الرحلة معا

البحّار

  • 5a

لدي كتاب مخطوط، أو بالأحرى مشروع كتاب، عنوانه: “الخليفة المثقَّف”، وأقصد به الخليفة العباسي، عبدالله المأمون ابن هارون الرشيد. وقد أسعفني هذا العنوان لأضع عنوان هذه الرحلة مع (الرئيس المثقف)، وأقصد به عبدالله بن صالح ابن جمعة، رئيس أرامكو السعودية وكبير إدارييها التنفيذيين، الذي سيرخي أكتافه مطلع شهر يناير القادم، بعد أن حمل عليها أعباء الشركة، التي تقع أعمالها موقع القلب من كل دانية في المملكة وقاصية في العالم، حيث لا تتحرَّك دابة صناعية إلا بما توفِّره صناعة الطاقة، التي تتسيَّدها أرامكو، من أسباب هذا التحرك.

وخلف هذه الطاقة كان حامل راية التبشير النفطي كثير الأسفار والحل والترحال، الذي كلما اشتد عليه وطء الطائرات والمطارات والاجتماعات، كأني به يتمثل قول ابن زريق البغدادي (420 هـ):
ما آب من سفر إلا وأزعجه
رأي إلى سفر بالعزم يجمعه
كأنما هو في حل ومرتحل
موكل بفضاء الله يذرعه

كان عبدالله جمعة موكلاً بفضاءات اقتصادية وصناعية لا يمكن قياس حدودها، لأنه لا يمكن قياس حدود طموح شركته، كما لا يمكن قياس طموحات الرجل نفسه، الذي وقع في حياته، كما أتصور، وكما عرفته من قريب وبعيد، في أربع رغبات: أن يستبطن بعض قواعد النحو والصرف كلما قبض على من يفهم اللغة، وأن يقرأ كتاباً جديداً كل أسبوع، وأن يحفظ قصيدة كل شهر، وأن يجعل أرامكو السعودية شركة تضمن مستقبلها كما ضمنت حاضرها.

وإذا كانت أرامكو السعودية هي بيت القصيد العملي في حياته، فإن ما عداها، من نثر وشعر ومفاصل لغوية وثقافية، هو العشق الذي يضع رأسه على صدره ليستريح من المفاوضات والقرارات والمنابر الممتدة على طول قارات العالم: من خور سنغافورة إلى قاعات هارفارد ونيودلهي وأقسام الدراسات العربية في الجامعات الكورية.

ولطالما وقعنا، أو لنقل وقعت، في صيغه النقدية العذبة. تصور أن النقد يكتسب عذوبة، بعد أن تعوّدنا أن الناقدين، أو أغلبهم، يفككون اللغة ويوظفونها لتكون أشرس وأشد وطأة وأثراً على المنقود، الذي وضع نفسه في لجة الحرف وأهله. وهي لجة، كما نعلم، تتلاطم سواداتها بقدر ما تتلاطم بياضاتها وإغراءاتها. كنت شخصياً لا أصدق أن أقبض على معتدٍ عليَّ من أهل الحرف لكي أنقض عليه بكل ما أوتيت من عدم حصافة، وهكذا فعل كثيرون حين ظنوا أن النقد صناعة قوامها غلاظة الألفاظ وجسارة المعاني على الإيذاء. وقد تعلَّمت من الرئيس المثقف عبدالله جمعة أن أستحضر كامل قواي الذهنية لأفهم أبعد مما أسمع، وإذا سمعت لابد أن أتدبَّر قبل أن أستل قلمي محبراً البياض الذي يبدو مغرياً أمامي.

الإغراء في تعشق صناعة الحرف، قراءة وكتابة، لا يكفي، فبعد حين، وهذا ما أظن أنه حدث معي حين اقتربت من الأستاذ عبدالله جمعة ثقافياً، لابد أن تعيد النظر في طريقتك في التثقف وممارسة مكتسباتك الثقافية مع الآخرين.

التواضع، وهذه صفة أخرى له يعرفها كل من تطارحوا معه شؤون الثقافة وهمومها، يعلِّمك كيف تنحني لكل صاحب بادرة إبداعية، مهما غاب أو غيب في ظلال الكبار والنجوم. وإذا لم تخطئ ذاكرتي فقد كان من أوائل من قرأوا (بنات الرياض) لرجاء الصانع و(سقف الكفاية) لمحمد علوان. لا أحد، وهذا درس آخر تعلمته منه، تحت احتمالات الإبداع، حتى لو كنت، على سبيل المثال، تقرأ لعتاة الروائيين العالميين والعرب. لديه قابلية شديدة ليضع في نفس الحقيبة رواية عمارة يعقوبيان وقصة قصيرة كتبها صغير في الثانوية ويريد رأيه فيها. ولا تخلو حقيبته الثقافية دائماً من الشعر، أعجبه أم لم يعجبه، فالمهم القراءة ثم تتولى الذائقة والذاكرة فرز الجيد من الرديء. ولكي نُنصفه شعرياً فإنك لا تلقي بيت شعر أمامه إلا وانقض عليك بأبيات لها نفس المعنى من قديم الشعراء وجديدهم.

كان يقرأ كل شيء، وهذه ميزة لا تتحقق فيما أظن إلا لمن لا يُسبّق قراءته بحكم على النص محل القراءة. ولذلك اعتدنا منه في القافلة أن يهاتفنا من حين إلى آخر ليظهر إعجابه بهذه الموضوع أو ذاك، وهو حين يرسل إعجابه كريم مغداق في ألفاظه وتشجيعاته. أما حين يكون متحفظاً فإنه يكتفي بكلمتين بينهما (لو) ثم ينتقل إلى طبعه السائد: “شدوا حيلكم..”. ولا يخلو الأمر كل مرة من مخرج لذيذ عن بيت من الشعر أو حكمة دارجة، أو سؤال عن اسم جديد فيه من علامات الإبداع ما يثير السؤال عنه وإذا كان لديه جديد في سوق الكتاب.

كان عبدالله جمعة، بضمير مرتاح وبدون أي حد من المجاملة، قصة سعودية جميلة: كان سيداً، رئيساً، مثقفاً، إنساناً متواضعاً.. وكان إذا قرأ أسرف وإذا تحدَّث أطرب وإذا عاتب رقّق، وإذا التفت ناحيتك أهداك ابتسامة شديدة البياض وشديدة العلاقة بالبحَّارة، الذين كانوا يبتسمون بصفاء وعذوبة كلما تعبوا من البحر، وكانوا، أكثر من ذلك، يغنون لأفئدتهم، من أجل أن تبقى أفئدة الآخرين عامرة.

أضف تعليق

التعليقات