حياتنا اليوم

الصوت ونحن
الحضور الدائم بين الإزعاج والإمتاع

  • 60a-(cafe)
  • 60b-(motorcycle)
  • 56-(composite-pic)
  • 57-(signs)
  • 58-(calm)

نكاد لا ننتبه إلى وجود الصوت في حياتنا إلا عندما يصدر بشكل مفاجئ عن جهة ما، أو عندما يعلو أو يستمر إلى درجة مزعجة، ولهذا، يتم عادة تناول الصوت كقضية بيئية تحت عنوان «التلوث الصوتي».. ولكن ماذا عن الحضور الدائم للصوت في حياتنا؟ ماذا عن آلاف الأصوات الخافتة في معظمها، التي لا تغيب عنا، وتشكِّل جزءاً أساسياً من وعينا للعالم المحيط بنا ومن هويته أيضاً؟ حليمة سليمان ومحمد مصطفى العمري، يضعان جانباً قضية التلوث الصوتي، ويكتفيان من الجانب العلمي في دراسة الصوت بما يكفي لتقديم القراءة الثقافية الآتية لعلاقتنا به، هذه العلاقة المتلوِّنة حباً ونفوراً، إفادة وإيذاءً، استمتاعاً به وانزعاجاً منه.
تماماً كما هو الأوكسجين في الهواء من حولنا، حاضر دائماً وشرط أساسي من شروط الحياة، فإن الصوت حاضر دائماً في الهواء نفسه وشرطاً من شروط الحياة كما نعرفها.

وحتى عندما نكون في أكثر اللحظات سكوناً، يكفي أن نسترق السمع جيداً لنسمع صوتاً ما، سواء أكنا نياماً في بيوتنا المعزولة بإحكام عن الخارج، حيث يصر محرك الثلاجة على أن يهمس بما يؤنسنا في سكون الليل إذا لم يتولَّ ذلك الجيران الساكنون في الدور الأعلى، أم كنا في البراري حيث يمكن لحفيف النسيم على الأذن أن يصدر صوتاً، إذا غاب صوت الحيوان أو عواء ذئب من بعيد.

يمكن تقسيم عالم الأصوات وفق عشرات الاعتبارات والمقاييس. فهناك الأصوات الصادرة عن الطبيعة مثل حفيف الأشجار أو الرمال بفعل النسيم، والعواصف، وزقزقة العصافير وخرير الماء، وتكسر الموج… وهناك الأصوات الصادرة عن الإنسان مباشرة، وإن كان الكلام هو أهمها، فإنها تشمل أيضاً وقع خطواته وحركته وتحريكه للأشياء من حوله وسعاله وما لا يُعد ولا يُحصى ما بين صرخته الأولى عند الولادة وشخيره خلال النوم.

وهناك أيضاً الأصوات الصادرة، غير المباشرة، عن الإنسان من خلال ما أنتجه من صناعات ومصنوعات لجعل الحياة أكثر رفاهية في تطوره الحضاري المستمر، بدءاً بساعة اليد الميكانيكية التي نخلعها من معاصمنا ليلاً «كي لا تُتكتك على مسامعنا عند النوم» وصولاً إلى الطائرات وهدير محركاتها، وما بينهما السيارة الناطقة بلسانين: لسان البوق ولسان المحرك، والهاتف، والتلفزيون وآلة التسجيل (لحفظ الصوت).. إضافة إلى المصانع اللازمة لإنتاج هذه الأشياء، وعوداً إلى البدء… إلى المناجم التي تُستخرج منها المواد الخام لهذه الصناعات. بعبارة أخرى، إن كوكبنا الأرضي عالم لا يعرف الصمت، وسكونه هنا أو هناك، هو نسبي فقط، وكأن السكون المطلق هو نظري، يطلق اسمه على الحالة التي تكون فيها الأصوات منخفضة ليس أكثر.

موقفنا العام من الصوت
يتراوح التأثير الذي يتركه الصوت على نفس الإنسان ما بين الاستمتاع حتى النشوة ببعضها مثل الموسيقى، واستلطاف بعضها مثل خرير الماء في الجداول، والإحساس بالضغط مثل صوت الآلات الرتيب في المصانع، والذعر لصوت قوي مفاجئ مثل دوي انفجار أو صوت ارتطام.

غير أن ردة الفعل الأكثر شيوعاً عند الإنسان على الأصوات المحيطة به هي اللامبالاة. نعم اللامبالاة تجاه آلاف وآلاف الأصوات من حوله، التي لا تخاطبه مباشرة في شيء، فتلتقطها أذنه ولا يسمعها. ففي المكاتب على سبيل المثال، تلتقط أذننا صوت مكيف الهواء، ولكنها لا تحسب حسابه في شيء، لأنه مألوف، ولأنه هناك بشكل طبيعي ومتواصل. أما صوت الطابعة، فلا نسمعه من الغرفة المجاورة، إلا إذا كنا نحن قد أصدرنا الأمر بالطبع، فنصغي ونسمع صوتها وكأنه يهمس «سمعاً وطاعة».

التفسير العلمي.. جزئي
منذ أن تم استنباط الديسيبال في ثلاثينيات القرن الماضي، كوحدة لقياس شدة الأصوات، طالعتنا قياسات معظم الأصوات التي يمكنها أن تطرب مسامعنا أو تصمها.

ففي نطاق الأصوات الطبيعية لا يتجاوز صوت حفيف الأشجار بفعل الرياح 10 ديسيبال، أما صوت الرعد فيتراوح عادة ما بين 90 و100 ديسيبال، ويمكنه أن يصل إلى 120 ديسيبال.

وفي نطاق الأصوات الصناعية، تبلغ شدة الصوت على بعد خمسين متراً من محطة لتوليد الطاقة الكهروحرارية 86 ديسيبال، وعلى بعد خمسة وعشرين متراً 93 ديسيبال، وعلى بعد 26 متراً من مصانع المباني الجاهزة 96 ديسيبال.

وفي مجال النقل والمواصلات، يصدر عن السيارة أو الدرَّاجة النارية حوالي 90 ديسيبال، وعن الطائرة خلال إقلاعها ما بين 100 و160 ديسيبال، والجرار الزراعي 98 ديسيبال، ومحطة قطارات تحتوي على أكثر من خط ما بين 100 و160 ديسيبال. وفي مجال الأسلحة يصدر عن المدفع القريب ما بين 100 و160 ديسيبال، وعن انطلاق صاروخ 200 ديسيبال، وعن انفجار قنبلة قريبة نحو 200 ديسيبال.

أما الأصوات الاجتماعية المألوفة أكثر مما تقدَّم، فتتضمَّن النوادي والمقاهي والمطاعم ومناسبات الأفراح، واستخدام مكبرات الصوت في الحفلات وماشابه ذلك، التي تصدر عنها أصوات يتراوح متوسط شدتها ما بين 60 و90 ديسيبال. وفي حين أن صوت الموسيقى المنبعث من آلة تسجيل يبلغ 70 ديسيبال، فإن هذا الرقم يرتفع في صوت آلة البيانو إلى 78 ديسيبال، وفي حفلات موسيقى الروك آند الرول «الصاخبة» إلى 125 ديسيبال. ولا ننسى الأجهزة الكهربائية المنزلية حيث تبلغ شدَّة صوت المكنسة الكهربائية 70 ديسيبال، والخلاط المنزلي 93 ديسيبل.

وانطلاقاً من هذه القياسات العلمية الباردة لشدة الصوت، وبعد إضافة مقدمة لا تتعدى السطر أو السطرين حول تقسيم الأصوات بين ما هو مرغوب أو مقبول من جهة، وغير مرغوب من جهة ثانية، والتعريف بهذا الأخير على أنه «الضجيج»، تقول الدراسات الكثيرة (الملخصة بشكل جيد على موقع الموسوعة الإلكترونية «ويكيبيديا»)، إنه على المستوى النفسي والذهني يؤثر مستوى «الضجيج» (دون 60 ديسيبال) على المدى الطويل في قشرة المخ، ويتسبب بشعور من عدم الارتياح الداخلي المرتبط في حجمه بعمر الإنسان ووضعه الصحي وطول فترة تعرضه للضجيج. كما أن الصوت القوي المفاجئ هو أخطر على الصعيد النفسي من الضجيج المتواصل. أما الصوت المرتفع فمصدر قلق وخوف لأنه يرتبط في اللاوعي الإنساني بالتهديد، سواءً أكان صادراً عن مخاطبة رئيس لمرؤوسيه، أم عن حيوان مفترس.

وعلى مستوى التأثيرات العصبية والوعائية، يؤدي الضجيج إلى اضطراب في التوازن، وإلى ازدياد ضربات القلب وتصلب الشرايين التاجية نتيجة القلق والتوتر، وعسر الهضم في المعدة، وإلى زيادة ملحوظة في إفراز الأدرينالين إلى الدم مع كل ما يمكن أن يؤدي ذلك من متاعب على صحة القلب.

وعلى مستوى السمع، فعندما تتجاوز شدة الصوت 120 ديسيبال لبعض الوقت، تصاب الأذن «بنمنمة» تتطلب لاحقاً سكوناً لبعض الوقت كي تسترد عافيتها، وإذا تجاوزت شدَّة الصوت 140 ديسيبال، فهو يولِّد ألماً في الأذن وضعفاً فورياً ولكنه مؤقت. أما إذا تجاوز 160 ديسيبال فإنه يؤدي فوراً إلى تلف دائم في الأذن.

ويمكن لدراسة ذيول ما بات يعرف بالتلوث الصوتي أن تجمع مئات الشواهد على آثاره السلبية ما بين أثر الضجيج الصناعي على المباني وانخفاض نسبة إنتاج الحليب في الأبقار التي تعيش في مزارع قريبة من المطارات.

ولكن كل هذه الحسابات الفيزيائية والفيزيولوجية هي، على صحتها، أبسط من أن تعبِّر عن العلاقة المعتمدة بين الإنسان والصوت. خاصة وأنه، كما أشرنا سابقاً، تُعرِّف الضجيج على أنه، ليس الصوت العالي فقط، بل الصوت العالي غير المرغوب فيه. وهنا بيت القصيد. فما هو الصوت الذي نرغب فيه، وذاك الذي ننفر منه؟

الحسن والمنفِّر بين المزاج والبيئة
كتب ابن عبدربه يقول عن لسان أطباء زمان: «إن الصوت الحسن يسري في الجسم ويجري في العروق، فيصفو له الدم ويرتاح له القلب وتهش له النفس، وتفز له الجوارح». ولكن ماهو الصوت الحسن؟

لو انطلقنا من مَثَلٍ نعرفه جميعاً ألا وهو الصوت البشري، لوجدنا أن أصوات حفنة من الناس حظيت باعتراف واسع نسبياً بأنها حسنة حتى أن بعضها تمكَّن من احتراف الغناء.. وفي المقابل هناك أناس يفتقر صوتهم إلى الحسن بحيث أنهم إذا حاولوا الغناء يُضحكون سخرية منهم أكثر مما يُطربون. ومع العلم أن التمييز بين الاثنين هو غالباً واقع على المسامع، إلا أن العلم عجز عن استنباط وسائل قياس أو أدوات اختبار دقيقة تجعل التمييز ممكناً بين الصوت الإنساني الحسن والآخر القبيح. فالمسالة إذاً هي في جانب منها مزاجية مرتبطة بعوامل قياس نفسية، وليس بأدوات قياس علمية.

ويتأكد حضور الدور الذي يلعبه المزاج في اختلاف مواقف الناس من الأصوات الواحدة، فصوت الرعد مثلاً الذي يطرب له البعض، قد يثير قلق آخرين، الأمر نفسه ينطبق على صوت الرياح، وبعض ألوان الموسيقى المعاصرة التي يرغب المراهقون سماعها بأعلى صوت ممكن، لا تختلف في سلبية وقعها على آذان من هم أكبر سناً من سلبية ضجيج الأدوات الصناعية أو أبواق السيارات.

وإضافة إلى المزاج، هناك عامل البيئة التي يصدر فيها صوت معيَّن، سواءً أكان منخفضاً أم مرتفعاً. فلو أخذنا صوت الدراجة النارية القوي جداً حتى في شارع مزدحم بالسيارات، لوجدنا أنه مصدر إزعاج وضيق للمشاة على الأرصفة، أو للجالسين في مقهى مجاور يتبادلون أطراف الحديث. ولكن الصوت نفسه يفقد كل سلبياته ويصبح، على حلبة سباق الدراجات، مصدر إثارة وتشويق لدى صفوف المتفرجين. فحُسن الصوت وسوئه مرتبطان إذن بالبيئة التي يصدر فيها. وكما أن أصوات المفرقعات والانفجار يمكنها أن تتسبب بالهلع والذعر في بلد مضطرب أمنياً، فإن الأصوات نفسها (وإن كانت شدَّتها أقل بعدد محدود جداً من الديسيبال) هي مصدر فرح للأولاد في الألعاب النارية.

خطاب الصوت أولاً
إن كل ما تقدَّم حتى الآن تناول الصوت بحد ذاته، وليس الكلام المعبِّر عن خطاب واضح يستمد مضمونه وأثره من محتواه بغض النظر عن كونه مرتفعاً أو منخفضاً، لأنه من الممكن نقل تهديد بالقتل همساً، كما يمكن إعلان المودة أو الاستحسان صراخاً.. وسنبقى في إطار الصوت نفسه، ولكن آن الأوان في سياق تفسير علاقة الإنسان بأصوات بيئته اليومية، لأن نشير إلى أن لكل صوت خطاباً ضمنياً، قد يكون مباشراً وواضحاً وقد يكون غامضاً ولكنه يؤدي وظيفته بوضوح.

فصوت الدرَّاجة النارية القوي في الشارع، يشكِّل اعتداءً على حديث شخصين جالسين في المقهى، لأنه يجعل استماع أحدهما لحديث الآخر أمراً صعباً. كما أنه من خلال لفت نظر المتنزه وحيداً في الجوار، وبشكل قسري إلى مرور الدرَّاجة النارية بجواره، يكون قد قطع عليه حبل أفكاره التي كانت تشغل ذهنه، أو بعبارة أخرى، شد اهتمام هذا الذهن من مكان إلى آخر. ولكن لصوت الدرَّاجة النارية على حلبة السباق خطاباً مختلفاً، إذ يصبح في هذه الحالة معبراً عن الجهد الفائق والمنافسة والطموح إلى الفوز والحضور الذي لا يقطع أي حديث ولا يشتت أي ذهن لأنه مرتقب.

ولو أخذنا مثلاً ثانياً وهو شخص يزور أصدقاء له يسكنون قرب أحد المطارات، لوجدناه يسأل مضيفيه عند مرور أول طائرة من فوقه عن مدى انزعاجهم من حركة الطيران المجاورة، ولكان جواب مضيفيه على الأرجح أنهم ألفوه ولم يعودوا يكترثون له. ولكن لو كان هذا الزائر من المقيمين في قرية صغيرة بعيداً عن المدن وطائراتها، لأدهشه (وأمتعه) صوت الطائرة، لأن خطابه في هذه الحال هو عن التطور والمدنية والسفر إلى أماكن بعيدة وما إلى ذلك.

واحتواء الصوت على خطاب ضمني هو وحده ما يفسِّر تعدد المواقف منه وتنوعها بين الاستحسان والانزعاج.

فالصوت المزعج هو الذي يتداخل مع صوت ذي خطاب نصغي إليه. فصوت الخلاَّط في المطبخ لا يثير عند من يستخدمه ردة الفعل السلبية التي يثيرها عند شخص منهمك في سماع خطاب آخر عبر الهاتف، أو من خلال التلفزيون أو محادثة مع شخص آخر. وفي هذا الإطار، لا فرق بين نوعية صوت وآخر. ألا يحصل أحياناً ويطلب أحدهم من الآخر أن يخرس صوت الراديو أو التلفزيون رغم عذوبة ما يبثه من ألحان، لأنه يعكر حواراً صاخباً وعنيفاً أو مشاجرة كلامية؟

إن «الضوضاء» التي يشكو منها الكثيرون، ليست عملياً وليدة الأصوات القوية التي قد تصل بالمقاييس العلمية إلى إلحاق الأذى النفسي والجسدي بالإنسان، بل هي في تداخل أصوات ذات خطابات مختلفة ترهق الذهن الساعي إلى سماع واحد منها فقط. فالمُرهق في المصانع، ليس فقط هدير الآلات والمحركات، بل الاضطرار أحياناً إلى الكلام صراخاً لإسماع الصوت إلى الطرف الآخر.

والقضية التي تثيرها المدن الحديثة ليست في شدَّة الأصوات التي تصدر فيها، مُقاسة بالديسيبال، بقدر ما هي تعدد مصادر الأصوات المختلفة في الوقت الواحد والمكان الواحد، من البيت حيث يختلط الحديث ما بين أفراد الأسرة بصوت التلفزيون والمكنسة الكهربائية، والسيارات العابرة في الشارع، وبعض ما يصدر عن بيوت الجيران.. إلى الساحات العامة حيث أبواق السيارات ومحركاتها وضجيج المارة وورش البناء وصفارات الإسعاف والإطفاء والشرطة وأحياناً الطائرات أو القطارات.. كل ذلك يستفز الإنسان، ليس فقط بقوته الصوتية، بل لعجزه عن الاستماع لكل خطاب على حدة، فيتحول مجمل هذه الأصوات إلى صوت ضخم واحد لا معنى له، ولا أثر إلا الأثر السلبي نفسياً وفيزيولوجياً.

المسألة الثقافية
واحتواء الصوت على خطاب لا يفسِّر فقط تقبل الإنسان له أو نفوره منه، بل يحمل المسألة من مستوى المزاج، لينتقل بها إلى بعدها الثقافي.

فخطاب الصوت الواحد ليس دائماً واحداً. ولو أخذنا عواء الذئاب مثلاً، لوجدنا علم الحيوان يفسِّره لنا على أنه قد يكون بحثاً عن شريك للتزاوج، أو نداءً لباقي الذئاب. ولكن المزارع الذي يربي الدواجن يرى في هذا العواء تهديداً مثيراً للقلق، أو إنذاراً بوجود عدو في الجوار، في حين أن الشاعر يمكنه أن يُحمِّله ألف معنى رومانسي يأنس إليه.. فالقيمة الحقيقية للصوت والتي تجعله مستحسناً أو منفراً ترتبط أيضاً بالخلفية الثقافية عند المستمع. وهل هناك غير الخلفية الثقافية ما يجعل ابن القرية الصغيرة يفرح لدى سماعه صوت الطائرة، والمراهق يتحمس لصوت الدرَّاجة النارية، ومتذوق الغناء يطرب لصوت منشد أكثر من صوت منشد آخر…؟

وإن كان من الممكن، على المستوى الاجتماعي، أن تعالج مسألة الضوضاء و«التلوث الصوتي» بالحؤول دون تداخل الأصوات حتى أقصى حد ممكن، أو عندما يكون ذلك ممكناً، فلا تشغِّل ربة المنزل المكنسة الكهربائية عندما يكون زوجها يشاهد التلفزيون (ويستمع إليه) على سبيل المثال. فمما لا شك فيه أن عالمنا المعاصر يزيد من مصادر الأصوات من حولنا، ويخفي بعضها الآخر مثل أصوات الطبيعة التي تبتعد مصادرها عنا يوماً بعد يوم. ولكن هذا لا يبرر أبداً التحفظ والسلبية الشديدة التي يواجه بها عادة كل صوت مرتفع، أو كل صوت صادر عن نشاط من صنع الإنسان. ومن السذاجة (حتى حدود الخطأ) تقسيم الأصوات من حولنا إلى فئتين واحدة مرغوبة وأخرى منفِّرة.

فلكي نحاكم الصوت يجب أن نسمعه جيداً لكي ندرك عمق خطابه وتوقيته وموضعه.. والسماع الجيد، شئنا أم أبينا، لا يمكنه أن يكون على أساس ثقافي.. هذا الأساس الذي جعل الكثيرين يحبون ضوضاء المدن ويرونها على أنها من علامات الحياة ووعيهم لها، رغم أن الكثيرين يكتفون بذم هذه الضوضاء وهم في مكاتبهم الساكنة.

كلُّ هذا الضجيج الجميل
تقول كلمات أغنية للأمريكي المخضرم نيل دايموند ظهرت عام 1976م وحظيت بشهرة عالمية، بعنوان «الضوضاء الجميلة»:

«يا لها من ضوضاء جميلة
تعلو في الشارع
تطوي صوتاً جميلاً
تحمل إيقاعاً جميلاً

إنها ضوضاء جميلة
تعمّ الأماكن كلّها
كصوت طقطقة عجلات القطار
فوق خط السكة الحديدية
إيقاعُها يظلّ يتلكّأ

هي ضوضاء جميلة
وهو صوت أعشقه
حيث يناسبني
كما تنزلق اليد في القفاز
نعم إنه كذلك، هو كذلك..

يا لها من ضوضاء جميلة
تعلو من المتنزه
إنها أغنية هؤلاء الأطفال
تظل تعزف حتى المساء
…..
…..
يا لها من ضوضاء جميلة
تتسرب إلى غرفتي
وهي تتوسّل إلي
فقط كي أدوْزنها

يحتفي دايموند بالضجيج اليومي المديني بوصفه صنيعةَ الحياة، بصفته الحياتية التي لا بد منها كتجربة غير مفصومة عن تآلفنا مع الوجود، وانغمارنا فيه كشرط وجودنا. يا لها من ضوضاء جميلة تلك التي تجعل الإحساسَ، إحساسَنا، يضيء. يا لها من ضوضاء عذبة تخبركَ أن اليومَ مرشّحٌ لأن يتكوّن، وأن الحياةَ آخذةٌ في التشكّل المتوقع، ذلك أن الحياةَ هي مجموعُ التوقعات والتماثلات والتشابهات والتواترات والتكرار المنطقي وقدر محتمل من المفاجآت والشذوذ المحمود عن السرب وقدر أقل من اللامنطقية.

يعلو الصوت في هذه الأغنية، معبِّراً عن ضوضائه الآسرة بتفاصيلها المشغولة في العادي وذلك بالتوافق مع علوّ وتيرة ضوضاء الشارع أو انهمار إيحاءاتها، محتفلاً بمزيج الأصوات المصوغة من غبطة وفرح، وصياح وصراخ وصخب وزعيق، وكلّ نوتات الضجيج، مشكلةً في مجموعها سيمفونية هي «موسيقى الحياة»، تتسرّب إلى غرفته، تستجديه كي يدوزنها ويضبط إيقاعها كفنّان، الضوضاء الجميلة هي فنّه.

يشبِّه دايموند ضوضاءه المبعثرة في الأماكن بصوت طقطقة عجلات القطار على السكة الحديدية، وهو صوت قد يصحّ أن نترجمه إلى ذاك الصوت العالق في الطفولة من القطار البعيد، قاهر السِّكك الحديد القديمة، الشاقّ بلدات أوطاننا الغابرة في الذاكرة، تشكتشكتشكتشكتشكتشكتشكتشكتشكتشكتشك، فلا تبحّ حنجرته القوية، وتظلّ طافية في أصايل الطرقات، مندسّاً في صرّة الذكريات المطويّة في أدراج القلب. فإذا ما اشتعل الصوت ثانية، ولعْلَعتْ ضوضاء قطار قادم في الجوار، قفز القلب منطلقاً فوق سكّة المشاعر، مطلقاً «تشكتشكته» التي توقظ حكايا منوّمة وأصواتاً مؤرشفة لم تفقد ضجيجها الحي في وجداننا.

إنما نحن كائنات «مغزولون» بالضجيج! الحياة تبدأ بالصوت، فنعلن عن بدء دخولنا الوجود بصرخة، بضوضاء متمنّاة، تكون توقيع بدْء النَّفَس الأول، النبض الأول، والزمن الأول في الحياة. علينا أن نصرخ كي نحيا، فإذا تأخر الصراخ أو تعطّل -لسبب أو لآخر- تعطّلت الحياة. طيلة طريق العمر السائر، تظلّ الضوضاء، ضوضاء الضحك وضوضاء البكاء، تعبيرنا الأبهى، إلى أن نتعلّم أن نلجمها أو نقنّنها، نخفّفها من عنفها وعنفوانها.

إن الضوضاء حياة، وهي تتبع حياتنا ظلاً ومعنى، تطوّقها سماءً، ترقّطها نجوماً، تلبسها هواءً، تعصف بها ريحاً، تغسلها مطراً. إذ تُشْكَل الضوضاءُ بالمعنى التاريخي والسياقي الذي يحفّزه صوت بعينه في قلوبنا الواقفة على أعتاب الذكريات.

نفرح بالضجيج وقد نأسى بسبب الضجيج أيضاً، لا لأنه يبهجنا ويؤلمنا بالمفهوم الـ«ديسبلي»، وإنما لأنه يبهجنا ويؤلمنا، وقد يكسرنا، بالمفهوم «الشجني» على اعتبار الشجن وحدة قياس تأسّي العاطفة وتشظّي الروح، كما التئامها. فزعيق طائرة عالق بالسحاب الواطئة يمزق الجوّ كما يمزق القلب إذ يقترن بالرحيل والفراق القسري، تماماً كما أن هذا الزعيق – إذ يقترب – يناغش مواطن القلب التي تتشوّف عودة غالية ومشوقة. والأغنية الصاخبة التي تستدر دمعة هاجعة في صفحة أخيرة من حكاية، أو قد ترسم ابتسامة في عيون تلهث في صفحات حكاية غير مستكملة، قد تكون هي نفسها التي تُحدث توقيعاً بارداً مزعجاً على الأذن، يصحّ معه أن نسد أسماعنا عن «ديسبيلاتها» الموجعة.

هي ضوضاء جميلة تلك التي تنثرها عربات نقل أسطوانات الغاز في بلداتنا الصابرة على تواري أسباب المدنيّة الحديثة، تشحط العربات خلفها نفيراً متواصلاً، يقضّ سكينة الهواء المستلقي على أعطاف الشرفات الخاملة؛ هو إزعاج جميلٌ، ولا شك، ذاك الذي يجتمع فيه صراخ باعة الخضار في الشارع مع السيارات المُتدافشة النزقة وضرب المطارق على صفائح النحاس وعزف الأزميل على منحوتة جدارية وأزيز المنشار الكهربائي على لوح خشب وبحّة آلة لحْم الحديد وهدير ماكينة الخياطة الرشيقة في محال السوق المتجاورة؛ هو ضجيج حميم ذاك الذي يفوح في تضاعيف المطابع القديمة يصم الآذان، ومعها رائحة ورق جديد، يزكم الأنوف؛ هو صراخ دافئ لصبية يكبرون على الحلم تارة والواقع تارة أخرى في الحي الغاص بشبابيك مفتوحة على الحياة؛ هي ضوضاء جميلة.. جميلة؛ ذلك أن الحياة تحيا بصوت عالٍ بكل طرقها وطرائقها.

بين صوت وصوت ثمة فرق. هذه ضوضاء وتلك ضوضاء مختلفة تماماً، يا له من فرق!

إن الضوضاء بتجليّاتها تنكُش حكايا مسترخية في الأرواح النشطة والبليدة على حدّ سواء، تحفر في الألفة حتى لا تعود تحضر في حضورها، لكنها تحضر جداً في حال غيابها. عندما تتجشأ النهارات ضوضاء محركات السيارة «النعسانة»، فتطمس أصوات العصافير اليقظة إلى حين نعرف أن الحياة بدأت، حتى وإن لم تؤُلْ إلى الحياة التي نريد تماماً. إذ تتوقف مسجّلة المقهى المجاور بالصوت المنهك العابر للأزمان آخر المساء نعرف أن الحياة إلى أفول.. إلى حين.

الأفول صمت، والصمت أفول، ونحن إنما نخشى الصمت، ونخشى أكثر صوت الصمت» كما حذر منه ثنائيا الغناء الأشهر في ستينيات القرن الماضي بول سايمون وآرت غارفنكل. ففي أغنيتهما الأيقونية «صوت الصمت» Sound of Silence – التي عرفت الشهرة في العام 1966م واعتبرت من أبرز علامات الإنجاز البشري الإبداعي في القرن العشرين – يسير صوتا سايمون وغارفنكل كالحفيف المرتاب على إيقاع مؤثر، متوجسيْن من الصمت المطبق في العالم؛ واللحن مع الكلمات من البلاغة بحيث يستحيل الصمت هنا إلى صوت، وإذ يتنامى في الشعور – كناية عن غياب التواصل البشري وانحسار ضوضاء المشاعر – فإن صوت الصمت يبلع الوجود. ولا يفيد أن تحذر الأغنية البشر «الحمقى» من الصمت الذي ينمو كورم سرطاني، فكلمات سايمون وغارفنكل تسقطان على الأسماع «المغلقة» كحبات مطر صامتة، فيتردد صداها في آبار الصمت، في تشبيه بلاغي يحيل الصمت – بحق – إلى ضجيج مرعب!

إن الحياةَ ما هي إلا ضوضاء، بنبض مُستقى منها، بنبض يفدُ إليها… إن الحياةَ تخشى الصمت، لأن الصمت صنو النهايات ورديف الموت… إن الحياة ضجيج، وضجيج، ومزيد من الضجيج. يا لكل هذا الضجيج الجميل.

أضف تعليق

التعليقات