هل الحاجة أمُّ الاختراع، أم أنَّ الفراغ هو الأرض الخصبة للاختراعات؟ في حياتنا اليومية تصادفنا، أحياناً، الحاجة إلى التفكير في اختراعات لم تُخترع، وأحياناً أخرى يدفعنا الفراغ إلى التفكير في اختراعات لم تخطر على بال، أقل ما يقال عنها إنها أفكار مجنونة. بين الفكرة المجنونة والاختراع شعرة. ريم السبيهين وسارة عفيفي تسلطان الضوء على الشعرة التي بين الجنون والإبداع، وتستنطقان عدداً من الأشخاص حول أفكارهم المجنونة التي تراودهم لاختراعات وابتكارات غريبة.
كثيراً ما تجد من يُقزّم الفكرة ويضع أمامك العراقيل دون أن يعرف أنه قتل مشروعاً عظيماً أو فكرة ربما خدمت البشرية
إن العامل الأول لتقدم مستوى الدول هو رفع الأداء الإبداعي للفرد، وإن الفرصة لتحقيق ذلك تعتمد كلية على سنوات التنشئة الأولى
ألم تراودك ذات يوم فكرة مجنونة أو اختراع أو ابتكار أو محاولة اكتشاف متهورة؟! أم أنَّ الخوف والخجل يعصمانك عن البوح؟!
لكلٍّ منا أفكاره وهلوساته التي لا يصرِّح بها أحياناً خوفاً من أن يُتَّهم بالجنون أو الغباء، لذا تظل الفكرة في ركن قصي حتى الموت.
الفكرة في قفص الاتهام
إن طرح الفكرة، عادةً، يتطلب الثقة والإيمان بها، فماذا لو كانت هذه الفكرة غريبة وغير مطروقة؟ عندها ستحتاج إلى الكثير من الجرأة والصمود في وجه من ينفيها، لذا كان العظماء وأصحاب الأفكار الخلاقة والاكتشافات العجائبية عرضة للانتقاد والاتهام بالجنون أو الكفر، أحياناً، من قبل محيطهم.
عندما بدأ سيدنا نوح، عليه السلام، بصنع سفينته، وصمَه مجتمعه بالعته والجنون. وعندما قال غاليليو إن الأرض تدور، قامت الدنيا من حوله ولم تقعد، واتهمته الكنيسة بالكفر، وحكمت عليه بالموت ما لم يعد عن فكرته حول الأرض ودورانها. ولم تكن ردة فعل المحيط الاجتماعي حول الأخوين رايت مختلفة عن ذلك عندما قاما بتجاربهما في الطيران. كذلك عندما تحدَّث توماس أديسون مخترع المصباح الكهربائي عن فكرته. كما أن مكتشف الموجات الكهرومغناطيسية غوليلمو ماركوني اُقتيد إلى مستشفى الأمراض العقلية بعد أن تحدَّث عن نتائج أبحاثه.
على المبدع أن يعرف الأسباب التي تدفع المجتمع لقمع فكرته في منشئها، وذلك ليكون قادراً على الاستمرار في ظل غياب الدعم المعنوي، كما يجب عليه أن يتبنى ثقافة الاختراع والابتكار التي تتجلى في التخطيط السليم، والدراسة المتأنية، والعمل الجاد في ظل الإمكانات المتوافرة والمتابعة المستمرة.
لماذا يرفض المجتمع الفكرة الأولى؟
يرجع بعض الباحثين هذا السلوك السلبي إلى الميل الفطري في البشر لمقاومة كل ما يشكِّل تهديداً لحياتهم ويدفعهم للخروج من منطقة المألوف. إن الشخص الذي يبحث عن التغيير من دون أن يكون مأمون العواقب، حتماً سيواجه نقداً شديداً لا يهدأ حتى يشعر من حوله بالأمان والثقة. كل ما على صاحب الأفكار هو السير قدماً في طريقه وعدم تحميل من حوله عبء المسؤولية تجاه ما يفعل، بل ينتظر بصبر أن تتحدث نتائج أفكاره عنه.
أغرب الأفكار
كثيرة هي الأفكار الغريبة والمبتكرة التي طرحها الناس الأكثر جرأة أمام أصدقائهم أو معلميهم، وبدلاً من التشجيع أو حتى اللامبالاة وعدم إظهار الدعم، تجد هناك من يُقزِّم الفكرة ويضع أمامك العراقيل من دون أن يعرف أنه قد يقتل مشروعاً عظيماً أو فكرة ربما ستخدم البشرية. ولعل فريدريك سميث عندما طرح فكرته حول البريد السريع بدعم لوجستي أمام أستاذه في الجامعة في منتصف الستينيات الميلادية كان واحداً من أولئك الذين يملكون أفكاراً مذهلة وغير اعتيادية. لكن أستاذه ردَّ عليه بأن هذه الفكرة غير قابلة للتطبيق. كان هذا في منتصف الستينيات، لكن في عام 1971م أسس فريديرك شركة فيدكس التي عُدَّت من أكبر شركات الشحن والنقل.
وبما أنَّ كثيراً من الناس تراودهم أفكار جريئة وغريبة، توجهنا إلى عدد من الأشخاص في مراحل عمرية مختلفة بالسؤال المُلِح عن أغرب الأفكار التي راودتهم.
أبو خلدون.. هكذا أراد أن يكون اسمه، يقول: كنت أفكر في عملية الولادة، لماذا لا تتم بالطرد المركزي للجنين من رحم الأم، وذلك لتسهيل الولادة بأن يخف الضغط عن الأم؟
ربما تبدو الفكرة لأول وهلة مجنونة، ولكن فكرة أبي خلدون ليست بجديدة، فقد طرقت في الخمسينيات الميلادية من قبل زوجين أمريكيين، لكنهما أُتهما بالجنون والقسوة. كما أن هذه الفكرة نهضت من سباتها، وطُرحت مرة أخرى في الستينيات الميلادية، وأرفقت معها الخطوط والرسومات التوضيحية، وأخذت صاحبة الفكرة براءة اختراع عليها، لكنها لم تطبق إلى الآن.
أريج عبدالله.. ترددت كثيراً قبل أن تصرّح لنا بفكرتها المجنونة تقول: هي ليست مجنونة تماماً لكنها غريبة. أفكر دوماً في سعر متر الأرض، وتصميم المدن. لماذا يكون سعر الأرض أفقياً فقط، لماذا لا يكون عمودياً أيضاً؟ مثلاً أشتري مساحة صغيرة من الأرض بينما أشتري مساحة أكبر من السماء. وتكون امتدادات مبناي كما أريد، يكون ضيقاً من الأسفل ومترامي الأطراف من الأعلى، بينما جاري يكون العكس. لماذا البيوت مربعة أو مستطيلة أو دائرية؟! بحيث تكون المنازل أشبه بقطع البازل.
أعرف أن العملية معقدة هندسياً، لكنَّ هناك أناساً سيحتاجون إلى السكن في الطابق الخمسين لكنهم لا يريدون الطوابق التسعة والأربعين السفلى. لا تقولوا لي بناية وأدوار متعددة، بل فكرتي تعتمد على أن لكل مالك مبناه المستقل.
ربما كانت فكرة أريج تدور حول العمارة المستقبلية من دون أن تدري. وما تفكر فيه يحتاج إلى ثورة هندسية جارفة، بحيث تصبح المنازل ذات تفاصيل يصعب حلها، بحيث تكون مرتبطة وغير مرتبطة. لم ننتقد الفكرة لكنها بالتأكيد تحتاج إلى تطوير.
أما محمد، وهو شاب صغير على عتبات المراهقة، تحدَّث عن فكرته الغريبة بقوله: لماذا لا توجد مطاعم لشاورما لحم الضب، ويضاف لها الفقع وبعض الحشائش الربيعية التي تؤكل، وتزين أكشاك شاورما الضب بأنواع وأحجام محنطة من هذا الزاحف. وتكون هذه الوجبة موسمية ولها مهرجان، يقام في أمكان تجمعها.
إن فكرة محمد عن مهرجان الضب الذي يبدو للكثيرين مقززاً ومخيفاً، فكرة طريفة جداً، خصوصاً أن بعض الدول لها مهرجانات حول ما تنتجه مثل إسبانيا ومهرجان الطماطم، وجنوب أفريقيا ورحلات السفاري التي يتناول فيها المقتنصون وجبة من لحم التماسيح.
أما عبدالعزيز.. مليء بالأفكار الغريبة، ومهتم بالتجميل وبالأعشاب. سرد لنا أكثر من فكرة، فيها ما هو غير صالح للنشر. عن إحدى أفكاره يقول: لماذا لا نقوم بصناعة قوالب للوجوه من السيليكون، وكل يحفظ قالب وجهه للطوارئ، فلو، لا قدر الله، تعرَّض لحريق أو تشوه بفعل ماء نار أو من حرب أو مشادة سيسهل بالتأكيد أن نعيد الملامح.
لقد كانت فكرة عبدالعزيز تشاؤمية، ولكن لمَ لا، مثلما هناك بنك للخلايا الجذعية، فلماذا لا تكون هناك قوالب للوجوه؟! المشكلة ليست في القالب، المشكلة في كيفية بناء ما يملأ القالب.
ياسمين.. تقول: تأثرت كثيراً بفيلم تيتانيك عندما غرقت السفينة، لذا فكرت في سفينة من أجزاء، كل جزء فيها يستطيع أن ينقذ نفسه من الغرق، وتكون من اللدائن وليس من الحديد. بحيث يسهل أن تطوف وتتحول إلى قوارب نجاة.
لقد كانت الفكرة رائعة، لكن حتى من كانوا في قوارب النجاة لم يسلموا من الموت في عرض المحيط القاسي. ولكن ربما مع التقنية تكون هذه القوارب آمنة أكثر من القوارب العادية.
كثيرون من الذين استنطقناهم حلموا بالسيارة التي تطير، والأكل خالي السعرات تماماً، والجسم الرياضي من دون أدنى مجهود! والوجوه الجميلة في غضون ساعات، والسفر إلى كواكب أخرى للسياحة. وتمنينا لو جمعناهم معاً في جلسة عصف ذهني لأحدث الابتكارات، حتماً، ستتفتق أذهانهم عن أشياء مذهلة.
لماذا نقتل السؤال عند أطفالنا؟
يقول علماء النفس في تحليل سيكولوجية تفكير الجمهور: لماذا لا يصفق معظم الناس إلا بعد أن يبدأ أحدهم بالتصفيق ثم يتبعه تلقائياً الجميع ؟ ذلك أن طبيعة الإنسان أن ينتظر من يسبقه ويطمئنه أن الفعل آمن فيتشجع ، فقليلٌ من يتحمل عبء المبادرة الأولى وكثيرٌ من يتبع بعد ذلك. هذا هو ما يحصل حين لا يجد الطفل في بيئة المنزل أو المدرسة من يشجعه على السؤال، بل ويعرف الطفل اللحوح ببطء الفهم وعرقلة سير الحصة الدراسية. وإن وجد الطفل من يتقبل أفكاره بتشعبها واتساعها، فإن المناهج التعليمية آثرت طريقة التلقين والحفظ على التفكير الإبداعي. تشير دراسات قام بحصرها الدكتور طارق السويدان إلى أن متوسط نسبة الإبداع في عمر خمس سنوات تصل إلى %90 بينما تنخفض إلى %10 في عمر سبع سنوات، أي حينما يلتحق الطفل بالمدرسة ويلتزم بقواعد صارمة للكلام والحركة.
إن إتاحة الفرصة للطفل أن ينطلق بتفكيره كفيلة لجديرة بإطلاق ملكاته الإبداعية في الكبر التي تعود بفائدة على المجتمع. في دراسة قام بها العالمان جيلفورد وتورانس في أواسط التسعينيات تستنتج أن العامل الأول لتقدم مستوى الدول هو رفع الأداء الإبداعي للفرد، وأن الفرصة لتحقيق ذلك تعتمد كلية على سنوات التنشئة الأولى.
دور الآباء في تعزيز الثقة
إن للآباء والمعلمين القدرة على منح الثقة الكافية لأطفالهم ليكونوا من العظماء والقادة، ولنا في التاريخ مثل وعبر. رفع عبدالمطلب جد رسول الله من قدر حفيده وكان له دور في صقل شخصيته العظيمة حين نظر إلى زعماء قريش قائلاً: «إن ابني هذا سيكون له شأن». على هذا النهج سار الحبيب المصطفى؛ فحفيده الحسن سمعه يقول عنه « إن ابني هذا سيد، وإن الله يصلح به فئتين عظيمتين». وظهر أثر هذه الكلمات في دور الحسن في فتنة الخلافة بين علي رضي الله عنه ومعاوية. ومن همسته بأذن طفل «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» ظهر ابن عباس حبر الأمة وفقيه زمانه. إن إيمان معلمة أمريكية تدعى آن سوليفان بطفلة عمياء أهدى للعالم الكاتبة والناشطة الأمريكية هيلين كيلير.
مضادات لتقوية المناعة
لا تغيب مؤلفات الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويللو عن رفوف المكتبات. خلف هذا الصيت تقف نفس صلبة الإرادة. استطاع كويللو أن يتجاهل محاولات والديه المتكررة لإيقافه عن ولعه في الكتابة إلى حد أنهم اعتقدوا أنه مصاب بالجنون فأدخلوه المصحة النفسية ثلاث مرات! لم ير باولو أيّاً من العوائق سبباً لتخليه عن حلمه، فقد كان يراه نجاحه رأي العين.
تتوالى الكتب والمقولات والحكم لتقوي مناعة المبدع والمخترع تجاه سيل النقد والإحباط الذي يواجهه سواء من عائلته، أو من أصدقائه أو من مجتمعه بلده أو حتى من داخل نفسه. إن كل من حققوا إنجازاً يمتازون ببعض الصفات المشتركة مثل:الجرأة، وسعة الخيال، وطول النفس، والإيمان التام بأن كل من يقف ضد فكرته فسيسانده حين يراها على أرض الواقع.
من هذا الإيمان عرف العالم الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي الذي كان يقول لأصدقائه: «سأكبر لأصبح أشهر فنان في إيطاليا وسأخالط طبقة الأمراء والنبلاء بأعمالي».