طاقة واقتصاد

الأفذاذ
كتاب يفسِّر النجاحات القصوى

  • Picture-1

بخلاف المفاهيم الشائعة حول عوامل النجاح والتفوق، يغوص الباحث الكندي مالكوم غلادويل في دراسة العوامل الحقيقية التي صاغت كبار الناجحين في مجالات الأعمال والعلوم والفنون وحتى الرياضة. أشرف إحسان فقيه
يعرض هذا الكتاب، ويطلعنا على بعض ما توصَّل إليه الباحث، وللمفاجأة، فإن خلاصة البحث لا تمت إلى المفاهيم بصلة.
لنتخيل معاً رسماً بيانياً.. تتبعثر القيم على سطحه. لنتخيل أن معظم هذه القيم متمركزة معاً في منطقة ما من الرسم، ولنتصور أيضاً قيماً أخرى قليلة مبعثرة بعيداً عن زميلاتها.. محلقة بعيداً عن الأغلبية.

في علم الإحصاء، فإن هذه النقاط أو القيم البعيدة تسمى قيماً شاذة أو خارج المجموعة، («آوت لايرز» باللغة الإنجليزية)، والكلمة تطلق كذلك على كل ماهو خارج السياق الطبيعي ضمن مجموعته. تلك هي التسمية التي اختارها مالكوم غلادويل لكتابه والذي حقق شهرة مدوية وتصدر لائحة المبيعات خلال العام الماضي.

يقول غلادويل إن كتابه يهدف إلى تفسير ظاهرة النجاح.. وليس أي نجاح.. فجمهور الناجحين يشبه بعضه بعضاً ويتمركز في المنطقة الإحصائية ذاتها. لكنَّ هناك ناجحين متطرفين في تفوقهم.. لنسمهم «الأفذاذ».

يستعرض الكتاب حالات النجاح والنجومية القصوى، إنه يتابع «السر» في ثراء أغنى الأغنياء، في نجومية ألمع الرياضيين وفي تفوق نخبة النخبة من الصناعيين ومبرمجي الكمبيوتر والفنانين وعلماء الفيزياء.. أولئك بالذات الذي صاغوا ملامح ثقافتنا وزماننا. كيف وصلوا إلى هذه الحالة من التفوق الخارق حتى صاروا أمثلة تحتذى؟ كل واحد منا يقول إنه يريد أن يصير مثل أحد أولئك العباقرة، فهل هناك «خلطة سرية» يسعنا أن نركبها لنحقق ذلك؟ أم أن الأمر هو خارج نطاق الموهبة والإرادة البشرية التي طالما علقت بمشجبها إنجازات تلك النخبة الفذة؟ الكتاب يميل إلى هذا الرأي الأخير. وهو يسير بنا عبر أكثر من نظرية، مدعمة بالأرقام والإحصاءات، ليقنعنا بأن التفوق الباهر يعتمد على عوامل شتى أهم من الموهبة الطبيعية. فهناك، قبلاً، ظروف المجتمع والعادات والتقاليد، وهناك أيضاً (الحظ) الصرف!

النجاح: إنجاز أم صدفة؟
عند تأمل حالات النجاح والنجومية، فإن غلادويل ينصحنا بألا نكتفي بالتساؤل عن ذوات الناجحين.. كيف يبدون ويتصرفون. بل لكي نفهم سر النجاح، علينا أن نعرف من أي مكان جاء الشخص الناجح؟ من هما والداه ولأي عرق ينتميان؟ وما هي الفترة الزمنية التي ولد فيها؟ ماهي الميزات التي تمتع بها في صغره والتي أتاحت له أن يمارس هواية أو نشاطاً ما لفترة أطول مما فعل مجايلوه؟ ما هي عوامل الصدفة التي خدمته؟ وفي النهاية، بعدما نلم بكل التفاصيل تلك.. يسعنا أن نسأل عن الموهبة التي يتمتع بها هذا المرء الناجح والتي أفلح في التألق بها، وعن مقدار عبقريته.. بعد اعتبار كل ما سبق طبعاً.

كي نضع أنفسنا في الصورة، فإننا سنتأمل في المثال الأول الذي ساقه لنا المؤلِّف ليقنعنا بغلبة عامل تاريخ الولادة -مثلاً- على عامل الموهبة الجسمانية. وكون المؤلف كندي الجنسية، فإنه قد تطرق إلى الرياضة التي يعشقها الكنديون ويبدعون بها أكثر من سواها: رياضة هوكي الجليد. ولدى غلادويل ملاحظة جديرة بالاعتبار هنا. فاللاعبون البارزون في فرق الهوكي الكندية.. سواء تلك المنتمية لدوري الأشبال أو الدرجة الأولى، بالإضافة إلى اللاعبين العظام الذين يحرزون البطولات العالمية وتخلَّد أسماؤهم في السجلات، كل هؤلاء يلاحظ أنهم ولدوا خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام: يناير وفبراير ومارس. قلة من لاعبي الهوكي العظماء ولدوا في منتصف السنة، وفئة نادرة من هؤلاء ولدوا في الأشهر الأخيرة من العام: نوفمبر وديسمبر. بالنسبة للكاتب فإن هذه الملاحظة ليست اعتباطية بحال، بل إنها تعكس الكيفية التي تخدم بها الظروف، ظروف المؤسسة الرياضية الكندية وظروف القدر، فئة معينة من الناس.

فنظام اختيار لاعبي الهوكي والمعتمد من قبل الاتحاد الكندي للعبة يعتمد تقسيماً هرمياً يبدأ من مراحل المدرسة الأولى ويمتد عبر المراحل العمرية. حيث تتم تصفية اللاعبين المنتمين لذات العمر وفق قدراتهم. ويتم انتخاب الأفضل فالأفضل منهم لمنتخبات المدارس، ثم المناطق، انتهاءً بالفرق الوطنية والأولمبية. لوهلة، يبدو هذا التنظيم عادلاً ومنصفاً لأنه يتيح الفرصة نفسها للجميع ويعطي الأفضلية للذي يبذل جهداً أكبر ويتمتع بموهبة حقيقية أميز عن سواه. لكن هذه هي نصف الحقيقية. هناك «خدعة خفية» كما يزعم غلادويل. فعند اختيار فريق المدارس الابتدائية، فإن النظام سيعامل كل الصبية من مواليد العام ألف وتسعمائة وثمانين -مثلاً- على قدم مساواة. المدرِّب سيقارن كل الفتية مواليد تلك السنة مع بعضهم وسيختار أسرعهم وأقواهم وأحذقهم.. أما الباقون فلن يتم اختيارهم. الخدعة كما يقرر المؤلِّف تكمن في أن «النظام» وفق هذه الصياغة سيخدم مواليد يناير 1980م على حساب مواليد ديسمبر من العام نفسه. صحيح أن الاثنين ولدا في السنة نفسها، لكن هناك فرقاً عمرياً مقداره أحد عشر شهراً بينهما. وهذا فرق هائل بالنسبة للأطفال. فرق يعني أن ابن يناير هو أضخم جثة وأقوى بنية وأسرع استيعاباً. كما أنه أتيح له وقت أكثر بكثير للتدرب في الحارة ومع والده. هكذا وبداهة فإن مولود شهر ديسمبر سيبدو أضعف وسيخسر المنافسة.. والذنب ليس ذنبه. قد يكون الفتى المولود في ديسمبر متمتعاً بملكة طبيعية مساوية لنظيره المولود في يناير أو مارس.. إلا أنه بحاجة إلى عشرة أشهر أخرى كي يثبت ذلك أمام مدرِّب الفريق.. والنظام مع الأسف لن يتيح له هذه الفرصة.

أعطني 10 آلاف ساعة.. أعطك نجاحاً باهراً
هذا المثال يمكن تعميمه على كثير من المنافسات الرياضية وسواها. والحقيقة أن عامل الوقت هو عامل محوري في صقل الموهبة وفي البروز بها، بل إنه العامل الأول المحدد للنجاح كما يؤكد المؤلف عبر نظريته الخاصة بالـ «عشرة آلاف ساعة»، التي تنص على أن كل من يمضي فترة عشرة آلاف ساعة في المتوسط في ممارسة أي نشاط فإنه سيصل فيه إلى مرحلة «الأستاذية» والإجادة التامة.. وسيعد موهوباً فيه.

هذا الرقم من الساعات استنبطه غالدويل من خلال اطلاعه على دراسات إحصائية متعلقة بالصغار الدارسين في الأكاديميات الموسيقية. فالذين يمضون عشرة آلاف ساعة من التدريب يشقون طريقهم تلقائياً إلى مقاعد الأوركسترا. وقت الإعداد والعمل الشاق يأتي أولاً، وتأتي الموهبة ثانياً. كم سنة من التدريب تعني عشرة آلاف ساعة؟ هذا جواب يعتمد على مقدار التفاني الذي يتمتع به المرء الموهوب. فالذي يمضي ثماني ساعات من التدريب أسبوعياً سيبزغ نجمه قبل رفيقه الذي ينفق خمساً فقط. والاثنان سيتفوقان حتماً على الموهوب الذي بالكاد يتدرب.. وبالكاد سيتنبه لموهبته و(قابليته) للإبداع أصلاً.

هذه القاعدة أسقطها غلادويل على ضروب إبداع أخرى وصمدت مرة تلو مرة. فريق «البيتلز» الموسيقي الشهير، أتيحت لأعضائه فرصة نادرة كي يعزفوا ويغنوا معاً لساعات طويلة.. أطول من المعتاد. والنتيجة: إبداع طرق ثورية في العزف والغناء أدخلتهم التاريخ. هناك أيضاً بيل جوي المبرمج الأسطوري والذي أعاد كتابة نظام التشغيل الشهير «يونيكس» كما أسهم في صيغة كود الإنترنت نفسه. هذا المبرمج العبقري مثله مثل بيل غيتس الغني عن التعريف، أتيحت لهما وعبر سلسلة من الصدف المدهشة فرصة لم تتكرر للكثير من مجايليهما في «اللعب» والتعلم لساعات مطولة أمام أجهزة الكمبيوتر القليلة المتوافرة للعامة خلال السبعينيات الميلادية. الاثنان وسواهما استغلا الفرصة وركبا موجة التقنية الحاسوبية لاحقاً.. بل كانوا هم روادها.

عند قصة بيل غيتس وثورة الحاسوب يتوقف المؤلف مطولاً. لا شك في أن غيتس لم يصل إلى ما هو عليه من ثراء فاحش ونجاح باهر من باب الصدفة وحدها. هو بالتأكيد إنسان مثابر، مهووس بعمله، وحاد الذكاء. استطاع اغتنام الفرص التي أتيحت أمامه. لكن ما يقوله المؤلف مجدداً هو أن هذا الذكاء وحب البرمجة ليست العوامل الأولى وراء نجاح بيل غيتس الاستثنائي. يقول غلادويل إن غيتس وجوي وستيف جوبز، مؤسس «أبل»، كانوا الرجال المناسبين الذين جاءوا في «الوقت المناسب» أيضاً.. وهذه أفضلية لم يكن لأي منهم يد فيها.

ويعود غلادويل إلى لعبة الأرقام والإحصاءات ليخلص إلى ملاحظة مثيرة أخرى: بيل غيتس ولد في أكتوبر 1955م. أما شريكه في تأسيس شركة «مايكروسوفت» بول آلن فقد ولد في يناير 1953م. المدير الشهير لهذه الشركة وأحد أبرز وجوهها ستيف بالمر ولد في مارس 1956م. مبرمجنا الأسطوري بيل جوي ولد في نوفمبر 1956م. أما ستيف جوبز فقد جاء إلى هذه الدنيا في 24 فبراير 1955م. هناك إذاً «نافذة حظ» لعباقرة الكمبيوتر. لنتذكر أن العام 1975م كان فجر الكمبيوتر الشخصي. وهكذا فإذا كنت موهوباً في البرمجة وحصل أنك أمضيت عشرة آلاف ساعة تصقل قدراتك في هذا المجال وصدف أنك عام 1975م كنت في العشرينيات من عمرك.. وهي الفترة المثالية للتمرد على نمط الحياة وخوض تجربة مجنونة أو تأسيس شركة جديدة من الصفر.. كما هو الحال مع كل من السادة الواردة أسماؤهم أعلاه.. فإن الحال كان سينتهي بك واحداً من أعلام عصر الكمبيوتر.

لننصب معاً فخاخ النجاح
لا يقدِّم لنا كتاب «آوت لايرز» أكثر من مجموعة من الوقائع الحقيقية ليحللها على ضوء اختبارات الذكاء وظروف الاقتصاد والمجتمع. إنه يستعرض لنا مجموعة من أمثلة النجاح وأمثلة الفشل كذلك ليضعنا أمام استنتاج مربك. إنه يعرفنا بمزارع في الجنوب الأمريكي يتمتع بدرجة ذكاء تفوق تلك التي كانت لـ «أعظم عقل بشري» كما عرفناه: آلبرت آينشتاين. لماذا لم يصبح هذا المزارع -الذي وُلد عبقرياً- عالماً فذاً؟ الجواب هو موضوع الكتاب: إنه لم يعلق في «فخاخ النجاح» المناسبة. ولم تتوافر له ظروفه.

ولكن هذا الكتاب يقدِّم لنا من جهة أخرى نوعاً من العزاء. نحن الذين طالما لمنا أنفسنا على تقصيرنا في التحصيل وخلودنا إلى الراحة، وعلى سماحنا لفرص النجاح والتفوق تفلت من بين أيادينا. كتاب «أوت لايرز» يعلِّمنا أن النجاح، بل والنجاح الفذ، ليس صنيعة يد أحدنا. ليس لأحد الحق في أن يفخر بذاته فخراً كاملاً.. ولا أن ينسب الفضل لها. مسار النجاح خاضع لتدبير قدري وغيبي كما يليق بأية ظاهرة كونية مدهشة. نجاحك مقترن في المقام الأول بظروف ولادتك ونشأتك. ومع الأسف، هناك شيء من الاختلال في هذه المعادلة. فوفقاً لنظرية غلادويل، فإن أطفال الأثرياء مهيئون لسلوك درب النجاح أكثر من سواهم. أبناء المتعلمين والمثقفين سيتعرضون لفرص الإبداع وتطوير الذات أكثر من غيرهم. غير أن هناك أمثلة أخرى على ظروف تغيرت وتقلبت لتأتي بأبناء الأقليات والمحرومين إلى قمة الهرم الإبداعي. لكن حتى هؤلاء، كان عليهم أن يثابروا وأن يعدوا أنفسهم لآلاف الساعات بانتظار لحظة المجد. النجاح الفذ، وفيما يبدو مع الأسف، يُصنع باكراً في الصغر.. وتتضاءل فرصه مع تقدم السن.

إذا كان هناك من درس لنا نحن الكبار فهو في الاهتمام بصغارنا. في بذل الجهد الأقصى معهم وفي استثمار أعمارهم الغضة التي هي مسؤوليتنا نحن. استكشاف مواهب هؤلاء الصغار الكامنة هو مسؤولية والديهم المباشرة. وإرشادهم إلى طرق تنميتها بل وإرغامهم على فعل ذلك هو مسؤولية الوالدين أيضاً. أما مؤسسات الحكومة والمجتمع فإنها مطالبة بأن توفر للأجيال الناشئة كافة وسائل تنمية القدرات وأحدث التقنيات والمرافق.. بغض النظر عن كم الموهوبين بيننا. من يدري.. عسى أن يتعثر أحد هؤلاء بواحدة من تلك التقنيات والمواهب ويشغف به. على النحو الذي شغف به صبي اسمه بيل غيتس بواحد من حواسيب العام 1968م العتيقة.

أضف تعليق

التعليقات