلية ليست قليلة.. صحيح أنها من النادر أن تؤدي إلى الوفاة، ولكن النتيجة المرجوة منها وهي «التجميل» ليست مضمونة حكماً في كل الحالات. طالما أن التخطيط لها يتطلب إضافة إلى الدراية التقنية والعلمية تصوراً دقيقاً مسبقاً لما ستكون عليه النتيجة، والأمر يتطلب خيال فنان قد لا يكون متوافراً عند الطبيب المعالج. فكم من العمليات الجراحية التجميلية أدَّت إلى تشويه الأصل بدلاً من تجميله؟ وكم من شخص سكت عن فشل عملية تجميل أجراها، من باب الإنكار وعدم الإقرار بأن مظهره ساء ولم يتحسَّن؟

إن جراحة التجميل, باختصار، تتطلب نفس الاهتمام الذي تتطلبه الجراحات الأخرى مثل جراحة القلب وجراحة العظم والمخ.. ولكن مشكلتها الرئيسة هي أن لا القائمين بها من بعض الأطباء ولا الساعي إلى إجرائها من «الزبائن» (وليس المرضى)، يتعاملون معها بالمهابة والجدية والوعي الذي يتعاملون به مع الجراحات الأخرى. فالمسألة مسألة وعي، مع كل ما يعنيه ذلك من سلامة قناعات، وثقافة أصيلة، وقدرة على التصدي للترويج الإعلامي، وقبل كل شيء، الرضا بما كتبه الله لنا.

أضف تعليق

التعليقات