منذ ظهور الشعر الجاهلي وحتى اليوم، حضرت الصحراء في الأدب العربي شعراً ونثراً بألف صيغة ولون. والأمر طبيعي طالما أن الصحارى تشكِّل أكبر المكوّنات الطبيعية في البيئة التي أنجبت هذا التراث. ولكن أكثر الأدباء التحاماً بالصحراء دون أي منافس قريب، هو معاصرنا الروائي الليبي إبراهيم الكوني الذي لم يعش فعلاً في الصحراء أكثر من سنوات الطفولة الاثنتي عشرة، ولكن شخصيته الأدبية لم تغادرها يوماً. فألَّف حتى اليوم أكثر من ستين كتاباً، ثلاثة أرباعها روايات مسرحها (وبطلتها) الصحراء.. الصحراء الإفريقية الكبرى.

ولد الكوني في غدامس بليبيا عام 1948م، وبعدما أنهى دراسته الابتدائية في مسقط رأسه، انتقل إلى سبها، ثم سافر إلى موسكو حيث حصل على الماجستير في العلوم الأدبية والنقدية من معهد غوركي للأدب عام 1977م.

وما بين العامين 1970 و1986م، اقتصرت مؤلفاته على بعض الكتابات السياسية ومجموعتين قصصيتين لم تثيرا اهتماماً كبيراً، ولم تتجاوزا حدود ليبيا إلى أن..

رباعية الخسوف الإلياذة الصحراوية
في العام 1989م، نشر الكوني «خماسية الخسوف»، وكان وقعها مدوياً..

و«الخماسية» هي في الواقع «رباعية» لأنه لم يصدر منها إلا أربع روايات هي: «البئر»، «الواحة»، «أخبار الطوفان الثاني»، و«نداء الوقواق».

تروي هذه الرباعية سيرة ثلاثة أجيال من أناس ينتمون إلى قبيلة «الطوارق» (التي ينتمي إليها الكوني نفسه)، يعيشون ويموتون ويحبون وينجبون ويحاربون على مسرح يمتد ما بين حدود مصر الغربية شرقاً وحتى موريتانيا غرباً، ومن ليبيا شمالاً حتى النيجر جنوباً.. الصحراء الكبرى.

وبتعاقب الأجيال من أواخر العهد العثماني إلى فترة نشوء ليبيا الحديثة مروراً بالنضال ضد الاستعمار الإيطالي، يتبدل أبطال هذه الرباعية ومجريات أمورهم. ولكن الصحراء تبقى هي نفسها، حتى ليمكن القول إنها هي بطلة هذه الرباعية، وليس تلك الحفنة من الرجال الملثمين الذين يعيشون فيها، وفيها يموتون.

لم يترك الكوني شيئاً في هذه الصحراء إلا وتطرق إليه. وصف طبيعتها، الصخرية هنا والرملية هناك، اتساعها، زرقة السماء، ملابس الطوارق، زحف الرمال على القرى، طقوس الحب والزواج وتقاليدهما، المفاهيم الاجتماعية وصولاً إلى الخرافية مثل طريقة التآخي مع العقارب لتلافي لدغاتها، وظروف فك هذا التآخي، وحتى وصف الضياع والموت في الرملة.. في حين أن نقل مسرح الأحداث إلى المدن لا يحصل إلا لماماً، حتى ليمكن القول إنه يكاد أن ينعدم تماماً.

وكما ولو أن هذه الرباعية أثارت شيئاً من الحسد عند أساتذة الرواية والنقد، اقتصر الترويج لها في الأشهر الأولى على صفوف القرّاء، الذين عبر بهم الكوني بلغة جزلة وقدرة تصويرية عملاقة، إلى عالم الصحراء الإفريقية الكبرى بكل ما فيها. وبتضخم كرة الثلج، استيقظ النقَّاد والإعلاميون متأخرين بعض الشيء ليصفِّقوا. وبدءاً من العِقد التالي، راحت الجوائز الأدبية العالمية تتكدَّس عند الكوني من فرنسا وسويسرا واليابان، واليونيسكو ودولة الإمارات ومصر وغيرها..

الصحراء الكبرى.. أكبر من ذلك!
لو لم يكتب الكوني عن الصحراء الإفريقية الكبرى غير هذه الرباعية، لبقي عمله هذا أكبر الملاحم الروائية الصحراوية من دون أي منافس، تماماً كما هو حال إلياذة هوميروس الشعرية بالنسبة للتاريخ الإغريقي وحروبه. ولكن، كما ولو أن الكوني يريد أن يقول لنا إنَّ الصحراء الكبرى أكبر وأغنى من أن تحوط بها رباعية، كرّت السبحة. فكتب لاحقاً نحو خمسين كتاباً (معظمها روايات ومجموعات قصصية ومتون: أنوبيس، صحف إبراهيم، بيت في الدنيا وبيت في الحنين، التبر.. الخ)، وظلت الصحراء الإفريقية الكبرى مسرح وموضوع غالبيتها الساحقة. يكتب عنها الكوني بمنهج يجمع تصوير المسرح بواقعية دقيقة، إلى أحداث تجري عليه برومانسية «حديثة». ولربما كان اختلاف النقَّاد في رصد واقعية الوصف واعتباره بدوره رومانسياً، يعود إلى أن حقيقته في الصحراء هي كذلك.

فمن ثمانينيات القرن الميلادي الماضي وحتى اليوم، لم يتفلَّت الكوني، وبملء إرادته، من طغيان الصحراء الكبرى على نتاجه الأدبي. الأمر الذي جعل البعض ينتقده بالقول: «إنه أسير الرواية الصحراوية بعناصرها المتكررة إلى درجة الملل، وأنه انحاز إلى الصحراء وأهلها الطوارق إلى درجة نكران عناصر أخرى مهمة في حياته. خاصة وأنه عاش بعيداً عن الصحراء أكثر مما عاش فيها». وسواء أكان في هذا النقد شيء من الموضوعية أم لا، فإنه يتضمن عفوياً إعلاناً غير مباشر أن الصحراء الإفريقية الكبرى حظيت أخيراً بأديبها ومؤرخها الذي لم تحظ به سابقاً. والأمر قد يكون أهم من أي تلوين آخر كان يمكن للكوني أن يلوّن به أدبه.