طاقة واقتصاد

“السيارة صديقة البيئة” ..
أيها حقيقة وأيها وهم؟

  • 28a
  • 29a
  • 29b
  • 22a
  • 22b
  • 23a
  • 25a
  • 25b
  • 27a
  • 27b
  • 27c

تنامى الحديث في السنوات الأخيرة عن السيارة صديقة البيئة بتنامي الوعي لخطورة الاحتباس الحراري. ففي العالم نحو بليون سيارة تُعد مسؤولة عن ربع الانبعاثات الكربونية في الفضاء البيئي المحيط بالأرض، من خلال المحركات التقليدية التي تعمل بالاحتراق الداخلي للوقود الأحفوري.
وتَلَقَّى الحديث عن إنتاج “السيارة العتيدة” دفعاً كبيراً في الآونة الأخيرة، عندما ظهر -لأسباب اقتصادية وسياسية وليس بيئية فقط- خلال حملة الانتخابات الرئاسية في أمريكا، ضمن المشاريع المستقبلية للمرشح الفائز باراك أوباما.
عبدالله بشرى يحاول هنا سبر أغوار أهم الحلول المطروحة حالياً لمعالجة مشكلة الانبعاثات الكربونية من خلال تكنولوجيا السيارة صديقة البيئة، فيسلِّط الضوء على تاريخ الجهود التي بُذلت سابقاً في هذا المجال، ليجيب عن أسئلتنا حول ما إذا كنا سنرى هذه السيارة في شوارعنا أم لا، ومتى؟

ظهر مفهوم السيارة صديقة البيئة لأول مرة في عام 1960م، من خلال أبحاث مبتدع أجهزة الطاقة البديلة “ECD” ستانفورد أوفشنسكي، الذي ركَّز جهوده على تحويل التفاعل بين الهيدروجين والأكسجين إلى طاقة محركة نظيفة.

تقوم نظرية أوفشنسكي على أن الهيدروجين، وهو الغاز الموجود بصورة طبيعية في غلافنا الجوي، يولِّد عند اتحاده مع الأكسجين بمساعدة بطارية تولد الطاقة اللازمة لإنجاز هذا التفاعل، طاقة دافعة نظيفة ينتج عنها فقط بخار الماء الذي لا يضر إطلاقاً بالبيئة.

ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن، ظهرت الكثير من التطبيقات القديمة-الحديثة في مجال الوقود. ففي السنوات الأخيرة، صار جل الحديث الذي يتصدر كبريات الصحف العالمية عن الوقود الحيوي “iofuel” وأهميته في خفض الانبعاثات الكربونية في الجو ورخص تكلفته مقارنة بالوقود التقليدي من ناحية. ولكن الوقود الحيوي كشف عن عيب في غاية الخطورة، تمثَّل في تأثيره على احتياطيات الغذاء العالمية، وأثر ذلك على ملايين البشر الذين هم في أمسّ الحاجة إلى المواد الغذائية التي يصنع منها، مثل الذرة وقصب السكر.

وربما نشأت المعارضة الأكثر عنفاً على الوقود الحيوي بسبب ما يتوقع من آثاره السالبة على البيئة، والتي لا بد أن تقع بسبب الكم الهائل من المبيدات التي سيتم سكبها عند زرع مساحات واسعة من الأراضي لتغطية جزء ضئيل من حاجات الطاقة المستولدة من هذا النوع من المواد الحيوية، ومن ثم ما يترتب على ذلك من إزالة واسعة للغابات في حال الاحتياج لمساحات إضافية من الأراضي الزراعية. حيث إن كمية الوقود المستخرج تُعد ضئيلة مقارنة بكميات المحاصيل المستخدمة في إنتاجها. وضعت هذه العوامل عراقيل جدية أمام الوقود الحيوي كي يبشر بعهد جديد في مجال الطاقة. رغم ذلك، نجد دولاً مثل البرازيل والولايات المتحدة، قد بدأتا بالفعل في استخدام كميات هائلة من المحاصيل لإنتاج هذا النوع من الوقود وخلطه بنسب معيَّنة مع الوقود التقليدي تصلح لإدارة المحركات كأحد أنواع الوقود “الهجين”.

ومما لا شك فيه أن الانخفاض الملحوظ في أسعار النفط خلال الآونة الأخيرة، سيضاف إلى العوامل التي ستسحب البساط أكثر من تحت الوقود الحيوي، أو على الأقل، من تحت المخططين للاتجاه إلى عالم هذا النوع من الوقود.

رقص الديناصورات.. دليل حيوية أم مرض؟
إذا كان التاريخ الحديث للسيارة التي تعمل على الهيدروجين هو حوالي الخمسين عاماً، فإن تاريخ البطارية الكهربائية يعود إلى أكثر من ذلك بكثير. إذ تقول بعض المصادر إن مهندس السيارات النمساوي فردناند بورش “Ferdinand Porsche”، مصمم سيارة الفولكسفاغن الشهيرة، هو أول من طوَّر سيارة تعمل بالهيدروجين والكهرباء وذلك في عام 1899م، وإن كل التجارب التي تلت ذلك كانت على خطاه.

ظلت السيارات من هذا النوع تنتج باستمرار من قبل بعض الشركات والمصنعين المغمورين، لكنها لم تلقَ الرواج المطلوب. إذ أن أي من عمالقة صناعة السيارات لم يستثمر في هذا المشروع أبداً حتى بدايات القرن الحالي، وحتى بعدما دخلت “تويوتا” هذا المضمار بسيارة “بريوس” في عام 1990م التي تعمل بالوقود الهجين «بنزين وإيثانول». وجدير بالذكر أن الوقود الهجين (الديزل والهيدروجين)، ظل مستخدماً في الغواصات منذ اختراعها وحتى استبداله في السنوات الأخيرة بالطاقة النووية، بالرغم من أن مبدأ عمل الغواصة يعتمد على توفير الأكسجين أكثر من توفير الديزل. وربما كان أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو: لماذا تأخر إنتاج السيارة الهجين كل هذا الوقت، بالرغم من توفر تقنيتها منذ أمد بعيد؟

تنبع أهمية تجربة “تويوتا”من أنها فتحت مجال المنافسة حول تقنيات سيارة المستقبل. حيث دفعت هذه التجربة بشركتي السيارات الأمريكيتين العملاقتين “جنرال موتورز” و”فورد”، وعدد من كبريات شركات إنتاج السيارات الأخرى، إلى الدخول في مضمار السباق نحو سيارة المستقبل.

بيد أن السبب الأساسي في تأخر هذه الشركات كل هذا الوقت في تناول تطبيقات التكنولوجيا البديلة يعود إلى الموارد الضخمة التي صُبت في إطار الصناعة التقليدية للسيارات، والتي يصعب معها التحول الكامل إلى تبني التكنولوجيات الجديدة بسرعة. فالمصانع وشبكات التوزيع والخدمة والتقنيات التي أنفقت عليها مليارات الدولارات من أجل تثبيت دعائم أنماط محددة من الاستهلاك، جعلت من الصعب بمكان لهذه الشركات أن تتحول إلى تكنولوجيا المستقبل من دون الإضرار بالأرباح الكبيرة التي تجنيها سنوياً من مبيعات السيارات التقليدية. كذلك البنية التحتية للسيارات والتي صممت بالكامل لخدمة السيارة التقليدية، بدءاً بمحطات الوقود وصولاً إلى ورش الصيانة، تجعل من الصعوبة بمكان الانتقال ببساطة إلى التكنولوجيا البديلة، ناهيك عن العوامل الاقتصادية الأخرى التي تتمثل في الارتباط الوثيق ما بين النفط وهذه الصناعة.

إذن، الخوف من ضياع الأصول هو ما أخّر الاستثمار في تكنولوجيا السيارة صديقة البيئة. إضافة إلى الأموال الطائلة التي يتطلبها ذلك من أجل بنية تحتية بديلة، هو ما لا تستطيع هذه الشركات تأمينه. إنها المشكلة التي يسميها الاقتصاديون الخوف من انحسار الأصول “stranded assets”، حيث يحدث نفور كبير من عملية التغيير بسبب الخوف من ضياع الأموال التي أنفقت في الاستثمارات السابقة. ولكن، قوانين المنافسة الحالية التي تقودها تويوتا هي التي تعِد بالتحول القادم، للمنافسة التي أرغمت عليها الشركات الكبرى من خلال ارتفاع أسعار الوقود خلال الفترة الماضية، وتصاعد النبرة في أصوات المدافعين عن البيئة وما يشكله الارتفاع المزمن في غاز ثاني أكسيد الكربون من خطر على البيئة في العقود القادمة إذا استمرت ظاهرة الاحتباس الحراري أو “البيت الزجاجي” في التعاظم بمعدلاتها الحالية.

لقد أضحت هذه المنافسة بالنسبة لمنتجي السيارات في ديترويت مثل “فورد” و”جنرال موتورز” أو في اليابان، مسألة وجود أو فناء لهذه الشركات. الشركة التي تحوز على التقنية الأفضل للبيئة والأوفر للمستهلك سوف تكون في الصدارة، أما الشركة التي تبقى في المؤخرة فهي مهددة بالتلاشي.

في خبر نشرته صحيفة الاقتصادية الإلكترونية بتاريخ 16/10/2008م، جاء أن شركات السيارات الأوروبية سوف تطالب المفوضية الأوروبية، وهي الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي، بالحصول على قروض تصل إلى 40 مليار يورو من أجل صناعة سيارات صديقة للبيئة. وأعرب رئيس شركة “فيات” الإيطالية لجريدة “فاينانشيال تايمز” عن تخوفه من ضعف قدرة الشركات الأوروبية على المنافسة في صناعة سيارات تقل فيها انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، خصوصاً بعد موافقة الكونغرس الأمريكي على حصول شركات صناعة السيارات الأمريكية على قروض تبلغ قيمتها نحو 25 مليار دولار لتطوير المحركات بشكل يحافظ على البيئة، وتحاول الحكومات من خلال هذا الدعم السخي تمكين هذه الشركات من المنافسة عبر السيطرة على أفضل التكنولوجيات الممكنة. ويضيف رئيس شركة “فيات” قائلاً: “إن دعم الشركات الأمريكية سيزيد من صعوبة مهمة الشركات الأوروبية في السوق الأمريكية فضلاً عن الأعباء الاستثمارية الجديدة لشركات السيارات الأوروبية لتحقيق مطالب المفوضية الأوروبية بخفض نسب انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون في العادم”. ويجدر بالذكر أن المفوضية الأوروبية بقيادة خوسيه مانويل باروسو وضعت قانوناً يفرض غرامات على الشركات المخالفة بحلول عام 2012م في حال زادت نسب انبعاثات العادم في السيارات الأوروبية على 120 غراماً لكل كيلومتر. لكن حتى هذا القانون ما زال مثار جدل بين ألمانيا من جهة والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، مما يدل على الصعوبات التي تواجهها هذه الصناعة في أوروبا. لذا تجد الشركات الكبرى نفسها في وضع صعب ما بين مطالب البيئة وقوانين المنافسة والسوق وتكاليف التحول. فهل يعيد الدعم الحكومي توازن هذه الشركات؟

سباق من أجل المكاسب أم الأرض؟
نجاحات وفشل
يعمل نموذج “بريوس” الذي يعد أحد الحلول البيئية الناجحة في هذا الإطار، بقوة دفع من بطارية كهربائية تكفي حوالي 35 ميلاً، عند شحنها بالكامل، مع محرك احتياط يعمل على البنزين في حال فراغ البطارية، مما يتيح خفض استهلاك الوقود إلى النصف تماماً. وتنبع أهمية هذه السيارة من خلال وضعها حلاً ناجعاً لشرائح واسعة من الناس الذين لا تزيد عدد الأميال التي يقطعونها يومياً عن الرقم المذكور، مثل الموظفين وأصحاب الأعمال.

وهناك أبحاث ومشاريع جادة من كبريات الشركات العالمية لإنتاج سيارات صديقة للبيئة وإن كانت لم تصل إلى شوارعنا بعد بالصورة المطلوبة. حيث بدأ عدد من كبريات الشركات السير على خطى “تويوتا”، مثل شركة هوندا التي طرحت نموذجها “هوندا سيفيك هيبرد” الذي يستهلك غالوناً واحداً من الوقود لكل خمسين ميلاً. كذلك طرحت شركة فورد الأمريكية العملاقة سيارتها “فورد سكيب هيبرد»” وهي من طراز متعدد الاستعمالات “SUV” في عام 2004م، ثم تبعتها “تويوتا” مرة أخرى بنموذجها “هايلاندر هيبرد” من الطراز نفسه بعد عام واحد فقط. وتخطط شركة «نيسان» لطرح نموذجها من “نيسان ألتيما” في القريب العاجل.

كذلك، في مجال تطور مواد تصنيع السيارات صديقة البيئة، طرحت شركة “ستروين” الفرنسية في معرض فرانكفورت 2007م، نموذجها التجريبي لسيارة تم فيها استخدام مواد تتحلل بيولوجياً. سميت هذه السيارة “سي كاكتيس”. أيضاً طرحت شركة “سيات” الإيطالية سيارتها “بادنا أريا” والمصنوعة من مواد تتحلل بيولوجياً.

تقنية يابانية على أرض أمريكية
تجري في شوارع أمريكا حالياً حوالي ثلاثمائة ألف سيارة تعمل بالوقود الهجين، %95 منها صناعة يابانية. هذا الرواج الكبير دفع بشركة “جنرال موتورز” العملاقة إلى حلبة السباق على متن منتجها الأول الذي أطلقت عليه اسم “فولت” والتي تعمل عن طريق خلايا وقود الهيدروجين. وكانت جنرال موتورز قد طرحت نموذجها الأول “هيدروجين 4″، الذي يعمل بخلايا الهيدروجين أيضاً، في معرض فرانكفورت 2007م. ولكن هذا لم يكن كافياً لإرضاء تطلعات الشركة، فقامت بتطوير نموذج فولت إلى “فولت شيفروليه” لتجمع بين قوة الأداء وصداقة البيئة. وبقدر ما كان معرض فرانكفورت بداية لنقاش جاد عن دور الوقود الحيوي في سيارات المستقبل، طرح معرض لوس أنجلوس الذي تليه، بداية أخرى لتكشف شركة “جنرال موتورز” الأمريكية و”هوندا موتورز” اليابانية عن مدى التقدم الذي حققتاه على صعيد الإنتاج التجاري للسيارات العاملة بنظام خلايا وقود الهيدروجين.

الأبحاث والنتائج
تشير التقارير أن شركة “جنرال موتورز” دفعت أكثر من بليون دولار للأبحاث المتعلقة بخلايا الوقود خلال الأعوام الخمسة الأخيرة. ويشير هذا المبلغ إلى اتجاه الشركة العملاقة للاستثمار الجدي في سيارة المستقبل، ومحاولاتها المستميتة في الحفاظ على ريادتها.

وفي ضواحي شنغهاي الصينية المعبأة بالهواء الثقيل الملوث بعوادم الملايين من السيارات، تقبع مئات المعامل التي ينصبُّ اهتمامها على السباق نحو السيارة الأفضل للبيئة والأرخص ثمناً، سعياً إلى حل المشكلة المزمنة للتلوث الذي ضرب كبريات المدن الصينية عبر سنوات من استخدام محركات الاحتراق الداخلي. في المدينة، اتجه الناس إلى استخدام الدرَّاجات الكهربائية بعد أن أرهق التلوث هواءها، وشكل ارتفاع أسعار الوقود مشكلة حقيقية أرهقت كاهل الكثيرين. وقد وقَّعت شنغهاي أخيراً اتفاقية تعاون مشترك مع جنرال موتورز لإنتاج نماذج أولية لسيارة الهيدروجين، وللعمل مع سلطات المدينة على تطوير بنية تحتية لدعم هذه الصناعة.

وفي إطار جهود الصين البيئية، أقامت مقاطعة “هاينان” جنوبي الصين معرضاً للسيارات صديقة البيئة يهدف إلى تطوير تكنولوجيا حماية البيئة في صناعة السيارات. المعرض تشرف عليه الأكاديمية الصينية للهندسة ومجلس الصين لدعم التجارة الدولية وإدارة العلوم والتكنولوجيا، ويهدف إلى زيادة التعاون بين الصين والشركات الدولية العملاقة في إطار التكنولوجيا البديلة للسيارات. ومنذ عام 2001م وحتى اليوم أحرزت الصين تقدماً كبيراً في مجال صناعة السيارات صديقة البيئة. ومثالاً على ذلك، فازت الصين بأربع ذهبيات عام 2006م في إطار المسابقة السنوية التي تقيمها شركة “ميشلين” الفرنسية للإطارات لأفضل سيارة صديقة للبيئة. ومنذ ذلك الوقت والصين تواصل جهودها لتطوير هذه السيارة.

وفي الهند، تعمل شركة “تاتا” الهندية على إنتاج سيارة
لا يزيد ثمنها على 3000 دولار، واستهلاكها للوقود يقل ثلاث مرات عن سيدان الأمريكية الجديدة الصديقة للبيئة. وسوف يبدأ إنتاج هذه السيارة بصورة تجارية في أواخر هذا العام، مما يؤكد دخول الهند بقوة في السباق نحو المستقبل.

أما في تايلاند، فتتحول البلاد بخطى ثابتة إلى “ديترويت” السيارات صديقة البيئة من خلال تبنيها سياسة الإعفاءات الضريبية للشركات الراغبة في الاستثمار في هذا المجال، بشرط إنتاج ما لا يقل عن 100 ألف سيارة تستطيع الواحدة منها قطع 20 كيلومتراً بلتر واحد من البنزين.

اغتناماً لهذه الفرصة، تخطط شركتا “سوزوكي” و”نيسان” اليابانيتان مع «تاتا» الهندية لاستثمار مئات الملايين من الدولارات في تايلاند. حيث تخطط “سوزوكي” لإنتاج 138 ألف سيارة صديقة للبيئة سنوياً باستثمارات قدرها 316 مليون دولار أمريكي، في حين تعتزم “نيسان موتورز” إنتاج 120 ألف سيارة سنوياً من النوع نفسه بمبلغ يقارب السابق. كما وافقت تايلاند أخيراً على تقديم إعفاءات ضريبية لشركتي “ميتسوبيشي” و”تويوتا” اليابانيتين بعد منحهما إعفاءات مماثلة لشركة “هوندا” اليابانية. ويخطط الثلاثي “ميتسوبيشي”، “تويوتا” و”تاتا” لإنتاج أكثر من 300 ألف وحدة سنوياً باستثمارات تبلغ في مجملها 536 مليون دولار أمريكي. وتسعي تايلاند والتي تحتل فعلياً المرتبة الخامسة عشرة بين الدول المصدرة للسيارات، إلى أن تصبح مركزاً رئيساً لإنتاج مختلف أنواع السيارات صديقة البيئة الصغيرة والرخيصة الثمن إلى حد ما، لتغطية حاجة السوق المحلي وتصدير الفائض منها إلى الأسواق العالمية. والجدير بالذكر أن تايلاند تُعد حالياً ثاني أكبر مركز لإنتاج الشاحنات الخفيفة في العالم بعد الولايات المتحدة. فهل يتحول البلد الآسيوي الصغير إلى “ديترويت” السيارات صديقة البيئة؟

جيوبنا.. هل تتحمل؟ عقولنا.. هل تقتنع؟
إن ما تواجهه صناعة سيارات المستقبل من عقبات تتعلق بالتمويل اللازم، وتردد الشركات الكبرى لصناعة السيارات للاستثمار في هذا المجال خوفاً من فقدان استثماراتها السابقة، يرتد سلباً على أسعار المطروح منها حالياً في الأسواق، كما يسبِّب نوعاً من عدم الثقة بين المستهلك والمنتج. فالمستهلك الذي تعوَّد طوال عقود على السيارة التقليدية، من ناحية تكلفتها وتكاليف تشغيلها من صيانة ووقود وقطع غيار ومعرفته التامة بأداء كل سيارة من خلال توافر المعلومات الكافية، قد يفكِّر ألف مرة قبل الإقدام على شراء سيارة من نوع جديد، يزيد ثمنها عن السيارة التقليدية، وليس لديه أية معلومات كافية عن تكاليف تشغيلها.

ففي استطلاع للرأي أجراه فريق أبحاث في ألمانيا، تبيَّن أن %11 فقط من المشترين الجدد يفكرون بشراء سيارة هجين، تلك التي تعمل بالوقود والبطارية، فيما تتردد الغالبية عن الشراء بسبب ارتفاع السعر. إذ أعرب ثلاثة أرباع المشاركين في الاستطلاع عن استعدادهم لشراء أكثر المحركات صداقة للبيئة شرط ألا يكلِّفهم أكثر من سعر الطرازات العادية المشابهة. وقد أكد ذلك “اتحاد السيارات الألماني” في إعلانه في منتصف ديسمبر لعام 2007م أنه من غير المستغرب أن تكون مبيعات السيارات الصديقة للبيئة الموفرة للوقود منخفضة، بعد أن أثبتت نتائج اختبارات أجراها على 11 نوعاً من هذه السيارات، أن السيارات المزوَّدة بتكنولوجيا خفض استهلاك الوقود ما زالت مرتفعة الثمن للغاية، مقارنة بنظيراتها التقليدية. ويشكِّل هذا عقبة حقيقية أمام المطروح منها حالياً. وعلى سبيل المثال، فإن سيارة “فورد فوكس إيكونيتيك” تتطلب من مشتريها قطع مسافة 185 ألف كيلومتراً كي يعوِّض الفارق الإضافي في السعر الذي دفعه مقابل التكنولوجيا الموفرة للوقود. كذلك يتعين على مشتري سيارة “فلوكسفاغن بولو بلوموشن” الأغلى بـ 850 يورو من سيارة “بلو ترندلياين” العادية، أن يقطع مسافة تصل إلى 100 ألف كيلومتر قبل أن يعوض الفارق في الثمن!

الاستثناء الوحيد في هذا المجال يعود إلى سيارة “سيات أيبزا 1.4 تي دي إي” الأرخص بنحو 800 يورو عن نسخة الديزل منها. ولكن هذا الاستثناء وحده ليس كافياً، حيث تظل الشروط الأخرى للمشتري قائمة.

وهناك عدد من السيارات الأخرى التي لم يكشف عنها النقاب حتى الآن مثل “بورش كايين”، و”اكس 6” التي من المتوقع أن تنتجها شركة “بي ام دبليو” الألمانية. ولكن
لا يتوقع أن تصل إلى مرحلة الطرح التجاري قريباً بسبب ارتفاع تكلفتها مقارنة بالأنواع التقليدية من الطرز نفسها.

ومن ناحية أخرى، تظهر استطلاعات الرأي في ألمانيا ما يزيد الطين بلة، وهو أن الشركات التي تنتج السيارات صديقة البيئة، غير مستعدة لتقديم تخفيضات على أسعار السيارات صديقة البيئة التي تنتجها، وذلك ربما بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج.

فمن الواضح أنه بالرغم من الوعي البيئي الذي بدأ ينتشر في السنوات الأخيرة، ومع ارتفاع أسعار الوقود، إلا أن المشترين ما زالت تأخذهم الحيرة حيال الكم الهائل المعروض عليهم من تكنولوجيا خفض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، ويترددون في اتخاذ قرار الشراء قبل التأكد من حصولهم على أفضل العروض لسيارة تجتمع فيها الجدوى المالية مع التقنية. وهذا ما يشكِّل عقبة أخرى في وجه نجاح السيارة صديقة البيئة.

وقد ظهر هذا الارتباك لدى المشترين من خلال استطلاع أجرته مؤسسة ألمانية شمل 3600 مشتر محتمل للسيارات من أوروبا وأمريكا، حيث أظهر الاستطلاع أن الزبائن يلحون في طلب المعلومات التي تساعدهم على اتخاذ قرار الشراء عند وجودهم أمام مجموعة واسعة من التقنيات الجديدة والمربكة أحياناً. وبحسب تقرير أصدرته شركة “رنكوس” ومقرها الهند، فإن مبيعات السيارات الهجين في أوروبا بلغت نحو 39800 سيارة عام 2006م، بلغ نصيب «تويوتا» منها حوالي %90. وتتوقع رنكوس أن تتجاوز مبيعات السيارات الأوروبية الهجين الرقم 49500 سيارة عام 2012م.

فالمشكلة الحقيقية في إعراض المشترين عن شراء السيارة صديقة البيئة تتلخص في عدة أسباب أهمها ارتفاع ثمنها وعدم توافر المعلومات الكافية بشأنها وذلك مقارنة بالسيارة التقليدية. وهذا ما يزيد من خطورة الوضع بالنسبة للشركات التي تنفق أو تخطط لإنفاق أموال إضافية للاستثمار في هذا المجال. ويزيد من تأزم الوضع القوانين التي وضعتها بعض الدول والكيانات مثل قانون الاتحاد الأوروبي لانبعاثات العادم من ناحية، وتحذيرات البيئيين من ناحية أخرى من استفحال ظاهرة الاحتباس الحراري، خصوصاً إذا زادت الصين والهند، أكبر الاقتصاديات الآسيوية نمواً، من نسبة الانبعاثات الحالية المشار إليها سابقاً ببطء تبنيها للتكنولوجيات المتاحة حالياً في مجال الحفاظ على البيئة بصورة عاجلة.

وأن تكون تكنولوجيا السيارات الصديقة للبيئة قد راعت الظروف البيئية المتدهورة، فإنها لم تراعِ جيب المستهلك وعقله الذي لا يكاد يستوعب تقنية حتى تظهر تقنية أخرى أكثر جاذبية وتعقيداً. فالرابط الذي يجمع بين كل هذه التقنيات، بالرغم من ارتفاع أثمانها، هو تعقيدها وعدم ثقة المستهلك في الحصول على الخدمات الضرورية لما بعد البيع وبأسعار مناسبة كما كان يجدها بالنسبة للسيارات التقليدية. لذا تبقى السيارة صديقة البيئة بعيدة المنال حالياً على المستهلك، وسوف تقتصر على شريحة صغيرة من الناس في بعض الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة وأوروبا إلى أن يجد المصنعون طريقة ما لجعلها أكثر شعبية وقدرة على المنافسة في البلدان النامية.

فالوعي البيئي وحده قد لا يكون كافياً في هذه المرحلة للقضاء على السيارة التقليدية، بل يحتاج إلى تكنولوجيا صديقة لجيب المستهلك، وأسهل على الفهم. عندها فقط تضمن السيارة صديقة البيئة مكانتها المطلوبة في أرجاء العالم، وتصبح ذات جدوى تجارية للشركات المصنعة.

الحل يبقى أحفورياً
إن ما سقناه حتى الآن حول السيارة صديقة البيئة يسمح لنا بالتأكيد على أن أفضل ما أنجز في هذا المجال يبقى قائماً في أساسه على تخفيض استهلاك الوقود الأحفوري، بحيث تتمكن السيارة من اجتياز مسافة معينة بأقل قدر من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من عادمها. أما الحلول الهادفة إلى الاستغناء تماماً عن الوقود الأحفوري، فتبدو أنها ستبقى تراوح في مكانها متخبطة بين تكلفتها الأخلاقية بسبب انتزاعها الخبز من أفواه العالم، إضافة إلى أنها ستواجه بشكل أكثر حدة، حذر المستهلك، وغياب بنية تحتية تخدم هذه السيارة، طالما أنه لم يبدأ بتأسيسها عالمياً حتى الآن.

إلى ما تقدم، نضيف إلى أن كل ما تم إنجازه من أبحاث ودراسات مستقبلية حول هذا الشأن يعود إلى النصف الأول من العام الجاري 2008م. أما اليوم، فإن الأزمة المالية العالمية التي بدأت تتحول إلى أزمة اقتصادية عامة وشاملة مع بدايات الانكماش في أمريكا والاتحاد الأوروبي، ستعيد تصميم خطط المستقبل بشكل يصعب التكهن به منذ الآن. إذ أن الهاجس الرئيس بالنسبة لصناعة السيارات في العالم بأسره أصبح بين ليلة وضحاها “البقاء” مهما كلَّف الثمن. ومما لا شك فيه أن الجهود التي بذلت على السيارة صديقة البيئة أكدت ارتفاع تكلفة الأبحاث والإنتاج وسعر السيارة للمستهلك.. وهذا ما يشكِّل تحدياً هو اليوم أخطر على الشركات مما كان عليه قبل سنة. كما أن المستهلك الذي تردد كثيراً في اعتماد السيارات غير التقليدية لجهة استهلاكها للطاقة بسبب ارتفاع كلفتها، سيتردد اليوم أكثر فأكثر مع الأزمة الاقتصادية المحيطة به من كل الجهات.

من جهة أخرى، ليست صناعة السيارات هي الوحيدة في البحث عن حل للشأن البيئي. بل يرافقها في ذلك عمالقة إنتاج النفط في العالم الذين تنصب جهودهم على محور مختلف، ويتمثل في تحسين نوعيات الوقود الأحفوري، وأيضاً نوعيات احتراقه. وقد حققت هذه الجهود نتائج عملية بالغة الأهمية، ليس البنزين الخالي من الرصاص إلا مثالاً واحداً عنها.

ولأن التكنولوجيا الواقعية لا تزال تؤكد أن السيارة صديقة البيئة الأقرب إلينا ستبقى تعتمد جزئياً أو كلياً على الوقود الأحفوري، فإن إضافة التحسينات التي يمكن أن تدخلها شركات النفط على نوعية الوقود، مضافاً إلى تحسينات احتراقه وتخفيف استهلاكه في المحركات، هو وحده سيصوغ فعلاً السيارة صديقة البيئة التي ينتظرها الجميع.. وكل ما عدا ذلك هو إعلام سياسي.

أضف تعليق

التعليقات

عبدالله الهاشمي

شكرا كثيرا لنشر هذا المقال. عبدالله بشرى