عُرف الدكتور غازي القصيبي وزيراً وسفيراً ناجحاً وشاعراً مبدعاً وكاتباً ومحاوراً ومتمرساً.. ولكن ماذا عن غازي الناقد؟
في كتابيه قصائد أعجبتني و بيت يتناول القصيبي بعض كنوز الشعر العربي التي راقت له أكثر من غيرها. ويعلق عليها في محاولة لإرجاع الشعر إلى طبيعته تعبيراً عفوياً عن تجارب النفس البشرية، وتحريره من أغلال النقد التي كثيراً ما تغتال أجمل ما فيه.
خالد آل حمدء اختار لنا عينات من الأبيات التي أعجبت القصيبي وألحق كلاً منها بقراءة الشاعر الكبير لها.
هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا
من قبله.. فتمنى فُسحة الأجلِ!
(الطغرائي)
تجربة إنسانية مؤلمة أن يتمنى المرء أن
يطول بقاؤه، وتتحقق الأمنية ويموت أصحابه
ورفاقه، ويبقى وحيداً وتعود أمنيته القديمة
وبالاً عليه. عندما يتحدث بيت شعر عن
تجربة إنسانية يحس بها الناس في كل مكان،
يرويه الناس في كل مكان وهذا شأن هذا البيت الرائع.
فيا للناس! كيف غلبتُ نفسي
على شيء.. ويكرهه ضميري؟!
(عروة بن الورد)
يقول الرئيس الأمريكي نيكسون في مذكراته إنه كلما اتخذ قراراً يختلف عن القرار الذي تمليه طبيعته ندم على هذا القرار! وهذه التجربة هي ما يتحدث عنها عروة بن الورد في اضطراره إلى القبول بشيء يرفضه ضميره. وهي تجربة قد تمر بالناس أجمعين؛ فتكون النتيجة الحتمية حينئذ هي الندم، وتجد نفسك -بعد فوات الأوان- تردد مع عروة بيته المأساوي هذا!
مات لم يدرُج.. ولم يلعب.. ولم
يشهد الدنيا.. ولم يعرف أباه!
(عباس العقاد)
يتحدث العقاد عن الحب الذي وُئِد في المهد -وهذا ليس فتحاً عقادياً جديداً- لكن الجميل هو هذه التفاصيل التي ذهب الحب/الطفل دون أن يعرفها: لم يُقدَّرله أن يحبو، أو أن يلعب، ولم يستمتع بمرأى الدنيا حوله! وقوله لم يعرف أباه هذه ثلاث كلمات تحمل الكثير من المعاني؛ إذا استطعت -عزيزي القارئ- أن تصل إلى ثلاثة منها فاعلم أنك متذوق جيد للشعر!
وكنتُ وإياها سحابةَ مُمحلٍ
رجاها فلما جاوزته استهلّتِ
(كُثيّر)
يا للموقف! لا تكمن المأساة في رفض السحابة أن تقف عند الظامئ الذي يموت! بل المأساة الحقيقية في أن السحابة قرّرتْ بعد أن تركتْ الظامئ لقدره المحتوم، أن تعطي ما تملك لمن لا يستحق. تُرى ماذا فعلت الحبيبة ليجيء هذا البيت الدامي؟ عند مَنْ توقفتْ بعد أن هجرتْ شاعرنا؟ وماذا أعطتْ هذا الذي توقفتْ عنده؟ الجواب في بطن السحابة!
ويا ليت أن الله إذْ لم ألاقها
قضى بين كل اثنين ألا تلاقيا
(حفص العليمي)
ليس للقارئ أن يبحث عند الشعراء عن المُثل العليا والمبادئ السامية؛ فهذه توجد لدى الأنبياء والصديقين والصالحين، ولا توجد عند الذين يقولون مالا يفعلون . أليس من حق شاعرنا العليمي أن نهنئه على صراحته التي تضمنها بيته الدامع هذا؟ أليس من حقه أن نقول له: إننا جميعاً شعرنا خلال مواقف مختلفة بشعوره ولكننا جبنّا عن التعبير عنه؟! الشعر يا قوم ليس فلسفة إنسانية ولكنه تجربة إنسانية ، لا تنسوا هذا وأنتم تقرؤونه وتحاكمونه!
وكنتِ جميلةً.. كالأرض
كالأطـفال.. كالفُـلِّ
(محمود درويش)
عهدنا الحبيبة عبر شعرنا العربي كله، جميلةً كالقمر أو كالمهاة، أو كالوردة؛ فكيف أصبحت هنا جميلةً كالأرض وكالأطفال؟ سيقول القائل: إن الشاعر لم يقصد بالأرض سوى فلسطين وهي في نظرة قمة الجمال، ولم يعنِ بالأطفال سوى أطفال فلسطين، وهم في عينيه ذروة الحسن. إلا أن شاعرنا ظل عربياً محملاً بتراثه فتراجع بسرعة البرق خشية أن تنزعج الحبيبة فشبهها بالفل! يا للأسى يبدو أن قدر المرأة العربية حتى في الشعر الثوري أن تظل قمراً أو مهاةً أو فُلّة!
وصحتُ: يا فتنتي! ما تفعلين هنا؟
البردُ يؤذيك..عودي..لن أعود أنا!
(عمر أبو ريشة)
كان الشاعر في جبال الهمالايا حيث قابل أميرةً حسناء تسكن الجبال مع قبيلتها هناك! فانفجر حب متبادل بينهما من أول نظرة، إلا أن الشاعر اضطر في منتصف الليل إلى الفرار، كان يمشي مسرعاً على الثلوج عندما سمع صوتاً وراءه؛ فالتفت وفوجئ بالأميرة تطارده! فما كان منه إلا أن وقف وصاح بها البرد يؤذيك.. عودي لن أعود أنا وعادت الأميرة الحسناء كسيرة الجناح دامعة العينين. لا أعتقد أن الشاعر كان يكذب، أعتقد أنه كان يتمتع بخيال وثّاب واسع يستطيع أن يحوّل الحبة قبة أعظم من قبة تاج محل.. أبهى.
فلا يزال المرء في فُسـحةٍ
من عقـله.. ما لم يقل شـعرا
(مجهول)
يجيء البيت الذي نحن بصدده بمثابة النشاز الذي يصك الآذان ويجرح المشاعر، آذان سادتي الشعراء ومشاعرهم فمنزلة الشعر ومكانة الشعراء ونرجسيتهم معروفة منذ امرئ القيس إلى الآن. ولا يكتفي القائل المجهول بالتقليل من شأن الشعر ولكنه يصف ناظميه بالجنون! لا عجب إذا ظل صاحب هذا البيت الفلتة مجهولاً، ومن حسن حظه أنه ظل مجهولاً وإلا لداهمته في ليلة ليلاء كتيبة من الشعراء مدججة بالألسنة القاتلة والأقلام المسمومة، وتعاملت معه كما تتعامل إسرائيل مع أطفال فلسطين وشيوخها ونسائها!
يا عبقرياً في شـناعته
ولدتك أمك وهي معتذرة!
(إبراهيم ناجي)
لابد إن الكيل قد طفح بناجي (الشاعر الرقيق) حين قال هذا البيت في هجاء أحد الثقلاء، وجاء الهجاء ككل هجاءٍ راقٍ في شكل رسم كاريكاتيري لاذع موجع. المهجو ليس دميماً فحسب؛ ولكنه عبقري الدمامة، الأم التي ترى في وليدها أجمل طفل في الدنيا حتى لو كان قرداً، تخلتْ في حالة صاحبنا عن غريزة الأمومة لتلد هذا الطفل البشع وهي تعتذر عما تسببه بشاعته للدنيا من ألم! لاشك أن مهنة ناجي (الطب) كانت ذات أثر ملموس في هذه الصورة العجيبة؛ فاتقوا غضبة الحليم، وأضيف وغضبة الشاعر الرقيق! .
وأجمل القصائد
ربما كانت القصيدة التي رثى بها مالك ابن الريب نفسه (وهو أحد الصعاليك الفاتكين روبن هود عربي ) ربما كانت أعظم القصائد في شعرنا العربي كله قديمه وحديثه، وخشية أن تروع هذه الجملة أحداً أود أن أسارع فأضيف أن هذا حكم شخصي بحت، ترْجَمَتُه: إن هذه أقرب قصيدة في شعرنا العربي إلى قلبي، وللناس فيما يعشقون مذاهب!
هذه القصيدة فيلمٌ سينمائي متكامل، فيه كل ما في الأفلام من كاميرا تلاحق وتصور كل شيء، ومن مشاهد تنكشف فسيحة مبسوطة أمام الكاميرا، ومن مخرج يتابع أدق التفاصيل، ومن ألوان وأنوار وظلال، ومن قدرة على الحركة السريعة.
تبدأ القصيدة/الفيلم بدايةً أخّاذة بلقطات من الماضي (شجر الغضا) في تكرار جميل يسقيك الأسى جرعة بعد جرعة:
ألا ليت شـعري هل أبيـتنَّ ليلةً
بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركبُ عرضَه
وليت الغضا مـاشى الركاب لياليا
لو كان في أهل الغضا لودنا الغضا
مـزارُ ولكن الغضـا ليس دانيـا
هذه القصيدة رائعة عظيمة لا للغتها، ولا للفكر العبقري وراءها، ولا لصورها المبتكرة؛ ولكن لأنها تصور بروعة وأمانة ودقة موقفاً حقيقياً لإنسانٍ حقيقي يوشك أن يدخل أبواب أعنف التجارب البشرية: الموت!