قول في مقال

القصة الهزلية
احتفاء بالتراث أم سخرية منه

الاقتباس والإبداع مفهومان أدبيان طالما اعتبرهما الكثيرون متناقضين. ولكن ماذا عن تجربة تضمنت من الاقتباس ما جعل المؤلف يضيف إلى اسمه اسم المؤلف المقتبس منه على الغلاف، ومن الإبداع ما يجعل عمله الجديد مختلفاً تماماً؟
أشرف فقيه لا يتوقف عند عرض هذه التجربة التي تبدو في طريقها لأن تؤسس لمذهب روائي جديد في الغرب، بل ينطلق منها لاستشراف قابلية الرواية العربية لمثل هذا التطور.

على غلاف الرواية الصادرة في أبريل 2009م والتي حملت عنوان «كبرياء وإجحاف.. ومسوخ» يطالعك اسما المؤلِّفين: سيث غراهام سميث وجين أوستن، والأمر ليس فيه تشابه أسماء، فجين أوستن هي بعينها الكاتبة الإنجليزية الشهيرة التي توفيت عام 1817م. ما يفسِّر الفصاحة المتكلفة واللغة القديمة التي كُتبت بها الرواية، ويفسِّر أيضاً الجو الفيكتوري الرومانسي الذي يغلِّف أحداثها.. لكنه لا يفسِّر -أبداً- وجود أشباح ووحوش في الرواية!

والحاصل أن المؤلِّف الأول -غراهام سميث- قد «اقتبس» روح الرواية الأصلية الشهيرة جداً: «كبرياء وإجحاف» الصادرة عام 1813م، مستغلاً ثلاثة أرباع مادتها، لـ «يضيف» إليها، مطعِّماً إياها بعنصر جديد تماماً وخارج عن الحبكة الأصلية؛ عنصر قادم من عوالم قصص الخرافة والرعب، أعلن عنه حتى في عنوان الرواية الجديدة لتصبح: «كبرياء وإجحاف.. ومسوخ»، وهي توليفة مدهشة حقاً وجديرة بأكثر أنواع القرَّاء إقداماً ومغامرة.

ونحن هنا لسنا في صدد مناقشة الجودة الفنية لهذه التجربة الروائية، ولا الاستقبال الذي تلقته من قبل قرَّاء الإنجليزية ونقَّادها.. وإن كنا سنمر على ذلك كله؛ لكن ما سنتوقف عنده هاهنا هو كنه التجربة نفسها.

فأعمال جين أوستن هي من أعمدة الأدب الإنجليزي الكلاسيكي. ويقال إن الأديبة التي لا تقل عنها شهرة وعظمة، فيرجينيا وولف، صرَّحت مرة بأن جين أوستن هي :أتمّ المبدعات كمالاً». وبالتالي فإن لنا أن نتصور هالة من الحصانة أو القدسية تحوط كتابات أوستن والحال كذلك.. مثلها مثل أعمال شيكسبير وشيلي وديكينز وغيرهم من عتاولة الأدب الإنجليزي. كيف يتفق إذ اً أن يأتي كاتب شاب في بدايات القرن الحادي والعشرين و«يعبث» بإحدى أيقونات التراث هكذا تحت ذريعة «الاقتباس»؟ وبمباركة دار نشر تجارية تعمل على تسويق «فعلته» هذه حول العالم؟ وأي نوع من الاقتباس؟ إن غراهام سميث لم يقم بإسقاط أحداث رواية أوستن وشخوصها على الزمن المعاصر مثلاً.. ولم يناقش أفكار المؤلفة وهمومها التي صورتها قبل مائتي سنة على ضوء هموم مواطن القرن الحادي والعشرين.

ثمة نوع من الاقتباسات أو «إعادة المعالجة» شائع ومنتشر عبر أكثر من تجربة أدبية وسينمائية. لكن اقتباس غراهام-سميث كان عبر «اختراع» بُعد آخر للرواية. وأي بعد؟ بُعد عوالم الرعب الأسطورية الشاطحة في الخيالات: أشباح ومسوخ وكائنات مرعبة تنتشر في الطرقات وتبث الهلع في الناس! وفي النسخة الجديدة من الرواية؛ فإن عالم جين أوستن الرومانسي والمثالي صار حافلاً بتلك الكائنات البشعة. السادة الإنجليز الغارقون في التهذيب، والآنسات الرقيقات الحالمات بالزواج والمشغولات حتى ذاك بالتطريز والرقص في ثياب (الدانتيلا) من طراز القرن الثامن عشر.. هؤلاء كلهم صار لزاماً عليهم الآن أن يتقنوا فنون القتال الآسيوية، واستخدام الأسلحة البيضاء وبنادق البارود اللازمة لقصف رؤوس تلك المسوخ.. كطريقة أكيدة ووحيدة للقضاء عليها.. ومن دون أن يخلّ أي من ذلك بسمت التهذيب والرقي اللصيق بذلك العالم! ألا يُعد ذلك تشويهاً للعمل الأصلي..واستهزاءً كاريكاتورياً بالنص وبالحقبة التاريخية أيضاً؟

هل نجرِّبها عربياً؟!
في الواقع، إن المتابع العربي، سواء أكان ناقداً محترفاً أو قارئاً عادياً، قد يجد نفسه مدفوعاً إلى اعتبار عمل كهذا بمثابة «السفاهة» الأدبية أو التجديف الإبداعي! وهذا الرأي هو وليد عوامل شتى، بعضها وليد النفسية العربية، والآخر خلقته ظروف البيئة الإبداعية.

فالنفسية العربية المعاصرة مجبولة على التطرف بخصوص الماضي والموروث: فإما التمجيد المطلق، وإما الرفض التام. ويمكن تعميم ذلك على التراث الإبداعي. هنالك طبعاً مغامرات تطويرية في مجال الموسيقى وفي الشعر أيضاً. لكن فيما يختص بالكتابة الحرَّة، فإن هناك (تابوهات) أكثر صلابة. وحتى لو تواجدت النية للمغامرة الإبداعية، فإن محاذير المشهد الثقافي تضع ألف حاجز وحاجز أمامها. فحيِّز الحرام الأدبي.. الذي تُعرِّفه وتحرس حماه أكثر من جهة.. هو عصيّ على الاختراق. ولو «تجرأ» أحد وتناول عملاً أدبياً قديماً بالاقتباس أو بالتحوير على النحو المذكور أعلاه، فإنه ببساطة سيقيم القيامة على نفسه، وسيجلب عليها تهماً أيسرها متعلِّق بـ«السرقة» أو الاعتياش على أمجاد من سبقوه! ناهيك عن أنه ليس هناك اعتراف صريح وجاد بالأجناس الأدبية من قبيل الخيال العلمي وأدب الرعب والمغامرة عربياً، وليست هناك رعاية ولا تسويق على المستويين المؤسساتي والرسمي لهذا النوع من الإبداع.

هذا التصور يضعنا مباشرة في مواجهة المعضل الثقافي الذي نناقشه هنا.. وهو (معضل التجديد). فالتجربة الروائية العربية على وجه التحديد غارقة إلى حد بعيد في مآزق الركاكة والتكرارية. صحيح أن هناك أسماء عربية شاهقة في مجال الرواية.. إلى حد يدفع البعض إلى الزعم بأن الرواية قد صارت هي ديوان العرب الجديد! لكن هذه الجودة في المجمل تظل شحيحة على المستويين الكمي والكيلي. فكم رواية تصدر سنوياً في العالم العربي؟ وكم نسبة الممتاز منها؟ وإضافة لكل ما سبق.. فإن تخيل نظير لهذه التجربة عندنا سوف يكشف لنا عن معضل آخر: فإذا تصورنا -مجاز اً- أن كاتباً عربياً معاصراً وطليعياً سيكرِّر مغامرة غراهام-سميث، لكن مع واحدة من أهم كلاسيكيات الرواية العربية، فأي عنوان سيختار؟!

لوهلة، تبدو المكتبة العربية حافلة بالعناوين الباذخة. كما وأن جذور الرواية العربية ترجع لأواخر القرن التاسع عشر مع أعمال جورجي زيدان ومحمد حسين هيكل. لكن بعد الوهلة الأولى.. فإننا سنكتشف أن تجربتنا الروائية بأسرها هي لا تزال في طور التشكّل. وللتدليل على هذا الرأي، تعالوا نستعرض أسماء جهابذة الروائيين العرب بدءاً من المنفلوطي. هناك أيضاً إحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس. هناك أيضاً حنا مينة والطاهر بن جلون وأمين معلوف. من دون أن ننسى جمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم وإدوار الخراط وإبراهيم أصلان والطيب الصالح وعبدالرحمن منيف وبهاء طاهر. المشهد العربي حافل على ما يبدو بالقامات الروائية. لكن أي منها يخدم الغرض الذي نناقشه هنا؟

بداية لنتذكر أننا نبحث عن عمل «كلاسيكي» يجسِّد قيم اللغة والمرحلة الماضية. هذا عمل لابد أن يكون قديماً وأصيلاً. بالتالي فنحن سنستثني من القائمة أعلاه كل الذين يُترجِمون أو تُترجم أعمالهم للعربية! سنستثني أيضاً الأعمال المعاصرة التي نُشرت خلال الخمسين عاماً الأخيرة بدعوى أنها لم تتغلغل في الوعي الجمعي وتتحول لـ«تراث قديم» بعد. ثم سنأتي بثالثة الأثافي.. ونستثني الأعمال الفكرية اللاخيالية. بمعنى أن كُتَّاباً مثل عباس محمود العقاد أو طه حسين ليس لهم مكان في قائمتنا ولا مشروعنا! هل تكفي هذه الشروط للحكم على الفكرة بأنها «غير جادة».. وربما «فاشلة»؟!

العقدة في منشار «واقع السوق»
نحن هكذا نعود إلى المربع الأول إذاً! فهل تظل أعمال نجيب محفوظ بمثابة بيضة القبان في الأدب العربي؟ أم إننا بحاجة للرجوع إلى أغاني الأصفهاني وقصص ألف ليلة الغارقة في الخرافية أصلاً لنباشر تجربتنا؟ هناك أيضاً اقتراح مفاده أن نقوم بتبني عمل أجنبي ما.. أن نترجمه ثم نحوِّره بما يتناسب وتجربتنا الما بعد الحداثية هذه!

طبعاً يظل القول بأن محاولة تكرار التجربة الأجنبية هو ضرب من التقليد غير المبرر.. وأن المقارنة بين الأدبين هي مقارنة مجحفة.. يظل هذا القول معتبراً وقائماً. ويظل السؤال مع ذلك مطروحاً: لماذا هي مقارنة مجحفة بحق الأدب العربي؟

الجواب قد تحمله عبارة واحدة: «واقع السوق». فسوق الكتاب الإنجليزي مثلاً، في أمريكا والمملكة المتحدة وسواهما، هو سوق هائل وموّار. ليس بالنظر للعمق الاستهلاكي الذي يمثله مئات الملايين من القرَّاء. ولكن لأن هناك «سوقاً» في الأساس.. بكل مقوماته من عرض وطلب وتنافسية ودعاية وتسويق وربحية. وإذا كان سوق الكتاب العربي يتسع في السنوات الأخيرة بفضل معارض الكتاب والانفتاح الذي جاءت به الإنترنت، فإن اقتصاد الكتاب في الغرب -في أمريكا تحديداً- تقف وراءه صناعات رأسمالية متكاملة؛ حسبُنا أن نذكر منها صناعة الترفيه. الكتاب في ثمة منظومة هو أساس وامتداد لمنتج حقيقي يشكِّل شخصيات الناس وأنماط معيشتهم وتفكيرهم، وليس مجرد مادة نخبوية للخاصة، بل إن هناك قطاعات متعددة لسوقه، من دون أن يخل ذلك بمعايير الجودة ولا الاحترافية في إنتاج وتسويق كل قطاع.

بالرجوع لمثال روايتنا، فإنها خلال أسبوع واحد على صدورها، حلَّت بالمركز الثالث في قائمة «نيويورك تايمز» لأفضل الكتب مبيعاً واستُقبلت بحفاوة بالغة. بل إنها وبالرغم من هزليتها قد أنعشت سوق كلاسيكيات الأدب الإنجليزي. وعلى وقع هذا النجاح الهائل عهدت دار النشر للكاتب نفسه بتأليف رواية أخرى مقتبسة من أعمال جين أوستن صدرت في سبتمبر من نفس السنة بعنوان «الحسّ والحساسية ووحوش البحر» حقَّقت نجاحاً مماثلاً، مع ترشيح أعمال أخرى لتولستوي وديستويفسكي وإيميلي برونتي للاقتباس على ذات النمط. كما تسري في أروقة الإنتاج السينمائي أقاويل عن احتمال ظهور فِلم مبني على الرواية الهزلية الأولى!

نحن إذاً في مواجهة (صناعة) إبداعية متكاملة. ولعل الحديث عن تجربة أدبية عربية مماثلة هو سابق لأوانه بالنظر للمعوقات الاقتصادية والفنية سالفة الذكر. لكن التجريب لن يضر أحداً.

هنالك على كلٍ، جزئية مهمة لا يسع أحداً أن يجادل بشأنها: ألا وهي وجود قطاعات غير تقليدية من المتلقين العرب، عندها استعداد وقابلية للتعاطي مع ثمة تجارب وتنتظر من «يخدمها». الكرة هي في ملعب الناشر وملعب المؤسسة الإبداعية.. وهي كذلك منذ عهد المنفلوطي وجورجي زيدان!

أضف تعليق

التعليقات