في دراسة أجراها كل من جاري سمول وسوزان بوكهايمر الباحثان بجامعة كاليفورنيا الأمريكية، تم قياس نشاط المخ أثناء قيام مجموعتين من المتطوعين بعملية بحث عادية على شبكة الإنترنت. تكونت المجموعة الأولى من أشخاص ممن ليست لهم خبرة باستخدام الإنترنت، وهي المجموعة التي استغرق العثور على أفرادها الكثير من الجهد بالطبع. أما المجموعة الثانية فتكونت من أشخاص متمرسين على استخدامها، ومطابقين لأفراد المجموعة الأولى في العمر ومستوى التعليم. وقد كلف الباحثان المتطوعين بإجراء عمليات بحث عن معلومات محددة ودقيقة تخص مجموعة متنوعة من الموضوعات، بدءاً من الفوائد الصحية لتناول الشوكولاتة، وانتهاءً بالتخطيط لرحلة إلى جزر المحيط الهادي.
أظهرت المجموعتان نمطين مختلفين من النشاط في الخلايا العصبية، عندما قام أفرادهما بإجراء عمليات البحث تلك. فقد كانت القياسات الأولية لمجموعة المتمرسين تظهر نشاطاً واضحاً في منطقة محددة من الجانب الأمامي الأيسر للمخ، بينما لم تظهر قياسات المجموعة الأخرى وجود أي نشاط فيها.
وبعد القياسات الأولية، كلف الباحثان أفراد المجموعتين بالقيام بتصفح الإنترنت لمدة ساعة يومياً على مدى خمسة أيام. وبعد ذلك تكررت عملية القياس، لتظهر نشاط هذه المنطقة من المخ لدى أفراد المجموعتين. أي أن خمسة أيام فقط من التعرض لهذه التكنولوجيا والتعامل معها كانت قادرة على إحداث تغيير في طريقة نشاط المخ البشري، وهو ما حدث لدى المجموعة التي لم يكن لها في السابق خبرة مع الإنترنت. وبالنسبة لمجموعة المتمرسين فقد جاءت نتيجة القياسات الثانية مطابقة لنتيجة القياسات الأولية، مما يوضح أن هذا التنشيط يحدث خلال الفترة الأولى للتعامل مع تكنولوجيا الإنترنت، ثم يحافظ على مستواه ثابتاً بعد ذلك. وتُعد هذه المنطقة من المخ مسؤولة عن قدرتنا على اتخاذ القرارات والتعامل مع المعلومات المعقَّدة. كما أنها تتحكم في قدرتنا على الدمج بين المشاعر والأفكار. وكذلك فإن لها دوراً كبيراً في عمل الذاكرة قصيرة المدى، وهي الذاكرة التي نعتمد عليها كثيراً أثناء التجول بين صفحات الإنترنت.
وإذا كانت هذه هي المشاهدات التي استطاعت الأجهزة أن تسجلها، فإن خبراتنا الحياتية مع التكنولوجيا تعطينا آلاف الدلائل على الطريقة التي تتغير بها طبيعة عمل المخ البشرى كلما تعرض لجرعات أكبر وأكبر من هذه التكنولوجيا. فطوال الوقت الذي نقضيه في التعامل معها، تكون عقولنا منغمسة في حالة من «الانتباه الجزئي المستمر»، وهو المصطلح الذي أطلقته خبيرة البرمجيات الأمريكية ليندا ستون على تلك الحالة التي نكون فيها متابعين لأشياء كثيرة من دون أن نعطي انتباهاً أو تركيزاً حقيقياً لأي شيء. هذه الحالة من الانتباه، تمثل عبئاً كبيراً على المخ، فيستجيب لها بتحفيز الجسم لإطلاق هرمونات التوتر (الكورتيزول والأدرينالين). هذه المواد تزيد من طاقة الجسم وحدة الذاكرة على المدى القصير. لكنها على المدى الأبعد، قد تكون ذات تأثير شديد الإيذاء. فتسبب الشعور بالإجهاد، وبتدني الطاقة. كما أنها تقوم بإعاقة عملية التعلم، وتؤثر على سير التيارات العصبية في مناطق المخ المسؤولة عن الحالة النفسية، مسببة الشعور بالتوتر والكآبة والعزلة.
إن الساعات التي نقضيها في مدننا الرقمية الخاصة، تعيد تشكيل الطريقة التي يعمل بها المخ، وتؤسس لمسارات وشبكات عصبية لم تكن موجودة من قبل. وبقدر ما يتمدد المخ في قدرته ليسع هذه الخبرات الجديدة، بقدر ما هو معرض ليفقد ما تعلمه من قبل ولم يعد يمارسه الآن. يقول العلماء إن مهارات التواصل البشري المباشر وجهاً لوجه من أولى المهارات المعرضة «للانقراض» وسط الاعتماد الهائل على برامج المحادثات، والرسائل النصية، والتطبيقات الاجتماعية على الإنترنت. ولذلك ينصحنا العلماء بالتوازن وبالرفق في تعاملنا مع المخ .. هذا العضو شديد المرونة، وشديد الحساسية أيضاً.