على الرغم من أن الكل بات يعرف أن الأزمة المالية التي أطلت برأسها أولاً في أمريكا قبل أسابيع هي في الواقع عالمية المقاييس، فإن الكثيرين من أبناء الطبقة الوسطى في البلاد العربية، كما هو الحال في بلدان كثيرة من العالم، من غير المقربين من أجواء البورصات والاستثمار فيها، لم يلحظوا بعد آثار هذه الأزمة على حياتهم اليومية ما يمكن قياسه بالحراك السياسي الضخم والضجيج الإعلامي المعبر عن هذه القضية. الكاتبان الاقتصاديان خالد بن عبدالرحمن الغشيري
وبهاء الرملي يستطلعان هنا ما الذي يمكن أن يواجه المواطن المتوسط الحال، الذي يعتمد على راتبه الشهري، وذوي المدفوعات الصغيرة، وسط تخبط كبار المصارف والبيوتات المالية وحكومات العالم في هذه الأزمة، فيتناولان أسبابها وما بان من مفاعيلها حتى الآن، ويستشرفان ما يمكن أن تكون عليه الانعكاسات المستقبلية على متوسطي الحال، من خلال تلخيص لعشرات الآراء والنصائح التي أبداها الخبراء في هذا الشأن على مدى الأسابيع الماضية على القنوات التلفزيونية المتخصصة في الاقتصاد.
عندما ظهرت بوادر أزمة الرهن العقاري في أمريكا قبل نحو عام، ظلت متابعتها العالمية شبه محصورة في نطاق المتعاملين مع البيوتات المالية الأمريكية، وذوي الاستثمارات الكبيرة، الذين كانوا يعون أن ما يصيب الاقتصاد في أي مكان من العالم (وخاصة في الدول الكبرى)
لا بد أن يكون ذا آثار عابرة للقارات.
وتحوَّل القلق إلى استنفار عالمي مع إفلاس بنك ليمان الأمريكي، واقتراب عدد من كبار المصارف من حافة الإفلاس، فاستنفرت الحكومة الأمريكية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مؤسساتها المالية. وبسرعة انتشار النار في الهشيم، امتدت الأزمة المالية إلى معظم دول العالم من بريطانيا غرباً إلى اليابان شرقاً. ولأول مرة في التاريخ يُطَعّم الحديث عن جهود الإنقاذ والدعم والقروض بهذا العدد من “تريليونات” الدولارات، الأمر الذي يكفي لوحده أن يثير الذعر والدهشة أمام حجم المعضلة، التي لم تلق حتى وقت إعداد هذا التقرير، ما يبشر باقتراب الحلول المطمئنة. وحتى لو ظهرت هذه الحلول النهائية اليوم، فإن مفاعيل ما يحصل ستبقى ظاهرة ومؤثرة على الاقتصاد في العالم بأسره خلال المستقبل القريب، وتعني به الفترة الممتدة حتى نهاية العام المقبل 2009م على أقل تقدير.
نواة كرة الثلج
تعود جذور هذه الأزمة التي لم نسمع بها في الإعلام إلاّ قبل سنة واحدة تقريباً إلى منتصف تسعينيات القرن الماضي، عندما راحت المصارف الأمريكية تسرف في التسليف لبناء المساكن بفوائد لم تتجاوز الواحد في المئة، مما أدى إلى نمو كبير في حركة عرض المساكن والطلب عليها، وإلى فورة عقارية شكَّلت عامل جذب للاستثمار في هذا القطاع.
بدت هذه الحركة في ظاهرها طبيعية، غير أن عقود الاقتراض المصرفي الخاصة بها كانت مفخخة بشروط لم ينتبه إليها المقترضون عن قلة دراية أو قلة خبرة أو سوء تقدير.
أكثر هذه الشروط كان في اعتماد فائدة متحركة مربوطة بالفوائد التي يحددها الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، وتسديد فوائد القروض في السنوات الثلاث الأولى للقرض، يصار بعدها إلى سداد أقساط القرض نفسه. والأدهى أن العقود تضمنت بنداً جزائياً بتحميل المقترض غرامات مرتفعة في حال تأخره عن السداد.
سارت الأمور أولاً بشكل مقبول من الجميع حتى العام 2000م، عندما رفع الاحتياطي الفدرالي الأمريكي أسعار الفوائد إلى ما بين 4 و4.5 في المئة (بين عامي 2001 و2003م). الأمر الذي أدى لاحقاً إلى تحميل المقترضين أعباء إضافية عجزوا عن الوفاء بها، واضطر الكثيرون منهم إلى التوقف عن الدفع والتخلي عن منازلهم للمصارف المقرضة. ومع ارتفاع الفوائد، ارتفعت كلفة شراء البيوت، فتراجع الطلب عليها، لتتراجع بدورها الأسعار، وهذا ما أدى إلى تراكم الديون المستحقة للمصارف التي صارت تمتلك الكثير من البيوت التي لا يريد أحد شراءها، فوقعت في أزمة سيولة.
قبل الوصول إلى هذه المرحلة، وعندما كانت موجة الاقتراض السكني في ذروتها، راحت المصارف تصدر سندات مقابل القروض المضمونة بالبيوت. فأقبل عليها المستثمرون على أنها مضمونة. ولما كانت هذه السندات تعطي عائدا مغرياً، توجه المستثمرون إلى صناديق استثمار وباعوها إياها بضمانة البيت أيضاً. كما توجهت المصارف من ناحية أخرى إلى شركات التأمين للتأمين على السندات، فقبلت شركات التأمين الطلب كون السندات مضمونة بالبيوت.. وهكذا بات البيت الواحد يشكل ضمانة لأربع جهات هي المصرف المقرض والمستثمر وصندوق الاستثمار وشركة التأمين. وعندما يبلغ عدد البيوت التي تخلى عنها أصحابها للمصارف نحو مليوني بيت، ولا من يريد شراءها، أي بعبارة أخرى عندما تتحول البيوت إلى بضاعة كاسدة، يمكننا أن نتصور المأزق الذي وقعت فيه هذه الجهات الأربع.
فمن المصارف التي انخرطت في هذه اللعبة نذكر بنك جي. بي مورغان الذي كان أول ضحايا انفجار الأزمة، وشركة التأمين الأولى في الولايات المتحدة أيه. آي. جي التي عجزت عن دفع ضمانات قيل أولاً أنها وصلت إلى 14 مليار دولار. غير أنها أعلنت مؤخراً حاجتها إلى 150 ملياراً للخروج من أزمتها!!
لم يقف انفلات السوق عند حد المبالغة في التسنيد بضمانة غير حقيقية. بل راحت المصارف تعطي لأشخاص غير موثوقين، وأصحاب سوابق في عدم القدرة على السداد، وفي تقديم بيانات غير صحيحة حول مداخيلهم وممتلكاتهم.. وكان كل ذلك يجري بعيداً عن أية رقابة مصرفية أو مالية. لأن نظرية عرّاب الاقتصاد الأمريكي ومنظِّره في السنوات الماضية ألان غريسبان كانت تقول بإمكانية تغييب الضوابط الحكومية إلى حد كبير، لأن آلية السوق كفيلة بأن تعالج بنفسها المشكلات المحتملة. وهذا ما تراجع عنه غريسبان، وأقر علناً بخطئه بعد انفجار الأزمة.
وإلى أزمة الرهن العقاري التي تشير آخر التقديرات إلى أن حجمها “الحقيقي” يبلغ 1.5 تريليون دولار(!؟)، يضاف عامل آخر لم ينل من الأضواء الإعلامية ما يستحقه، وهو دور الاعتماد على الاقتراض من خلال بطاقات الائتمان في الحياة الأمريكية. إذ أدى اطمئنان الأمريكيين المبالغ فيه لجهة مسار الاقتصاد في بلادهم، إلى ارتفاعات فلكية في مصاريفهم الحياتية، بحيث بات من الطبيعي بالنسبة إلى الكثيرين أن يسددوا كامل رواتبهم الشهرية كقسط مستحق لشركات بطاقات الائتمان، بعدما تجاوزت ديونهم لها إجمالي مداخيلهم لسنة أو سنتين..
وانكشفت هشاشة الوضع أمام أول بوادر التعثر، فانهار مع انهيار المقترضين وتمنعهم عن الدفع، لينهار لاحقاً المستثمرون وصناديق الاستثمار وشركات التأمين مثل أحجار الدومينو.
الأزمة من أمريكا إلى العالم
وهكذا يمكن القول إن أزمة الرهن العقاري كانت الشرارة التي أشعلت حرائق الأسواق على ضفتي الأطلسي. فنظراً إلى تداخل البورصات الكبرى وسهولة توظيف الأموال من أي مكان في العالم في أي مكان آخر بشكل فوري من خلال سهولة الاتصال التي وفرتها شبكة “الإنترنت”، ونظراً إلى أن المستثمرين الأوروبيين مارسوا سلوكيات مماثلة لما كان يحصل في “وول ستريت”، انتقلت عدوى الهلع ومن ثم الانهيارات إلى أوروبا واليابان، حيث كانت توجد عوامل خطر بعضها مشترك، وبعضها خاص بكل دولة من دول منطقة اليورو التي كانت أكثر تضرراً من غيرها في أوروبا، بعد بريطانيا ذات البورصة وثيقة الصلة بـ”وول ستريت”.
فإسبانيا مثلاً تعاني أزمة عقارية أصغر حجماً من مثيلاتها الأمريكية، ولكنها أكثر حدةً، وألمانيا تشهد فترة تراجع كبير في صادراتها. وفرنسا تعاني أزمة اقتصادية وبطالة حادة، فضلاً عن أنها لم تتخط بعد أزمة الثقة بقطاعها المصرفي نتيجة حادثة مصرف “سوسيته جنرال” التي أدت إلى خسارة المصرف 7 مليارات يورو بسبب سلوك فردي لأحد موظفيه. وأدى كل ذلك معطوفاً على أزمة الثقة بالنظام المالي العالمي الناتجة عن الأزمة الأمريكية، إلى بدء سلسلة الانهيارات الأوروبية مودية بمئات مليارات اليورو.
ومع تهاوي البورصات الأمريكية والأوروبية، انتقلت الانهيارات إلى البورصات الآسيوية التي سجلت أدنى مستوياتها في عقود، لاسيما في اليابان والصين وأستراليا وهونغ كونغ والهند. ولم تسلم البورصات العربية لاسيما في دول مجلس التعاون الخليجي. فسجلت البورصة السعودية، وهي أكبر بورصة عربية, تراجعات حادة وكذلك بورصات الكويت والإمارات والدوحة.. رغم التطمينات في هذه الدول بأن القطاع المصرفي لا يواجه نقصاً في السيولة، ونجاح الكويت مثلاً في تطويق أزمة بنك الخليج. غير أن العامل النفسي لا يزال هو الأقوى ويحدد مسار مؤشرات البورصات العربية يومياً.
ولو شاء المرء أن يلخص حجم هذه الأزمة العالمية، لأمكنه الاكتفاء بالإشارة إلى أن إجمالي خسائر الأسهم في بورصات العالم منذ مطلع العام الجاري بلغت نحو 25 تريليون دولار.. وأن ما ضخته الحكومات في مصارف بلدانها لإمدادها بالسيولة اللازمة لمتابعة أعمالهابلغ حتى وقت إعداد هذا التقرير نحو 8 تريليونات دولار، بعدما اعتقد البعض أن إقرار خطة الإنقاذ الأمريكية التي بلغت كلفتها 700 مليار دولار ستضع حداً لجفاف الأسواق المالية.. إذ تبين أن هذا المبلغ العملاق كان أشبه بكوب ماء يُصب فوق الرمال، فظهرت حاجات جديدة إلى المزيد. وعلى الرغم من الجهود المبذولة عالمياً على مدار الساعة لمواجهة هذه الأزمة، يبدو أن الأيام والأسابيع المقبلة لا تعد بزوال هذا الكابوس، بدليل أن العالم بأسره يتطلع إلى الخطوات التي سيقدم عليها الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما بعدما يستلم منصبه رسمياً في يناير المقبل. وخلال هذا الوقت لم تعد أخبار الانهيارات والاختلاسات تقتصر على عالم البنوك وشركات التأمين والبيوتات المالية، بل بدأت تطل برأسها في عالم الإنتاج. ومن أبرز الأمثلة على ذلك أن عمالقة صناعة السيارات في أمريكا يستنجدون اليوم بالحكومة لتقدِّم لهم دعماً مالياً يحميهم من الإفلاس. وتبلغ هذه الحاجة ذروتها عند شركة “جنرال موتورز” التي أعلنت أنها قررت صرف %30 من موظفيها وأنها قد تعجز عن تسديد الرواتب بعد شهرين(!)، كما أنها قد لا تستطيع الصمود حتى يستلم الرئيس المنتخب أوباما منصبه. وبموازاة هذه الأخبار المقلقة عن عمالقة الصناعة، بدأت تنتشر في العالم أخبار صرف الموظفين بالآلاف بدءاً بكبار المصارف الأمريكية مثل “سيتي جروب” وصولاً إلى مصانع الألعاب في الصين، مما يعني بداية تحول الأزمة المالية (أو أزمة السيولة) إلى أزمة اقتصادية عامة يصعب التكهن بدقة في حجمها ومسارها لاحقاً.
الأزمة عربياً
بشكل عام، يمكن تلخيص جانب كبير من انعكاسات هذه الأزمة العالمية على الدول العربية حتى الآن، بالقول إنها اتخذت طابع المواجهة ما بين الحكومات والسلطات المالية من جهة، والهلع النفسي الذي سيطر على المستثمرين من جهة أخرى. فقد أدى هذا الهلع كما نعرف إلى تهافت الكثيرين على بيع ما يملكون من أسهم في البورصات بأي سعر. فكانت النتيجة تراجعات حادة في كل البورصات العربية من دون استثناء يذكر. وكانت التراجعات الأسوأ في الأسواق السعودية والكويتية والإماراتية نظراً لضخامتها.
ورغم تراجع أسعار النفط مع تراجع الطلب العالمي عليه بسبب تباطؤ النمو في معظم دول العالم، وبداية الانكماش في بعضها الآخر (مثل الولايات المتحدة وبريطانيا)، فإن الحكومات الخليجية تمكنت من استيعاب الأزمة المالية بما تختزنه من احتياطات نقدية جمعتها بفعل ارتفاع أسعار النفط في السنوات القليلة الماضية. غير أن هلع المستثمرين لم يتبدد تماماً ولا يزال يؤثر سلباً على أداء الأسواق في هذه الدول. ومما لا شك فيه أن للهلع ثمنه.
أسواق الأسهم.. يكفيها بعض التعقل
إننا نعرف قصة أسواق الأسهم في المملكة ودول الجوار الخليجي وحتى مصر ولبنان وغيرها من البلدان العربية، حيث حمل الهلع عدداً من المستثمرين على بيع أسهمهم بأي سعر كان، فتكبدوا خسائر متفاوتة في أحجامها تبعاً لأحجام الاستثمارات.
وفي المقابل كان لسقوط أسعار الأسهم أثر معاكس، إذ بدت هذه الأسعار المنخفضة للغاية، مغرية للمشترين. وهي في الواقع كذلك. غير أن النصيحة التي كررها عشرات الخبراء على شاشات التلفزيون من قناة “سي. إن. بي. سي العربية” إلى “بلومبرغ” البريطانية، تشترط في المستثمر الذي يريد توظيف أمواله في البورصة أن يكون ذا نفس طويل، قادراً على تجميد المبلغ المستثمر لفترة قد لا تقل عن سنة، وقد تمتد حتى سنوات ثلاث. وإلاّ فإن استثماره سيشكِّل مقامرة قد تكون ذات عواقب وخيمة، إذا ما كان أمام مهلة محددة قد يحتاج بعدها إلى السيولة المستثمرة، لأن الأوقات الملائمة للبيع وجني الأرباح لم تكن في يوم من الأيام أقل وضوحاً مما هي عليه اليوم.
أما النصيحة الموجهة إلى صغار المستثمرين الذين خرجوا من السوق، فهي بعدم عودتهم إليها، إلاّ إذا توافر لهم فائض من السيولة التي يدَّخرونها، يغنيهم عن بيع الأسهم التي سيشترونها لفترة قد تراوح بين السنة والسنوات الثلاث.
وفيما يتعلق بالمستثمرين المتوسطين والكبار الذين يملكون مدخرات نقدية أو مصادر سيولة تسمح لهم بتأمين معيشتهم وأعمالهم الأخرى، فلا يجد الخبراء أي مبرر للتفريط بما يملكونه في الأسواق من الأسهم، لأن أكثر التوقعات تشاؤماً تبقى على مستوى ملحوظ من الثقة بجدوى التدابير الحكومية لمنع حصول انهيارات (في دول مجلس التعاون الخليجي بشكل خاص). ومن أهم هذه التدابير ضمان الودائع كليا ًأو جزئياً في بعض الدول، وتقليص حجم القروض العقارية لضمان قدرة المواطنين على السداد وعدم تورطهم في عمليات عقارية تفوق إمكاناتهم المادية. فالكويت خفضت قيمة القروض من 90 إلى %70 من ثمن المنزل، وفي لبنان لا يتخطى الحد الأعلى للقرض السكني %60 من ثمن المسكن.
المودعون ومدخراتهم في المصارف
والواقع أن أسواق الأسهم التي تشكِّل عصب الاقتصاد في دول العالم، حظيت ولا تزال بتغطية إعلامية تتابع ما يجري فيها لحظة بلحظة ما بين افتتاح الواحد منها وإغلاقه. ولكن ماذا عن ملايين البشر في البلاد العربية وغيرها من دول العالم من متوسطي الحال، الذين يعتاشون على رواتبهم الشهرية مثلاً، ويملكون مدخرات محدودة في المصارف المحلية؟
النصيحة الأولى الموجهة إلى هؤلاء هي أن يدخروا أكبر قدر ممكن، وأن يبقوا على مدخراتهم في الوقت الحاضر، على شاكلة سيولة في المصارف، لأربعة أسباب هي:
أولاً: لأن الأزمة الحالية هي أزمة سيولة بالدرجة الأولى كما رأينا مطولاً.
ثانياً: لأن نظام ضمان الودائع في المصارف من قبل الحكومات، يشكل أكبر عامل اطمئنان تجاه مستقبل هذه المدخرات. وحيثما كان ضمان الودائع جزئياً، يمكن للمدخر أن يوزع مدخراته على عدة مصارف بحيث لا يودع في أحدها ما يفوق الحد الأقصى المضمون.
ثالثاً: لأن كل مجالات الاستثمار الأخرى (في أسواق الأسهم، والعقارات والأراضي وحتى التجارة) قد لا تكون مضمونة النتائج للوافدين الجدد عليها في الوقت الحاضر، خاصة وأن شبح الكساد الكبير يخيم على العالم بأسره.
رابعاً: لأن ما بدأ كأزمة مالية قد يتحول بين ليلة وضحاها إلى أزمة اقتصادية شاملة، تتفشى فيها البطالة عالمياً بشكل كارثي. ومن يتقاضى راتباً شهرياً اليوم قد يجد نفسه من دون أي دخل مالي. وإذا كان قد وضع مدخراته المحدودة في أي توظيف كان، فإن استرداد سيولته وقت الحاجة الطارئة لن يتم من دون خسائر، هذا إذا لم يخسر استثماره بأسره.
ففي حلقة من برنامج أوبرا ويمفري الشهير كانت مخصصة للحديث عن أحوال المتقاعدين أمام الأزمة الحالية، نصحت خبيرة الاقتصاد هؤلاء وكل الذين يعتاشون على رواتبهم الشهرية، بإعطاء الأولوية لتوفير سيولة نقدية في حساباتهم المصرفية، ولو على حساب أي استثمار مهما كان مغرياً، ووحدت حجم السيولة اللازمة بما يكفي للعيش لنحو سنوات ثلاث مقبلة تقريباً.وما يفيض عن ذلك يمكن استثماره في شراء الأسهم أو العقارات أو توظيفه في أي مجال آخر. وهذه النصيحة تصح في أمريكا كما تصح في أي مكان آخر من العالم حيث يعتمد ذوو المداخيل المتوسطة على مدخراتهم لتوفير مستلزمات عيشهم.
رب ضارة نافعة
من جهة أخرى، بعيدة في أجوائها عن سوداوية ما سقناه حتى الآن، لاحظنا جميعاً كثافة غير مسبوقة للإطلالات الإعلامية التي يقوم بها المسؤولون الحكوميون والخبراء الماليون والاقتصاديون (وخاصة في البلدان العربية) لطمأنة الناس إلى أن هذه الأزمة، رغم كلفتها الباهظة على الأسواق وعلى الدول التي استنفرت احتياطاتها النقدية للحؤول دون الانهيار الشامل، ستكون لها من جهة أخرى آثار عكسية وبطريقة إيجابية على الأسواق، نظراً إلى تبدل المعطيات.
فبعدما عانى الدولار الأمريكي من ضعف طويل العمر ومتزايد تجاه العملات الرئيسة الأخرى، متسبباً بذلك بمتاعب اقتصادية وتجارية كثيرة للدول التي تربط عملاتها بالدولار الأمريكي، أدت الأزمة الحالية في منطقة اليورو وبريطانيا إلى ضعف العملة الأوروبية والجنيه الإنكليزي أمام الدولار الذي يكتسب الثقة به من قوة الاقتصاد الأمريكي الأقوى في العالم. وبموازاة عودة الدولار والعملات المرتبطة به إلى الارتفاع، ضعفت القدرات الشرائية في أوروبا، وفي مسقط رأس الأزمة أمريكا. الأمر الذي أدى بعد تحالفه مع عوامل أخرى إلى تراجع أسعار السلع الأساسية مثل المعادن ومواد البناء وبعض المنتجات الغذائية الأساسية مثل الأرز الذي شهد فورة غير مسبوقة خلال العام الماضي. وهذا ما سيؤدي حكماً إلى تراجع شريحة أوسع من الأسعار، أي إلى تحسين القيمة الشرائية للأجور، وتالياً تحسين مستوى معيشة الأفراد.
وفي هذا السياق، يُجْمِع المراقبون أن من التداعيات اللازمة تراجع معدلات التضخم بنسب كبيرة في دول المنطقة، بعدما كانت كلها تعاني من موجة غلاء فاحش تنوء تحته معظم الفئات الاجتماعية. ففي دبي مثلاً، يقدر أن تتراجع نسبة التضخم من %14 إلى %5، وفي دولة الإمارات بأسرها من %14 إلى %9. ونسبة التراجع نفسها مرتقبة في المملكة وباقي الدول العربية، طبعاً مع اختلاف في النسب وفقاً لخصوصيات كل بلد.
وتترافق هذه التوقعات “المتفائلة” بشيء إيجابي مع توقعات صندوق النقد الدولي الذي يرى بأن دول المنطقة ودول شمال إفريقيا ستشهد معدلات نمو مرتفعة بسبب تراجع الأسعار عموماً، وما يتوقع أن يعقبها من ارتفاع في حركة الطلب عند المستهلكين. وفي حين أن عالم المشاريع العقارية والإنشائية الكبرى يتعرض حالياً لبعض الاضطرابات نتيجة تردد المستثمرين، فإن المواطن المتوسط الحال قد يكون معنياً مباشرة بجانب آخر من تطور المشاريع العقارية.
فانخفاض أسعار مواد البناء، مضافاً إلى قلة الطلب على العقارات بسبب أزمة السيولة، يجعل من الوقت الحالي وقتاً للترقب وتحين الفرصة الملائمة عند الشريحة من أبناء الطبقة الوسطى الساعين إلى امتلاك مسكن لمعيشتهم، من المرجح أنه قد يعرض أمامهم بتكلفة أقل بكثير مما كانت قبل عام مضى. ولكن لكي يتمكن المواطن المتوسط الحال من الاستفادة من هذا المناخ، عليه أن يمتلك السيولة اللازمة. ولذا شددنا في أكثر من موضع خلال هذا التقرير على جدوى الحصول على السيولة والادخار. فالأزمة المالية التي تضرب العالم اليوم هي أشبه بعاصفة هوجاء تضرب غابة.. فالأشجار الباسقة (مثل بنك ليمان) اقتلعت من جذورها. أما الأعشاب الصغيرة الطرية، مثل أبناء الطبقة الوسطى في العالم، فعليها أن تنحني، ولا يكفيها أن تنحني، بل عليها أن تتوخى الحذر كي لا تسحقها الأشجار الباسقة خلال سقوطها.
الذهب.. كي يكون فعلاً آمناً
من المفاهيم الاقتصادية الشائعة في العالم بأسره أن معدن الذهب يشكِّل ملجأً آمناً خلال الأزمات، أياً كان نوع هذه الأزمات. وفي الأمر كثير من الصحة، إذا وعي الملتجئ إلى الذهب الشكل السليم والأفضل لشرائه. لأن الكثيرين حصدوا خيبات الأمل عندما اكتشفوا أن قيمة ذهبهم هي أقل مما قالت حساباتهم. والحديث هنا موجه بشكل خاص إلى أبناء الطبقة الوسطى الذين يرتكبون أخطاءً عديدة خلال لجوئهم إلى الذهب.
أولاً: إن شراء الذهب على الورق من خلال مكاتب المضاربة المالية (brokers)، هو اليوم أخطر من أي وقت مضى، لأن مصير هذه المكاتب مجهول في خضم الأزمة الحالية، ومن الممكن أن يعلن أي منها إفلاسه في أية لحظة، وعجزه عن رد أموال المستثمرين.
ثانياً: بعض المصارف العربية يفتح حسابات ادخار بالذهب. وهي تبيع الذهب للمدخر وتشتريه منه بالسعر الرسمي المعتمد في البورصة خلال لحظة الصفقة. غير أن معظمها يشترط حداً أدنى لفتح حساب لا يقل عن خمسين أونصة أو حتى عن مئة أو مئتي أونصة. وهذا ما يفوق حجم مدخرات متوسطي الحال.
ثالثاً: يمكن لمتوسط الحال شراء الذهب فعلاً على شكل سبائك متوافرة في الأسواق بأوزان تبدأ بالغرام الواحد وصولاً إلى عدة كيلوغرامات.. وأن يودعها في صندوق خاص به في المصرف. ولكن هنا، يجب عليه أن ينتبه إلى أن سعر السبيكة الفعلي يتجاوز عند شرائها بشكل ملحوظ السعر الرسمي المعلن في البورصة. وكلما صغر وزن السبيكة، كانت نسبة الفرق كبيرة. فشراء سبيكة تزن نصف أونصة يكلِّف نحو 80 ريالاً إضافة إلى سعرها الرسمي، في حين أن هذا الفارق يصبح 150 ريالاً للأونصة الواحدة وليس 160 ريالاً، ويبلغ الفارق في سبيكة تزن كيلو غراماً واحداً نحو ألف ريال (أي أقل من 30 ريالاً للأونصة الواحدة) وبالتالي من الأفضل شراء الذهب العيني على شاكلة أكبر سبائك تسمح بها ميزانية المشتري.
الأمر نفسه ينطبق على النقود الذهبية. فالجنيهات المعروفة في الأسواق (سعودية وإنكليزية) هي في معظمها من عيار 22 قيراطاً. وتباع وتشترى بالسهولة نفسها التي تباع بها أية عملات. كما أن صغر حجمها (وثمنها) يضعها بسهولة في متناول المدخرين الصغار. ولكن هنا أيضاً يوجد فرق ملحوظ ما بين سعر المشترى وسعر المبيع. وعلى المدخر أن ينتبه إلى وجوب الاحتفاظ بهذا الذهب إلى أن يرتفع سعره إلى ما فوق الحد الذي يغطي سعر شراءه.
رابعاً: الخطأ الأكبر الذي يرتكبه صغار المدخرين هو في الاعتقاد أن الحلي الذهبية هي ادخار آمن. والواقع أن الحلي الذهبية تبقى محافظة على بعض قيمتها مهما تقلبت الأحوال. وإن كان صحيحاً أن إعادة بيع الحلية الذهبية يمكنه أن يوفر السيولة وقت الحاجة فمن المؤكد أن ذلك لا يعود على صاحب الحلية إلاّ بمبلغ أقل من الذي دفعه لهذه الحلية لأنه عندما اشتراها لم يدفع ثمن الذهب فقط، بل زيادة قد تصل إلى %30 إضافية على ثمن الذهب، بدل “العمل على الصياغة”. ولا يوجد تاجر ذهب يشتري الحلي المستعملة آخذاً بعين الاعتبار “قيمة العمل”، لأن ذريعته هي أنه سيعيد صهرها. ولذا يجب انتظار ارتفاع أسعار الذهب بما يزيد عن 30 أو %40، كي تصبح إعادة بيع الحلي الذهبية مربحة اسمياً. أما عملياً فإن نسبة التضخم خلال هذا الوقت الطويل تكون قد التهمت فعلاً أي ربح اسمي جناه المدَّخر في الحلي.