حتى سنوات قليلة خلت، كان التعلّم بالمراسلة يقتصر على حيّز صغير جداً من قطاع التعليم، وعلى مجالات محددة لا ترتقي في معظم الأحيان إلى مستويات الاختصاصات الكبرى. ولكن تطور تقنية الاتصالات، التي بات البريد التقليدي في أسفل قائمتها، ونمو عدد الطلبة في العالم بأسره بشكل أسرع بكثير من نمو عدد المقاعد الجامعية، زادا من الإقبال على التعلّم عن بعد، ليتحول إلى قضية، وما جودة أداء هذا التعليم وجدوى الشهادة الممنوحة بموجبه وقيمتها الفعلية في سوق العمل إلا بعض عناوين هذه القضية.
حنان عبدالحميد تعرفنا على ما هية التعلم عن بعد ومساره التاريخي وآليات عمله، ومعايير جودته وقيمة شهاداته، أما منى عمر فتتناول التجربة العربية في هذا المجال.
التعلم عن بُعد..
نظرة عن قرب
حنان عبد الحميد
ضغطة زر على جهاز حاسبك تدخلك إلى صفوف الدراسة في الجامعات الأمريكية أو البريطانية، أو في أية جامعةٍ أخرى، في أية دولة تختار.
عصر الثورة المعلوماتية، أو العصر الرقمي كما يسميه البعض، قدم خياراً آخر، أو شكلاً آخر لطلب العلم، عن طريق الجامعات والمعاهد الافتراضية التي تقدم تعليماً عن بُعد يتيح لمن لا يستطيع الانتظام في طلب العلم في مقر المؤسسة الأكاديمية مثل الجامعة أو معاهد التدريب لارتباطاته العملية أو للقيود التي تفرضها بعض المؤسسات الأكاديمية مثل التقيد بعرق أو عمر معين. مع هذا النوع من التعلم الذي يُمكِّن الدارس من مواصلة تعليمه وهو بين أفراد أسرته أو في مقر عمله. تصديق وزارة التعليم العالي في المملكة العربية السعودية للجامعة العربية المفتوحة، والتي تقدم صورة من صور التعلم عن بُعد طرح أسئلة حول هذا التعليم منها ما كان حول مصداقية التعلم عن بُعد وتنوعه، ومعايير جودته، ومدى انتشاره، وإسهاماته في تقديم خيار التعلم للناس، ونظرة القطاعين الحكومي والخاص له، ومستقبله. للإجابة عن هذه التساؤلات، ننظر عن قرب، للتعلم عن بُعد..
ما هو التعلم عن بُعد؟
التعلم عن بُعد هو نظام تقوم به مؤسسة تعليمية يعمل على إيصال المادة التعليمية أو التدريبية للمتعلم في أي مكان وأي وقت عن طريق وسائط اتصال متعددة مثل الأقمار الصناعية (الراديو والتلفاز) أو أشرطة الفيديو أو الأشرطة الصوتية أو الحاسوب أو الإنترنت أو تقنيات الوسائط المتعددة أو غير ذلك. ولقد تعددت وتنوعت طرق هذا النوع من التعليم وكثرت مسمياته وينطوي تحته التعليم بالمراسلة، التعلم المنزلي، التعليم المفتوح وغير ذلك.
أما التعلم الإلكتروني كما يعرفه د. عبدالله بن عبدالعزيز الموسى، عميد كلية علوم الحاسب والمعلومات في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فهو طريقة حديثة للتعلم باستخدام الحاسب الآلي وشبكاته ووسائطه المتعددة من صوت وصورة ورسومات وآليات بحث ومكتبات إلكترونية، وكذلك بوابات الإنترنت سواء عن بُعد أو في الفصل الدراسي، ويتم من خلال ذلك استخدام التقنية بجميع أنواعها لإيصال المعلومة للمتعلم بأقصر وقت وأقل جهد وأكبر فائدة.
ويدلنا هذا التعريف إلى أن التعلم الإلكتروني مستخدم في نظام التعليم المعتاد ونظام التعليم عن بُعد أيضاً، ويعد التعلم الإلكتروني والتعلم عن بُعد نوعين متداخلين كلٌ منهما يصب في بوتقة الآخر، وسيتضح لنا أكثر، بعد العرض التاريخي القادم، كيف أن التعلم الإلكتروني أصبح الشكل الأساس لمعظم مصادر التعلم عن بُعد في وقتنا الحاضر.
بداياته..
أخذت البدايات الأولى للتعلم عن بُعد مكانها في ألمانيا عام 1856م، حيث فكر الفرنسي شارل توسان الذي كان يعلم اللغة الفرنسية في برلين، وجوستاف لانجنشدات، أحد أعضاء جمعية اللغات الحديثة في برلين، في تأسيس مدرسة لتعليم اللغات بالمراسلة.
وكانت جامعة لندن في المملكة المتحدة أول جامعة تدخل نظام التعليم عن بُعد عام 1858م، لطلبتها الذين تمنعهم ظروفهم من الانتظام في قاعات الدراسة، ثم أخذت الولايات المتحدة بهذا الأسلوب حيث تأسست برامج التعليم بالمراسلة في جامعة إلينوي الحكومية عام 1874م.
تلا ذلك إنشاء المملكة المتحدة لجامعة الهواء عام 1963م، والتي سميت فيما بعد بالجامعة المفتوحة، وكانت الإذاعة والتلفزيون هما العنصران الأساسان في عملية التعليم، إضافة إلى المراسلات البريدية. وافتتحت الجامعة عام 1969م وبدأت الدراسة فيها عام 1971م. وتعد مصر أول دولة عربية استخدمت نظام التعليم عن بُعد عام 1976م.
والآن وفي عصر التكنولوجيا الرقمية من خلال الحاسب والإنترنت، أصبح التعلم الإلكتروني شكلاً أساساً للتعلم والتعليم عن بُعد، ويتزايد الآن استخدام المؤسسات الأكاديمية والشركات والأجهزة الحكومية في مختلف أرجاء العالم للإنترنت والتقنيات الرقمية لتقديم التعليم والتدريب، وتعد جامعة فونيكس في الولايات المتحدة الأمريكية أول من استخدم تقنية الإنترنت في نظام التعلم عن بُعد وكان ذلك في أوائل تسعينيات القرن الماضي.
آلية عمل جامعات ومراكز التعلم عن بُعد
هناك ثلاث طرق لعمل مراكز التعلم عن بُعد، إحداها أن تقوم الجامعة الانتظامية بفتح مكتب تابع لها لتقديم خدمات التعلم عن بُعد بالإضافة إلى احتفاظها بالشكل التقليدي للدراسة الجامعية في مقرها الرئيس، وذلك مثل جامعة بوسطن المعروفة ببرنامجها النظامي، فقد أكملته عام 2000م بافتتاح مكتب التعلم عن بُعد لتقديم برامج أكاديمية معتمدة للتعليم العالي من خلال تقنية الإنترنت والفيديو والأقراص المضغوطة.
نوع آخر يعمل على تقديم خدمات التعلم عن بُعد من خلال جامعة عادة ما تسمى بالجامعة المفتوحة، تتواصل مع الطلبة عن طريق المراسلات والأقمار الصناعية والإنترنت، وتفتح مكاتب لها في دول المتعلمين عن بُعد، وقد افتتحت جامعات مفتوحة في العديد من دول العالم مثل جامعة فونيكس (Phoenix) التي تعد من أكبر الجامعات في أمريكا وأفضل جامعة معروفة ومتخصصة في التعلم عن بُعد، وتأسست مبدئياً لتتيح فرصة إكمال التعليم للبالغين العاملين الذين تمنعهم ظروفهم من مواصلة الدراسة، لذلك تشترط لقبول الطلبة ألا تقل أعمارهم عن 23 عاماً وأن يكونوا موظفين، ولها أكثر من 239 مبنى تعليمياً ومركزاً حول العالم، وطرق التعليم فيها عبارة عن خليط من التعلم عن بُعد والتعلم النظامي والتعلم الإلكتروني.
جامعة بلا أسوار هو شعار النوع الثالث من هذه الأنظمة وتكون فيه الجامعة إلكترونية 100 في المئة، تقدم خدماتها عن طريق الإنترنت والمكتبات الإلكترونية والبريد الإلكتروني، مثل جامعة جونز الدولية (Jones)، وهي الجامعة الأولى المعتمدة بالكامل على الإنترنت.
وإذا أردنا أن نقارن بين مراكز التعلم عن بُعد في الجامعات المفتوحة والجامعات الاعتيادية مع الجامعات الإلكترونية البحتة لوجدنا أن معظم أخصائيي الموارد البشرية يرون أن الجامعات الإلكترونية البحتة أقل مصداقية من الجامعات المفتوحة والنظامية، وأن الإقبال على الجامعات الإلكترونية أقل من الجامعات المفتوحة، إذ إن معظم الطلاب يفضلون، حسب مقال في مجلة الإيكونومست الجمع بين التعلم الإلكتروني والمشاركة في نقاشات ومنتديات علمية وأبحاث عن طريق الإنترنت وبين التعليم المعتاد الذي يحضر فيه الطالب لصفوف الدراسة لفترة وجيزة من العام. ويشير المدير التنفيذي لبرنامج إدراة الأعمال في جامعة أوبورن على سبيل المثال، إلى طبيعة البرنامج المهجنة التي تقدمها الجامعة، فهي خليط بين التعلم الإلكتروني الذي يتفاعل فيه المتعلم مع المحاضرات من خلال الأقراص المضغوطة ومناقشات وأبحاث إلكترونية، والتعليم النظامي الذي يلزم الطالب بحضور 5 أسابيع للدراسة النظامية فيها، وهذا الخليط الإلكتروني النظامي لاقى استحساناً من الجامعة والطلبة، إذ إن أكثر من 90 في المئة من الطلبة أكملوا البرنامج التعليمي فيها. وتقسم البرامج الدراسية في هذه الجامعات إلى نوعين: برامج لمنح درجة البكالوريوس أو الماجستير أو الدكتوراه، وبرامج الدبلوم والتعليم والتدريب المستمر التي تتيح للفرد فرصة النمو المهني.
مرونة من هنا.. تعقيدات من هناك
مرونة عن بُعد
مثله مثل أي نظام تعليمي آخر، فإن التعلم عن بُعد له مميزات تجذب طلبة العلم إليه، وصعوبات ينبغي للمسؤولين عن مراكزه المبادرة في معالجتها، ومن أهم مميزات نظام التعلم عن بُعد المرونة، هذه المرونة التي تظهر في أكثر من جانب في أنظمته، فهو تعلم يمنح الطلبة والموظفين الراغبين في إكمال تعليمهم ونموهم المهني الفرصة لمواصلة مسيرة التعلم أو الحصول على دورات تدريبية دون الحاجة للانتظام في صفوف الدراسة، ودون قيود تتعلق بالعمر أو العرق أو غير ذلك.
طالب علم عن بُعد..
يمكّن التعلم عن بُعد المتعلم من الاعتماد على نفسه في الدراسة باستخدام وسائل التعليم المتنوعة من كتب وأشرطة وإنترنت وأقراص مضغوطة، وهو يختار التخصص المناسب لاحتياجاته، والمقررات التي تساعده في نموه المهني، ولكن من ناحية أخرى فهو بحاجة للدافع الذاتي الذي يساعده على الاستمرار في طلب العلم بمفرده، ويلعب الأهل والأصدقاء دوراً مهماً في هذه الناحية، كما يلعب اختياره للتخصص المرغوب لديه دوراً مهماً أيضاً في إذكاء دافعيته. لذلك دائماً نرى دور المعلم في هذه الأنظمة هو التوجيه والإرشاد بعيداً عن تلقين المعلومة، فالعملية التعليمية دائرة حول المتعلم وليس كما اعتدنا من تمحورها حول المعلم.
خبرات متنوعة وعالمية..
كان التعلم عن بُعد في الماضي القريب وسيلة تعلم يصعب من خلالها التواصل والنقاش مع المشرفين كما وضحت ذلك الأستاذة اعتدال إدريس أستاذة الثقافة الإسلامية في كلية دار الحكمة بجدة، والحاصلة على الماجستير في أصول الدين من الجامعة الأمريكية المفتوحة، أما الآن فإن التعلم عن بُعد يتيح التفاعل بين المتعلمين ومعلميهم من خلال النقد البنّاء وتبادل الآراء والخبرات المختلفة والدعم والتوجيه؛ ويكون ذلك عن طريق الاتصال غير المتزامن (مثل: البريد الإلكتروني)، أو الاتصال المتزامن (مثل: المؤتمرات الإلكترونية وغرف النقاشات)، وبهذا تحل مشكلة التواصل الإنساني المعرفي بين التلميذ والمرشد، والتي افتقدها التعلم عن بُعد في العقود الماضية.
الشؤون المالية..
إذا انتقلنا إلى الحديث عن الأمور المالية للتعلم عن بُعد فسنجد أن التعلم عن بُعد وفر على المؤسسين مصاريف سفر المعلمين وتنقلاتهم كما أكدت ذلك د. فاطمة باعثمان، الأستاذ المساعد بقسم علوم الحاسبات بجامعة الملك عبدالعزيز، والمستشار في عدد من المؤسسات التعليمية الأخرى: إن النظام يوفر على الدولة مصاريف السفر والتنقل للأساتذة الزائرين ، وهو أيضاً أقل تكلفة من التعليم النظامي من حيث المباني والمعامل والتجهيزات الحديثة؛ وذكر د. علي بادحدح، أستاذ مساعد في قسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة وعضو في المجلس التأسيسي للجامعة الأمريكية المفتوحة، أن مبنىً صغيراً مجهزاً بالتقنيات الحديثة كافٍ لتلبية احتياجات التعلم المفتوح، واستخدام التقنية الحديثة يساعد على إيصال العلم لعدد أكبر من الطلبة، مقارنة بالتعليم الاعتيادي، وإن كانت أسعار التقنية نفسها باهظة.
الوجه الآخر للتقنية
التقنية الحديثة هي أحد أهم الأسباب التي أسهمت في تطور وتقدم خدمات التعلم عن بُعد، ولكنها من وجه آخر تعد صعوبة يواجهها المسؤولون عن هذه الأنظمة، فالمعلمون ما زالوا بحاجة إلى تقبل فكرة استخدام التقنيات قبل التدريب على استخدامها، وقد قام أعضاء من هيئة التدريس في جامعة يورك (York) في كندا بإضراب لمدة 55 يوماً حتى تم موافقة الجامعة على عدم إلزام الأساتذة بتحضير مواد إلكترونية، فمنهج التعلم عن بُعد أضاف حملاً أكثر على جدول أعمالهم من غير علاوات مالية.
معايير الجودة
أحد أهم الأسباب التي أسهمت في ظهور مؤسسات التعلم عن بُعد هو قدرتها على سد عجز مؤسسات التعليم العالي النظامية في استيعاب الطلبة، وذكر د. سفيان عبداللطيف كمال في بحثه مراجعة تحليلية لكتاب جامعات التعليم عن بُعد والجامعات التقليدية أن الحكومات كانت في كثير من الأحيان وراء قيام الجامعات المفتوحة لإدراكها بقدرتها (الجامعات المفتوحة) على توفير مقاعد للدارسين بتكلفة أقل من الجامعات النظامية وتعليم جيد النوعية.
ونظم التعلم عن بُعد بذلك تعتبر مكملة للتعليم الاعتيادي ولا يمكن أن تكون بديلاً عنه، ويجب بناءً على ذلك أن تعمل هذه المؤسسات النظامية والمفتوحة على أساس من التعاون وتبادل الخبرات المتنوعة. ولذلك نجد أن التعلم عن بُعد مثله مثل التعلم النظامي في الجامعات الغربية، وذكرت مجلة الإيكونومست أن الأكاديميين يؤكدون مساواة طلبة التعليم النظامي مع نظائرهم من طلبة التعلم عن بُعد، فكلاهما خضع لنفس معايير التقييم، الأمر الذي يجعل مسؤولي التوظيف يتعاملون مع شهادات التعلم عن بُعد كمثيلتها النظامية. وإذا أردنا وضع معايير جودة للتعلم عن بُعد، فإن هذه المعايير ستصب في ثلاثة قوالب: قالب تربوي، وقالب تقني فني، وقالب إداري.
من ناحية تربوية يجب أن تكون المناهج متناسبة مع احتياجات الطلبة ومراعية لبعدهم عن معلمي التخصص، وقد يظهر ذلك في وضوح الطرح العلمي للمقررات، وسهولة التواصل مع المشرفين الأكاديميين عند مواجهة صعوبات وعند الرغبة في بدء نقاشات، وفي توفير وسائل تعليمية متنوعة متناسبة مع الأنماط التعلمية المختلفة. كما يجب أن تعكس وسائل تقييم العملية التعلمية مدى فهم الطالب واستيعابه للمادة المدروسة عن طريق اختبارات غير تقليدية يكتشف الطالب أجوبتها من خلال قراءة المقرر الدراسي وسبر أغواره، أيضاً يجب اعتماد وسائل تقييم أخرى من مشروعات تطبيقية وتقارير ميدانية وأبحاث علمية وخبرات عملية يقوم بها المتعلم، بما يضمن نموه الذاتي والمهني. إضافة إلى ذلك يجب أن يكون المتعلم على وعي وعلم بطرق التعلم الذاتي ومهارات الدراسة وذلك من خلال منهج أكاديمي يعطى للطالب في بداية تعلمه.
عنصر آخر مهم في معايير جودة التعلم عن بُعد من الناحية التعليمية هو ضرورة انتظام الطالب لفترة وجيزة من العام في قاعات الدراسة، وتؤكد سارة جوري روزنبلت خبيرة في التطور التاريخي للجامعات أن التدريس، وجهاً لوجه، يجب أن يكون سياسة تحتذى في هذه الأنظمة، لما فيه من تلبية لحاجة الإنسان للتواصل الاجتماعي المباشر.
أما من ناحية التقنية الفنية، فتشمل طرق توصيل الخدمة للمتعلم عن بُعد، من كتب ووسائل سمعية وبصرية وفضائيات ووسائط إلكترونية، وكل ذلك ينبغي أن يصممه الفنيون بالتعاون المثمر مع التربويين لينتج لنا وسيلة تربوية تعليمية ناجحة في تحقيق أهداف التعلم عن بُعد، كما عليهم أن يتواصلوا مع الطلبة لتدريبهم على المهارات الفنية المطلوبة ولحل المشكلات التقنية التي قد يواجهونها. وفي نفس السياق، فإن القوى الإدارية في مراكز التعلم عن بُعد يجب أن تعمل على اختيار البرامج المتناسبة مع احتياجات سوق العمل في المجتمع، وتأهيل خريجيها للعمل بكفاءة في مجال تخصصهم، وفي ذلك تقول د. فاطمة باعثمان إن أهم معيار جودة أي نظام تعليمي هو المستوى العلمي والمهارات المختلفة التي يكتسبها الطلبة المتخرجون، بحيث تؤهلهم للعمل في القطاعات الملائمة لتخصصاتهم وبكفاءة .
ومن معايير الجودة الإدارية اعتماد مؤسسة التعلم عن بُعد من قبل وزارات التعليم العالي أو من قبل مؤسسات تربوية معتمدة، لذلك فعلى الطالب الراغب في إكمال تعليمه عن بُعد أن يسأل وينقب عن وضع الجامعة أو المركز المنتسب إليه حتى لا يقع ضحية لمراكز التعلم عن بُعد التجارية.
مستقبل التعلم عن بُعد
اتفق معظم خبراء التربية والتقنية على المستقبل الواعد والمشرق والنامي للتعلم عن بُعد، دون أن يهدد نظم التعليم التقليدية. ولقد تبين لنا فيما سبق كيف أن التعلم الإلكتروني أصبح شكلاً أساساً ومهماً في جامعات ومراكز التعلم عن بُعد، ويصف هول التعلم الإلكتروني، في كتاب استراتيجيات التعلم الإلكتروني للدكتور بدر خان، بأنه السوق الواعدة الأسرع نمواً في مجال الصناعة التربوية، وتتوقع المؤسسة أن يتضاعف حجم سوقه أكثر من مرتين كل عام ابتداءً من عام 2002م. وأظهر مسح إحصائي قامت به مجموعة البحث المبدئي عام 2002م لبرامج التعلم عن بُعد في التعليم العالي نمواً متزايداً لأعداد الطلبة، حيث بلغ متوسط التسجيل السنوي لعام 2002م ببرامج التعلم عن بُعد في 75 كلية نسبة 41 في المئة، و ذكرت 92 في المئة من الكليات بأن معدل نمو التسجيل بها كان إما قوياً للغاية أو قوياً ولم تعان من نقص في معدل التسجيل.
أما في ساحة الشركات ومراكز التدريب، فتزايد استخدام تقنية التعلم عن بُعد أمر متوقع لما سيوفره من مبالغ كبيرة، فمثلاً شركة آي بي إم وكذلك شركة سيسكو، وهما من أكبر الشركات العالمية في مجال تقنية المعلومات، استخدمتا تقنية التعليم والتدريب الإلكتروني لتدريب الموظفين، ففي عام 2000م وفرت شركة آي بي إم ما يقارب 350 مليون دولار، ووفرت شركة سيسكو 240 مليون دولار من مصاريف التدريب.
وذكرت د. فاطمة باعثمان أن تقرير موقع ري اكسبو يشير إلى أن سوق المملكة في هذا النوع من التعليم هو من أكبر أسواق المنطقة، وأن قيمة الإنفاق فيه ستزيد من 30 مليون دولار حالياً إلى 125 مليون دولار مع نهاية عام 2008م، ولذلك فإننا نستطيع التعميم بأن المملكة العربية السعودية ستشهد تقدماً ملحوظاً خلال العامين القادمين في نظم التعلم عن بُعد والتي نطمح أن تكون نظماً تفاعلية يمكن الاعتماد عليها.
التجربة العربية في
التعلم عن بُعد
منى عمر
لم تتأخر التجربة العربية في التعلم عن بُعد عن مثيلتها الغربية ولكننا نستطيع القول بأنها تتقدم ببطء. فمنذ عام 1986م تأسست جامعة القدس المفتوحة في فلسطين لتتيح فرصة التعلم وإكمال الدراسات العليا لأبنائها من الفلسطينيين في جميع الأقطار العربية. وتبعاً لذلك تم افتتاح عدة فروع لجامعة القدس منها البحرين والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وتعتمد طريقة الدراسة فيها في الوقت الحالي على التعلم الذاتي باستخدام الإنترنت وعلى حضور اللقاءات الأسبوعية للمناقشة وطرح الأسئلة. وتلا افتتاح جامعة القدس المفتوحة إنشاء عدة جامعات عربية أخذت بشكل أو بآخر بتجربة التعلم عن بُعد.
تجربة من السعودية
لرؤية أكثر شمولاً لماهية التعلم عن بُعد في العالم العربي وتحديداً في المملكة العربية السعودية قمنا بزيارة الجامعة العربية المفتوحة – فرع جدة والتقينا الدكتورة سميرة قطان مديرة المركز الإقليمي للجامعة لتحدثنا عن تجربة التعلم فيها. في البداية تحفظت الدكتورة سميرة على تسمية طريقة التعلم في الجامعة المفتوحة بأنه عن بُعد بالتحديد، بل هو تعلم ذاتي يتحمل الدارس فيه مسؤولية كبيرة في البحث عن المعرفة والوصول إليها. وعن نشأة الجامعة العربية المفتوحة أشارت د.سميرة إلى دور صاحب السمو الملكي الأمير طلال ابن عبدالعزيز، رئيس برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة النمائية (أجفند)، ورعايته المتواصلة للجامعة لتشمل ستة فروع في الوقت الحاضر موزعة بين الدول العربية في الكويت (المقر الرئيس)، والسعودية، والبحرين، ومصر، والأردن، ولبنان.
تعتمد الدراسة في الجامعة العربية المفتوحة على نظام التعلم المفتوح، وهو نظام مطبق في أكثر من 1200 جامعة في مختلف بلدان العالم. والجامعة تتيح فرصة للدارس للتعلم دون إلزامه بالحضور إلى الجامعة إلا في الاختبارات النصفية والنهائية فقط ما يجعل من نسبة الحضور المطلوبة 25 في المئة وما عدا ذلك يستطيع الطالب أن يتواصل مع الجامعة وأساتذتها من خلال شبكة الإنترنت وبرنامج المودم المعد خصيصاً لمتابعة الأبحاث والواجبات المكلف بها الطالب ضمن تخصصه. وعن سؤال د. سميرة عن المستوى التعليمي وثقل المادة العلمية المتاحة في الجامعة العربية المفتوحة تجيب بأن كل البرامج الدراسية التي تدرس تم اعتمادها من الجامعة البريطانية المفتوحة، ومعظم البرامج الدراسية كاللغة الإنجليزية وآدابها، وتقنية المعلومات والحاسب وإدارة الأعمال نفذتها الجامعة العربية وفق اتفاقية تنص على أن تقوم الجامعة البريطانية المفتوحة باعتماد الدرجات العلمية والشهادات التي تصدرها الجامعة العربية المفتوحة،أي أن الدارس يحصل على شهادتين إحداها مصدقة من الجامعة العربية والأخرى من البريطانية المفتوحة وهذا بحد ذاته يمنح وزناً وجودة نوعية للجامعة وموادها. وبسؤال الدكتورة عن مدى إقبال الراغبين في إكمال دراستهم لمثل هذا النوع من التعلم أشارت إلى أن الإقبال كبير ويتزايد عاماً بعد عام. واختتمت د. سميرة حديثها بالإشارة إلى أن الجامعة العربية المفتوحة تعد خريجين في مجالات يحتاجها سوق العمل، وتصديق وزارة التعليم العالي في المملكة بشهادة الجامعة يتيح للدارس إنهاء دراسته العليا في أية جامعة عربية أو أجنبية. وبسؤال بعض الطالبات المنتسبات للجامعة عن استفادتهن من هذا النوع من التعلم أجابت سلافة الشمري من تخصص تقنية المعلومات والحاسب. وسماح الحذيفي من قسم إدراة الأعمال، بأن مدى الاستفادة كبير، خاصة أن الدراسة لم تحرمهما من الوظيفة أو النشاطات الأخرى رغم صعوبتها، وأشارتا إلى أن نظام التدريس من خلال المساعدات المقدمة ومنتدى الجامعة على الإنترنت الذي يسمح بالتواصل بين زملاء الفصل الواحد وأعضاء هيئة التدريس، سهل من طريقة الدراسة. وبسؤال سلافة عن استقبال سوق العمل للكفاءات الدارسة في الجامعة المفتوحة أوضحت أن جدية المواد الموازية للمواد الموجودة في أية جامعة علمية بالإضافة إلى المؤهل العلمي الذي يظهر من خلال أداء الخريجات العملي هو جواز المرور الذي من خلاله يتقبل سوق العمل كفاءاتنا، فهذا ما يهم أصحاب العمل، وليس طريقة الحصول على الشهادة سواء كانت عن طريق الالتحاق بالجامعة التقليدية، أو عن طريق الجامعة المفتوحة.
منحى آخر للتعلم الإلكتروني
من الملاحظ أن التعلم عن بُعد في العالم العربي أخذ منحنيين، الأول وهو ما ذكرناه آنفاً وهو أخذ الدرجة العلمية عن طريق الدراسة عن بُعد، والمنحنى الآخر باستخدام وسائل الاتصال المطورة لطلبة الجامعات المنتظمين في الدراسة كداعم أساس لتحصيل العلم والمعرفة دون الحاجة للسفر لحضور المؤتمرات أو محاضرات يتعذر على الجامعة (في البلد العربي) توفير الكادر التدريسي لها لأي سبب كان. فمنذ عام 2000-2001م بدأت جامعة الإمارات العربية المتحدة وبالتعاون مع جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية بعرض محاضرات مباشرة للجامعة الأخيرة باستخدام شبكة الإنترنت وذلك لتشجيع التعلم عن بُعد ولدمجه مع التقنية الإلكترونية الحديثة ولزيادة تفاعل الطلبة مع زملائهم في نفس التخصص في مناطق أخرى من العالم. كذلك قامت جامعة الإمارات بتوفير السبورة الإلكترونية أو بما يسمى البلاك بورد، والتي تتيح للطالب أخذ المحاضرات وتسليم الواجبات عند دخوله لموقع الجامعة الإلكتروني على الشبكة وإدخاله للرقم السري الخاص به. هذه الوسيلة وغيرها من وسائل الاتصالات الحديثة الأخرى وباستخدام شبكة الإنترنت وفرتها وتسعى إلى توفير الأفضل منها معظم الجامعات الحديثة ككلية دار الحكمة بجدة التي عرضت ندوة دولية عن الذكاء الصناعي بالتعاون مع د. فاطمة باعثمان وعلى شرف وزير الاتصالات وتقنية المعلومات أ. محمد جميل ملا في 21 ديسمبر 2005م. وقد تم عرض هذه الندوة من خلال الفصول العالمية والتي تم فيها وصل كلية دار الحكمة على الهواء مباشرة عن طريق الأقمار الصناعية بعشر جامعات عالمية.
في شأن التجربة العربية
ويبدو للمتأمل في التجربة العربية للتعلم عن بُعد أن من شأن الطلبة العرب تقبلها بشكل أفضل إن كان النظام المدرسي قد قدم التكنولوجيا كأداة تعلم فعالة لطلبة المدارس، بدلاً من مفاجآتهم بها إن جاز لنا التعبير في النظام الجامعي بدون مقدمات. ومن الملاحظ أيضاً أن معظم الطلبة في عالمنا العربي لم يتجهوا للتعلم عن بُعد طواعية، بل هو خيار متاح إزاء خيار التعلم الانتظامي، وهو خيار لم يعد مطروحاً لبعضهم لأحد تلك الأسباب التي تجاوزت عنها تلك الجامعات التي تقدم التعلم عن بُعد كالمعدل، أو سنة التخرج، أو الجنسية بالإضافة إلى التكلفة المالية الباهظة في المؤسسات الخاصة. ومن نتائج بحثنا أيضاً، أن الشريحة العمرية التي تتوجه للالتحاق بالجامعات العربية المفتوحة ليست هي ذاتها في العالم الغربي، فمعظم المنتسبين لها في العالم العربي، كانوا من الفئة العمرية المتوسطة والغالبية هم من حديثي التخرج، والعكس تماماً بالنسبة للجامعات الأجنبية، فنسبة البالغين الذين تجاوزوا مرحلة الدراسة بعدة سنوات يبلغ 95 في المئة من طلابها، وقد يشير الفرق بين الشريحتين إلى اختلاف الدوافع التي تدفع الطلبة للالتحاق بهذه الجامعات ، فبينما يقبل الطلبة الغربيون على التعلم عن بُعد طلباً لنظام تعليمي لا يتعارض مع حياتهم العملية، يقبل الطلبة العرب في هذه المرحلة على التعلم المفتوح كساحة مفتوحة بديلة لساحة أخرى أغلقت أمامهم هي ساحة التعليم النظامي. مظهر آخر من مظاهر التجربة العربية في التعلم عن بُعد، وهو إقبال عدد كبير من الدارسين للتسجيل في هذه الجامعات، ثم انسحاب أكثر من نصفهم عند إدراكهم طبيعة التعلم كونه تعلماً ذاتياً يغيب عنه المعلم الملقن.. فإن كان معظم الطلبة هم من حديثي التخرج ومن أنظمة دراسية قلما تعتمد على البحث والتحليل والاعتماد على النفس واستخدام وسائل التقنية لاكتساب المعرفة، كيف لمثلهم تجاوز الصدمة ومجاراة مثل هذا النوع من التعلم؟! ويجب أن نشير هنا إلى أن جهل الطلبة لم يكن في استخدام وسائل التقنية الحديثة بل العكس هو الصحيح فلقد أثبتت الدراسات أن أكثر من 70 في المئة من شباب العالم العربي لديهم مهارات عدة في استخدام الإنترنت ولكن معظمها في برامج الترفيه والتسلية.
توافر الخيارات، ولحظة الاختيار
عملياً ، نستطيع القول بأن الإقدام على خوض تجربة مثل تجربة التعلم عن بُعد، خاصة تلك التي تحل محل الالتحاق بالجامعة، تتطلب من المقدم عليها القيام بعدة خطوات وطرح عدة أسئلة للتأكد من كونها تجربة تحقق له المردود القيم المتوقع، غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بعيداً عن هذه الخطوات العملية، ويتعلق باتخاذ القرار بدايةً. التعلم عن بُعد قد يكون أفضل الحلول المطروحة وأقصر السبل إلى تحقيق نجاح مهني في حالات ليس لدى من يمر بها خيار آخر، ولكنه قد يكون في حالات أخرى خياراً نأى به من اختاره عن حياة جامعية مليئة بتجارب غنية تستحق أن تعاش من أهمها التلمذة المباشرة على يد مرشد صاحب علم وفكر وليس من أبسطها قضاء الوقت في أروقة الحرم الجامعي، بين مناقشات حية، وتواصل إنساني مع شخصيات مختلفة، واتجاهات أكثر اختلافاً.
جزء من الرسالة التي نتلقاها من إتاحة حل التعلم الإلكتروني اليوم هو أن على طالب العلم في ظل التدفق الهائل للمعلومات أن يتحرر من هيمنة مصدر واحد على معلوماته المكتسبة، فهناك الأكثر الذي لن يجده إلا إذا بحث بين السطور وخارج دفتي الكتب. وهذا ما يحققه التعلم عن بُعد كلياً من ناحية اعتماد المتعلم على البحث المستقل طلباً للمعرفة في الكتب، وما يفتقده جزئياً وأحياناً كلياًً من حيث أن التعلم عن بُعد فيه قرب من المعلومة المجردة التي يستطيع أياً كان أن يجدها في الكتب، وبعد عن المعرفة التي يجسدها الأساتذة الذين جمعوا بين المعلومة وتطبيقاتها، وبين الخبرة وتنوعها ليقدموا منبعاً متدفقاً من المعرفة قد يكون التعلم عن بُعد، ببعده عن التواصل البشري المباشر المستمر، قد أبعد الدارس عنه.. وبين هذا وذاك، يبقى التعلم عن بُعد جزءاً من منظومة الابتكارات التي خلقت لتناسب وضعاً يحتاج إلى تسوية ، وخياراً مطروحاً يضاف إلى بقية الخيارات التي يتحمل الإنسان، أولاً وأخيراً، مسؤولية اتخاذها، وانعكاساتها على سير حياته القادمة.