حياتنا اليوم

«البوقالة»… في المخيال الشعبي المغربي

الموسيقى الأندلسية التي اشتهرت في المغرب العربي من قرطاج إلى تلمسان، اتخذت منحى الموروث الثقافي الحضاري الذي يشهد التاريخ تتويجه في محافل دولية صنفته كبريات المؤسسات العالمية من التراث الذي يجب صيانته والحفاظ عليه.
ولأن الموشحات الأندلسية عرفت تطوراً مستمراً، بدءاً بزرياب ووصولاً للموشحات الحديثة التي أدرجت كثيراً من النوتات الموسيقية المتطورة، فقد أفضت في النهاية إلى النسق العام للموشحات العربية الأندلسية التي اهتمت بالإنسان ككائن متخلق لتفسح بعد ذلك المجال لرموز الوجدان والأحاسيس في كلمات مهذبة ترقى لمستوى الشعر الشعبي حيناً والشعر المنظوم حيناً آخر وحتى للمخيال الجماعي في أحيان كثيرة.
ولم تبق تلك الأبيات أو ما يعرف بالموشحات، حبيسة النوتات الموسيقية بل أصبحت موروثاً متداولاً في الأوساط الشعبية البسيطة لكنها اقتصرت فقط على الجنس اللطيف في إبداع راق يتزين به لسان النساء بحكام وأمثال شعبية بلهجة شعبية متداولة تُضمنه المكان والزمان.
ويعرف هذا التراث الشفوي في المجتمع الجزائري بالبوقالة، حيث تجذرت وأصبحت من العادات والتقاليد الراسخة، تمارسها النساء عند التقائهن في المناسبات كالأفراح والأعراس ومع قدوم شهر رمضان. وتمارس ضمن طقوس خاصة متعلقة بالزمان والمكان ومتضمنة لفن متوارث شفوياً من الموشحات الأندلسية، أحد أهم روافد الرصيد التاريخي والثقافي الشعبي الجزائري، وهو تقليد جزائري قديم النشأة، ظهر في العهد الفينيقي في مدينة شرشال التي تقع على بُعد 90 كلم غرب العاصمة الجزائرية «الجزائر».
الذين يمارسون فن الموشحات على طريقة «البوقالة» تستهويهم طريقة وأسلوب ممارستها ضمن حيز متفق عليه لا يخرج عن إطاره الفكري و«الممارساتي» والأسلوب النسقي والحضاري. «فالبوقالة» في المخيال الجمعي الشعبي لم تختر إلا لتكون لساناً يترجم به ما تجود به الذاكرة الجماعية من حفظ لتراث الموشحات، وسرعان ما ندرك أن الذاكرة الشعبية تحفظ التراث التاريخي الثقافي بمقاييس العرف والتقاليد التي ترسخ للموروث كعنصر مهم في مقومات الشعوب وحضاراتها.
«البوقالة» معروفة في الأوساط الجزائرية وحتى المغاربية كتونس والمغرب واستمد الاسم من الكلمة الأمازيغية «بوقال» ويقصد بها الإناء الفخاري الذي تحمله النساء أثناء ممارسة اللعبة حيث يوضع في الإناء ماء ترمي فيه النساء الحاضرات خواتمهن ويوضع عليه منديل يغطيه وتبدأ إحداهن بقراءة قصائد هي في الحقيقة مستوحاة من الموشحات الأندلسية وما هي إلا عبارة عن أبيات شعرية شعبية توحي في رمزيتها إلى مجهول غائب وكأنه تفسير لحلم ما. ومع الانتهاء من تلاوة البيت الشعري أو «البوقالة» تقوم إحداهن بوضع يدها في الإناء لتسحب واحداً من الخواتم الموضوعة به ويرسو الموشح الشعري أو البيت الشعري على صاحبة الخاتم.
لم تحاول المجتمعات الجزائرية باختلاف مشاربها الابتعاد عن موروث البوقالة كنص وكتقاليد ولم تحاول الإبداع أو التجديد فيها، لأن مصدرها هو في حد ذاته لا يمنح الحرية لزحام الأفكار أو التحديث في تفاصيل راسخة في تراث «البوقالة» المستمد أصلاً من الموشحات الأندلسية الغنية والمستفيضة بصنع المشهد والأحداث والتفاصيل والخيال واللّغة والنظم، مما يمنحها رونقاً وسحراً يفوق كل تجديد. وهو الأمر الذي عرقل كل تفكير في إضفاء أسلوب حداثي لها.
وقد اهتم الروائيون والكتَّاب والباحثون بالبوقالة كنص يستحق الإشادة به وكممارسة حاضرة في التقاليد الجزائرية. وتعامل الباحثون مع البوقالة في نطاق التراث النادر الذي يجب إدراجه في خانة التراث الشعبي الذي يحظى بمراسيم وتشريعات لحمايته.
وذكرت البوقالة كموروث شعبي في كثير من النصوص الروائية ومنحت حيزاً لا بأس به في تلك النصوص واهتموا بفنياتها وتسلسل ممارستها، بشكل جعل القارئ للرواية يولي اهتماماً أكثر بشخصيات البوقالة وبمنظورها المفصول طبعاً عن نسق السرد الممل، مثل: رواية الحريق «لمحمد ديب» وريح الجنوب لعبد الحميد بن هدوقة، التي لم تخلو روايتيهما من جلسات السمر للنساء في تلاوة متأنية لتراث شعبي يعرف بالبوقالة.
لقد عالجت «البوقالة» مواضيع متميزة تعلَّقت بالزوج والابن والحبيب والأخ والعدو والصديق واهتمت بتفاصيل تخص الفرد في المجتمع كعمق يحاكي العاطفة والإحساس كما يخاطب الإنسانية والدين وشخصياته بمقتضى التغيرات التاريخية والتطور الكرونولجي لفكرة ما، لكن لم تخرج أبداً البوقالة عن نطاقها الموسوم بالحبكة الزمنية والمكانية وبالموشح الأندلسي المتواتر عن التراث عبر الأجيال.
البوقالة كموروث شعبي، أسهمت في تحقيق التأثير الفعلي في الوعي الجمالي لدى المتلقية أو حتى المتلقي الذي أصبح يقدِّم قراءات متعددة لنص الموشح، فيفسره حسبما يناسبه.
ويمكن أن نقول إن الموروث الشعبي المتمثل في البوقالة كان ولا يزال تأويلاً رمزياً لواقع ما بجمالية غاية في الأهمية تجمع بين جمالية الموشح أو القصيد ورمزية المكان التي غالباً ما تكون وسط المنازل أو الأسطح تحت ضوء القمر.
وحتى لا نبرح عالم البوقالة بالتيه في مكنوناتها، إليكم واحدة من هذه البوقالات فاعقدوا العزم وتمنوها لشخص عزيز عليكم:
«السفينة اللّي جات باش نلاقيها باللّوز والسّكر، نرش سواريها والورد والياسمين نهديه للركاب فيها وبالمسك والعنبر نعطر أماليها».

أضف تعليق

التعليقات