مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر - أكتوبر | 2018

نيوم: عبقرية المكان والقرار
ذكاء الجغرافيا السعودية


بندر الحربي

موقع نيوم، حيث الجبال التي يتجاوز ارتفاع بعضها 2,500 متر، وتغطي الثلوج قمم بعضها في فصل الشتاء

تتبع إيريك واينر، مؤلِّف كتاب “جغرافيا العبقرية: البحث عن الأماكن الأكثر تحفيزاً للإبداع في العالم”، مناطق معيَّنة في العالم احتضنت في عصورٍ تاريخية مختلفة عقولاً لامعة من عباقرة ومبدعين، رفدوا العالم بمنجزاتهم العظيمة في الفنون، والفلسفة، والتقنية، والاكتشافات العلمية. ومن المثير، أن هذا الباحث بعد أن درس ستة أماكن تاريخية وآخرَ معاصراً، باحثاً عن جواب لسؤاله: لماذا ظهر من هذه الأماكن عدد وَفِير من العقول اللامعة والأفكار النيرة؟ وجد ثلاث سمات مشتركة وواضحة ميّزت هذه الحُقب الزمنية والمناطق الجغرافية التي ترعرع الإبداع في كنفها ووفرت تربة خصبة لظهور العبقرية وتجذرها. هذه السمات هي: التمازج بين الثقافات، والتنوُّع، والتميّز.

وبعد أن اتضحت للمؤلف هذه العلاقة، قارنها مع عدة نظريات أخرى تفسر ظهور العبقريـة، مثل نظرية الوراثة، ونظرية التدريب الجاد، مما دعاه إلى وصف أهمية المكان المِضْياف وترجيحه في عملية تحفيز وبَعث الإبداع بقوله: “لا شيء يقتل الإبداع مثل العزلة”.

تتميّز منطقة نيوم بقربها من أسواق التجارة العالمية ومساراتها، إذ يمر بالبحر الأحمر %10 من حركة هذه التجارة

شخصية الأماكن
وقبل عقود، اسْتَشفَّ عالم الجغرافيا المصري، جمال حمدان، قوة المكان ودوره في الحضارة الإنسانية، ووضع مجلداته الأربعة الرفيعة “شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان”، مازجاً في دراسته بين الجغرافيا، والتاريخ، والسياسة، والعلوم الطبيعية والإنسانية، وهادفاً إلى توضيح شخصية مصر الإقليمية والبشرية والزمانية، وبيان جوانب تفرّد شخصية مكانها، بما يسندها من عوامل حضارية وإنسانية وطبيعية. يقول حمدان مؤكداً على أهمية المكان: “ربما تكون الجغرافيا صماء، ولكن ما أكثر ما كان التاريخُ لسانها، ولقد قيل بحق إن التاريخ ظِل الإنسان على الأرض بمثل ما أن الجغرافيا ظِل الأرض على الزمان”. وقد وصف المفكر عبدالوهاب المسيري بحث جمال حمدان عن شخصية الأماكن بأنه عملٌ مبدع، كونه دخل عالماً جديداً في تعامله مع علم الجغرافيا (علم تباين الأرض) من خلال طرح سؤال الكيف بدلاً من سؤال الكم، والنظر إلى الجغرافيا ببُعدٍ ثنائي، عِوَضاً عن أحادية البُعد، والتعامل معها بخصوصية نِيَابَةً عن العمومية.

منطقة مشروع نيوم أكبر من مدينة نيويورك 33 مرة، فهي مكانٌ ممتد بين دول ثلاث، تشمل أراضي داخل الحدود المصرية والأردنية، على مساحة 26,500 كيلومتر مربع. كما أنها تُمثل نقطة التقاء بين القارات الثلاث؛ آسيا وإفريقيا وأوروبا، وتُمكّن %70 من سكان العالم من الوصول إليها خلال 8 ساعات

إن هذا الإبداع المرتبط بالمكان والزمان، الذي وجده إيريك واينر، نما نتيجة عوامل طبيعية جرت خلال أوقات تاريخية مختلفة، وفي أمكان جغرافية محددة، مثل: أثينا في عَهْد بريكليس، وهانغتشو الصين في عصر شين كيو، وفلورنسا في زمن ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو، وأدنبرة في وقت جون هاتون، وكلكتا أثناء حياة الشاعر طاغور، وفيينا في فترة موزارت وبيتهوفن وهايدن، ووادي السليكون في وقتنا المعاصر مع ستيف جوبز. أما زاوية الطرح تلك التي تأملها جمال حمدان، فقد وسعت الفهم لدور المكان في سياق التاريخ والزمان، وتأثيره في ثقافــة الشعوب وحضارتها.

عبقرية القرار
عندما يوصف المكان بالعبقرية فإنه يعني تحديداً تلك البقعة التي يَأتِي منها العمل الكامل المبدع. وعند الاقتراب من هذه العلاقة والنظر فوق أرض المملكة العربية السعودية الممتدة لنحو مليوني كيلومتر مربع، فإن الأنظار تحطّ على أماكـن تطّلُ منها حواضن عبقريات واعدة. وفي العام الماضي، ظهر أحد هذه الأماكن للعيان، بعد أن أعلن صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء، رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمارات العامة عن إطلاق مشروع نيوم، في ذلك المكان (العبقري) شمال غرب المملكة.

تطويع المكان للحياة أم العكس
ومن نظرة إلى المشهد الإعلامي، نجد أنَّ هذا الإعلان قد حرّك خيالات الحالمين وتساؤلاتهم، وحفّز بدء العمل في المشروع طموح المبدعين. وكما يظهر من وصف نيوم في الفقرات التالية، فإنها تقترب في طبيعتها الإبداعية من المناطق التي ذكرها إيريك واينر، إلا أن حداثة تكوينها، ومقصد أهدافها، وعزيمة قرارها، تُعد من عوامل تفردها، كونها تهدف إلى تطويع المكان لإرادة الحياة، وليست أرضُها هي من تطوع إرادة الحياة.
إنَّ فكرة تطويع المكان بهدف تهيئته لاحتضان الإبداع، ليست جديدة، وإنما الجديد هو تطبيق الفكرة. ففي عام 1889م، تقول الحكاية إن أربعة من أعظم عقول ذلك الزمن: نيكولا تيسلا، وجول فيرن، وتوماس أديسون، وغوستاف إيفل، اجتمعوا في باريس، وكوَّنوا جمعية سرية تحمل شعار “لنا الغدُ”. وتهدف هذه الجمعية إلى تعزيز رخاء الإنسانية، من خلال إيجاد أو إبداع مكان ذي بُعدٍ خاص، متطور علمياً، يجتذب ألمع العباقرة. وقد أسموا هذا المكان “أرض الغد”، التي يستطيعون فيها اختبار أفكارهم وتقنياتهم الجديدة بدون قيود أو تدخلات خارجية. وفي عام 2015م، التقطت شركة أفلام والت ديزني هذا العنوان، وطورت الفكرة لتخرج فلم “أرض الغد” وتصور هذه المدينة الفاضلة بوصفها واقعاً حقيقياً.

منبع الإبداع
منبع الإبداع في منطقة مشروع نيوم لن يفتش عنه باحثٌ في التاريخ، بل من المفترض، أو لنقل من المقرر، أن يصنعه علماء مبدعون حالمون في مجال الذكاء الاصطناعي، وتقنية النانو، والتقنية الحيوية، وغيرهم من العلماء في فروع العلم والمعرفة، كون الطبيعة الإبداعية متأصلة في الفطرة الإنسانية، وتزدهر باحتضانها في المكان والزمان المناسبين. لقد صُممت هذه المنطقة لتمثل أسلوباً جديداً للحياة، ومُنح هذا المكان فرصة استثنائية ليبدأ من الصفر، مختلفاً عن المناطق والمدن العالمية التي كانت قد نشأت وتطورت عبر مئات السنين، ليغتنم ويطور طريقة بناء جديدة، تشمل التقنيات المستقبلية، التي تمثل ركيزة أساسية لبنية مشروع نيوم التحتية. ويصف المشروعُ حياةَ هذا المكان المرتقبة بأنها مثالٌ يُحتذى به عالمياً في المستقبل للارتقاء بجودة الحياة بكافة جوانبها، من التعليم والصحة والغذاء والنقل والترفيه والصناعة التقنية الحديثة، وفي توظيف أحدث تقنيات المستقبل الأمنية، وتوفير فرص اقتصادية كبرى.

الموقع الفريد
منطقة مشروع نيوم أكبر من مدينة نيويورك 33 مرة، فهي مكانٌ ممتد بين دول ثلاث، تشمل أراضي داخل الحدود المصرية والأردنية، على مساحة 26,500 كيلومتر مربع. كما أنها تُمثل نقطة التقاء بين القارات الثلاث؛ آسيا وإفريقيا وأوروبا، وتُمكّن %70 من سكان العالم من الوصول إليها خلال 8 ساعات كحد أقصى. كما يتميز موقعها بقربه من أسواق التجارة العالمية ومساراتها؛ إذ يمر بالبحر الأحمر %10 من حركة هذه التجارة. وفيما يتعلق بالمناخ؛ فالموقع يتمتع بطقسٍ جَمِيل فريد، أكثر برودة من المناطق المحيطة به بحوالي 10 درجات مئوية. أضف إلى ذلك تنوع تضاريسه؛ حيث الجبال التي يتجاوز ارتفاع بعضها 2,500 متر، والتي تغطي الثلوج قمم بعضها في فصل الشتاء، والصحراء الشاسعة المنبسطة، والشواطئ الخلابة الممتدة على طول 460 كيلومتراً. كما يزخر هذا المكان بموارده الطبيعية الغنية من النفط والغاز والمعادن، التي سيسهم استغلالها في تعزيز معايير الاستدامة في المشروع. وتنعُم المنطقة كذلك بكمية وافرة من الطاقة الشمسية والرياح؛ التي تُشكل بيئة مثالية لتطوير مشاريع الطاقة المتجددة.

منطقة آثار موقع الحجر الأثري (مدائن صالح) يمثّل معماراً استثنائياً عن حضارة الأنباط ومعمار تلك الحقبة الزمنية

داعمٌ للاقتصاد
في ظل سعي المملكة لاقتناص الفرص الاقتصادية والاستثمار فيها من أجل تنوع الاقتصاد السعودي في المستقبل، فإن هذا المشروع سيزيد من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة ويعزز أهمية المنطقة، عبر تطوير قطاعات اقتصادية تعالج مسألة التسرب الاقتصادي، وسيخلق فرصاً جديدة للاستثمار في قطاعات جديدة. كما أن المشروع صُمم ليكون منطقة اقتصادية خاصة تحكمها أنظمتها وقوانينها الضريبية الخاصة، ويقوم على عملية دعم تتجاوز 500 مليار دولار أمريكي من قِبل المملكة العربية السعودية، وصندوق الاستثمارات العامة، والمستثمرين المحليين والعالميين.

تتهيأ منطقة رجال ألمع الشهيرة في عسير بمبانيها الحجرية العالية ذات الواجهات الجذابة، للانضمام إلى القائمة، بعد أن بدأت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني العمل على ملف هذا الموقع الفريد.

مركز رائد للعالم
يهدف مشروع نيوم، الذي بدأ العمل في التخطيط لقطاعاته الاقتصادية والبنية التحتية المطلوبة لها، لأن يصبح مركزاً رائداً للعالم، ومحوراً يجمع أفضل العقول وأكفأ المهارات العالمية وأصحاب الفكر والعلماء والشركات معاً، لتخطي حدود الابتكار إلى أعلى مستويات الحضارة الإنسانية، وإلى تطبيق رؤية حضرية في مفهومها العمراني ترتكز على ستة توجهات، هي: التركيز على الإنسان، والجيل القادم من صحة العيش والتنقل، وأتمتة الخدمات/الحكومة الإلكترونية، والرقمنة، والاستدامة، والابتكار في أعمال الإنشاء.
ويهدف المشروع عبر أحد عشر قطاعاً اقتصادياً إلى تطوير قطاعات المستقبل وتعزيز الحضور الاقتصادي لنيوم. وتتمثل هذ القطاعات في: أولاً: مستقبل الطاقة والمياه، التي ستعتمد على الطاقة المتجددة، وحلول تخزين الطاقة، وحلول النقل، بالإضافة إلى التصنيع، والأبحاث والتطوير. وثانياً: مستقبل التنقل، الذي يشمل الموانئ البحرية، والمطارات، وحلول النقل الذاتي. وثالثاً: مستقبل التقنيات الحيوية، وتضمّ التقنية الحيوية البشرية، وصناعة الأدوية. ورابعاً: مستقبل الغذاء، ويشمل مركزاً عالمياً لابتكار التقنيات الغذائية. وخامساً: مستقبل التصنيع المتطور، الذي يتضمن المواد الجديدة، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وصناعة الروبوتات والمركبات. وسادساً: مستقبل الإعلام، عبر تطوير صناعة الإنتاج التلفزيوني والسينمائي، والمحتوى الرقمي، وصناعة الألعاب الإلكترونية، وغيرها. وسابعاً: مستقبل الترفيه: الذي يشمل المنشآت والأنشطة والفعاليات الترفيهية والثقافية. وثامناً: مستقبل العلوم التقنية والرقمية، ومنها الذكاء الاصطناعي، وتقنيات الواقع الافتراضي والمعزز، ومراكز البيانات، وإنترنت الأشياء، والتجارة الإلكترونية. وتاسعاً: مستقبل السياحة، الذي يضم الوجهات الطبيعية من الطقس المعتدل، والجبال الشاهقة، والصحراء الممتدة، بالإضافة إلى المنشآت والفعاليات والأنشطة. وعاشراً: مستقبل الرياضة، الذي يشمل المنشآت الرياضية الذكية، والمنافسات الدولية، والتجارب الرياضية، وبرامج نمط الحياة، وغيرها. والحادي عشر: مستقبل المعيشة، كركيزة أساسية لباقي القطاعات، وذلك يشمل السكن والتعليم والأمن والسلامة، والمساحات الخضراء، والرعاية الصحية، والضيافة والفندقة.

الثروات في النطاقات الأربعة
ومن المهم الإشارة، في سياق هذا الموضوع، إلى أن مشروع نيوم يُعد مرآة كبرى أخرى تعكس ذكاء الجغرافيا عبر الأراضي السعودية الغنية حضارياً، والمتنوعة جغرافياً وجيولوجياً؛ إذ يتسم هذا التنوع الجغرافي بإطلالة المملكة على سواحل بطول 3800 كيلومتر، وسلاسل مرتفعات جبلية تتسيدها سودة جبال السروات بعلو يزيد على ثلاثة آلاف متر. أما من ناحية التنوع الجيولوجي، فهي تقع ضمن أربعة نطاقات، وهي: الدرع العربي في معظم الجزء الغربي الذي يمتد بمحاذاة ساحل خليج العقبة والبحر الأحمر، وتُعد صخوره من أقدم صخور الجزيرة العربية وتكتنف معظم الرواسب المعدنية الفلزية في المملكة مثل الذهب والفضة والنحاس والزنك والحديد. وفي شرق هذا النطاق يقع الرصيف العربي الذي يغطي ثلثي مساحة المملكة، وتحتوي صخوره الرسوبية الثروات الزيتية والغاز، ورواسب المعادن اللافلزية مثل البوكسايت والفوسفات، وهي أيضاً موطن أكبر خزانات المياه العميقة في المملكة. والنطاق الثالث هي الحرّات المنتشرة في الجزء الغربي من المملكة، وهي طفوح بازيلتية تكونت من الحمم المنصهرة التي تدفقت من باطن الأرض إلى سطحه، وتتكون معظمها من صخور البازلت القلوي. وأخيراً، السهل الساحلي للبحر الأحمر، الذي تحده المرتفعات الغربية من الشرق، ويتكون من صخور رسوبية، وشعب مرجانية، ورواسب سطحية.

سهول ومرتفعات
أما عن تنوع سطح المملكة، فهناك السهلان الساحليان للبحر الأحمر والخليج العربي، وفي الغرب سلسلة مرتفعات تمتد بمحاذاة ساحل خليج العقبة والبحر الأحمر. تلك السلسلة التي تشكلها جبال السروات، وجبال الحجاز، وجبال مدين في قسمها الشمالي. وإلى الشرق من هذه المرتفعات تقع الهضاب، التي تنحدر بشكل عام نحو الشرق وتغطي مساحات واسعة. أما الرمال في المملكة، فهي تترامى عبر مساحة 635 ألف كيلومتر مربع. فيما تنتشر مئات المجاري المائية الموسمية في جميع مناطق المملكة، التي تكونت معظمها خلال العصور المطيرة. في حين توجد الكثير من مصايد المياه السطحية التي تكثر في المناطق الساحلية وقربها.

أغنى بحار الأرض بالشعاب المرجانية
المملكة، أيضاً، غنية بجزرها البالغ عددها نحو 1,285 جزيرة مختلفة المساحات على طول سواحلها في البحر الأحمر والخليج العربي، ومعظم هذه الجُزر مرجانية النشأة. وتتوفر في سواحل المملكة وبعض جزرها مقومات الجذب السياحي من تنوع طبوغرافي وبيئي، يتمثل في الشواطئ الرملية الناعمة، والمرتفعات الجبلية، والغطاء النباتي، إضافة إلى الشعاب المرجانية المتنوعة التي تحيط بها، مما يؤهلها لتكون مقصداً للزوار وهواة الصيد، والغوص، ووجهة جذب للباحثين عن الراحة والاستجمام في معظم فصول السنة. ويوجد في الطرف الشمالي الغربي من البحر الأحمر، بالقرب من سواحل نيوم عدد من أكبر الجزر السعودية في البحر الأحمر، وهي: تيران بمساحة 61.5 كيلومتر مربع، وصنافير بمساحة 24.5 كيلومتر مربع، وشيباره بمساحة 19.8 كيلومتر مربع، وبرّيم بمساحة 19 كيلومتراً مربعاً. ويُوصف البحر الأحمر بأنه من أغنى بحار الأرض بالشعاب المرجانية المتنوِّعة المتمايزة بأنواعها وأشكالها وأنماطها وألوانها، إذ تصل أعدادها إلى 200 نوع، في حين يحتفظ بحر الخليج العربي بستين نوعاً من المرجان.

جُزر البحر الأحمر
على امتداد 2600 كيلومتر لساحلي خليج العقبة والبحر الأحمر، هناك نحو 1150 جزيرة، تُمثل نسبة %89 من جزر المملكة. وفي أحد الأماكن الأكثر جمالاً وتنوعاً في العالم مقابل هذين الساحلين الغنيين بالشعاب المرجانية بين مدينتي أملج والوجه، أطلق صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بداية مشروع سياحي عالمي يحمل اسم “مشروع البحر الأحمر” يهدف إلى تطوير منتجعات سياحية على أكثر من 50 جزيرة. ويقع المكان على مسافات قليلة من محميات طبيعية متنوعة بالحياة النباتية والحيوانية، وبجوار معالم براكين خاملة تُعد الأشهر في العالم، وبجانب منطقة آثار موقع الحجر الأثري (مدائن صالح). ومن المقرر أن يُطور هذا المشروع ليكون منطقة تُطبق أفضل الممارسات والخبرات العالمية في المجال السياحي.

مكانٌ ضارب في عمق التاريخ
وفي شمال غرب المملكة كذلك، في هذا المكان الضارب في عمق التاريخ، ثمة حكايات تعود إلى عشرات الآلاف من السنين، فمثلاً أدت الأبحاث الجيولوجية للأحافير التي أُجريت مؤخراً، بمشاركة هيئة المساحة الجيولوجية السعودية في منطقة تسمى “بحيرة الوسطى القديمة” الواقعة شرق محافظة تبوك بنحو 140 كيلومتراً، إلى اكتشافات مدهشة، أعادت ترتيب المخطط الزمني للهجرة البشرية المبكرة والتوسع جغرافياً في المنطقة إلى ما قبل 85 ألف سنة أو أقدم! تستند هذه الاكتشافات إلى معلومات جرى تحليلها من عظمة إصبع عُثر عليها في رواسب بحيرات المياه العذبة القديمة، داخل الكثبان الرملية التي تعود إلى زمن الهولوسين الجيولوجي، وحُددت كإحدى عظام أصابع اليد المشابهة ليد الإنسان المعاصر. ومثلت أحفورة الأصبع هذه أول دليل مباشر على وجود الإنسان في هذه المنطقة في ذلك الزمن، كما أنها تُعد أقدم حفرية قديمة للإنسان الأول خارج إفريقيا وبلاد الشام. ونشرت مجلة نايتشر للبيئة والتطور نتائج هذه الأبحاث في شهر أبريل من هذا العام، ليصبح هذا المكان علامة بارزة على خريطة العالم بوصفه لاعباً أساسياً في التوزيع البيولوجي للإنسان القديم.

مشروع نيوم يُعد مرآة كبرى تعكس ذكاء الجغرافيا عبر الأراضي السعودية الغنية حضارياً، والمتنوعة جغرافياً وجيولوجياً؛ إذ يتسم هذا التنوع الجغرافي بإطلالة المملكة على سواحل بطول 3800 كيلومتر، وسلاسل مرتفعات جبلية تتسيدها سودة جبال السروات بعلو يزيد على ثلاثة آلاف متر

تنامي السياحة وتنوُّعها
لقد حفزت هذه الطبيعة المتنوعة تنامي السياحة في المملكة وتوسعها نوعياً، مثل السياحة البيئية والجيولوجية والأثرية. فعلى سبيل المثال، بعد دخول 250 كهفاً تم اكتشافها مؤخراً إلى قائمة الكهوف الأخرى الموجودة في المملكة، أُضيف عامل جذبٍ آخر للسياحة السعودية من المتوقع أن يُعزز من مواردها، ففي العالم اليوم خمسة آلاف كهف سياحي يزورها 250 مليون سائح سنوياً وتدر سياحياً ما يقارب مليارَيْ دولار سنوياً. وعن زيادة أماكن الجذب السياحة الأثرية، فقد بلغ عدد المواقع الأثرية المدرجة في سجل الآثار الوطني في المملكة حتى الربع الثاني من هذا العام 8,268 موقعاً.

قائمة التراث العالمي
تتوالى أماكن في المملكة في الدخول إلى قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، ففي هذا العام سُجلت واحة الأحساء ضمن هذه القائمة التي تهدف إلى تصنيف المواقع ذات الأهمية الخاصة للجنس البشري وتسميتها والحفاظ عليها، سواء كانت ثقافية أم طبيعية. ففي هذه المكان، فإنَّ واحة الأحساء هي أكبر وأشهر واحات النخيل الطبيعية في العالم. تتميّز بأرضها ذات الثلاثة ملايين نخلة، وتمورها الفاخرة، وحدائقها، وآبارها، وعيون مياهها العذبة، فضلاً عن موقعها الجغرافي، ودورها الحضاري والتاريخي منذ عصور الحضارات القديمة.
ويأتي تسجيل واحة الأحساء بعد أربعة أماكن سعودية أخرى، وهي: موقع الحجر الأثري (مدائن صالح) الذي يُعد أكبر موقع مصون لحضارة الأنباط جنوب البتراء بالأردن، ويحمل شهادة فريدة عن حضارة الأنباط، كونه يحوي مقابرهم الضخمة، وواجهات مبانيهم المزخرفة، في تلك الحقبة الزمنية، فضلاً عن عدد من رسوم الكهوف، وآبار مائية تمثل معماراً استثنائياً عن هذه الحضارة. ثم هناك موقع حي الطريف في الدرعية، الذي يقع في قلب شبه الجزيرة العربية، شمال غرب الرياض، والذي أُسس في القرن الخامس عشر الميلادي، وكانت تدار منه شؤون الدولة السعودية الأولى، ويحمل آثار الأسلوب المعماري النجدي الذي يتفرد به وسط شبه الجزيرة العربية. وكذلك موقع في منطقة حائل، حيث الفن الصخري في جبة وراطا والمنجور (الشويمس)، وهما من أهم وأكبر المواقع الأثرية في المملكة التي يعود تاريخهما إلى أكثر من عشرة آلاف سنة قبل الميلاد. ويظهر هذا الفن في عديد من ألواح النقوش الصخرية، وعدد كبير من الأشكال الآدمية والحيوانية. وهناك موقع على ساحل البحر الأحمر، جدة التاريخية (بوابة مكة المكرمة)، التي أُسست منذ القرن السابع الميلادي لتكون ميناءً رئيساً لطرق التجارة في المحيط الهندي، ولتوجيه البضائع إلى مكة المكرمة. وكانت كذلك بوابة للحجاج إلى مكة الذين يصلون بحراً، ومن هذه الأدوار تتطور المدينة لتصبح مركزاً متعدد الثقافات، مزدهرة بتقاليد معمارية فريدة.

يزخر موقع نيوم بموارده الطبيعية الغنية من النفط والغاز والمعادن، التي سيسهم استغلالها في تعزيز معايير الاستدامة في المشروع

وفي الأثناء، تتهيأ منطقة رجال ألمع الشهيرة في عسير بمبانيها الحجرية العالية ذات الواجهات الجذابة، للانضمام إلى القائمة، بعد أن بدأت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني العمل على ملف هذا الموقع الفريد، وسلمت الملف لمركز التراث العالمي باليونسكو.

فكرة لم يسبق لها مثيل!
من المنصف بعد النظر إلى عبقرية الأماكن فوق أرض المملكة، ومعرفة سماتها في الاختلاط، والتنوع، والتميّز، أن تصـف نيوم نفسها بالفكـرة التي لم يسبق لها مثيل، والذكاء الذي لم يُعرف له نظير، لا يحدّه تاريخ أو زمان، ويُبنى بأثمن ما يملكه الإنسان وهو الإبداع!

المصادر:

في شمال غرب المملكة، ثمة حكايات تعود إلى عشرات الآلاف من السنين، واكتشافات حديثة وضعت هذا المكان الضارب في عمق التاريخ في مكان بارز على خريطة العالم

  • كتاب “المملكة العربية السعودية…حقائق وأرقام”، هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، 2017م.
  • البيان الصحفي وحقائق وأرقام، موقع:
    www.NEOM.com
  • مجلة أرضنا، هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، العدد 20.
  • الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، نشرة سياحة وتراث، العدد 120.
  • الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، مواقع مسجّلة عالمياً.
  • وكالة الأنباء السعودية، مشروع البحر الأحمر: وثبة حضارية، ورحلة تنزه في حدائق الشُعب المرجانية، 2 أغسطس 2017م.
  • كتاب “شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان”، جمال حمدان.
  • مقدمة كتاب “اليهود: أنثروبولوجيا” لجمال حمدان، عبد الوهاب المسيري.
  • كتاب “الفكر الجغرافي: سيرة ومسيرة”، صلاح الدين الشامي.
  • Eric Weiner, the Geography of Genius: Lessons from the World’s Most Creative Places, 2016.
  • World Heritage List, UNESCO World Heritage Centre website.
  • Leanna Garfield, Saudi Arabia is building a $500 billion mega-city that’s 33 times the size of New York City, 27 February 2018, www.independent.co.uk.
  • Homo sapiens in Arabia by 85,000 years ago, Nature Ecology & Evolution, 09 April 2018.
  • Robert Ito, Going Back to the Future for ‘Tomorrowland,’ From Disney, 14 May 2015.

 

 

 


مقالات ذات صلة

على الرغم من وجود العديد من التساؤلات حول مستقبل الكتب المادية، فقد أطلقت الفنانة الإسكتلندية المفاهيمية “كاتي باترسون” في عام 2014م فكرة إنشاء “مكتبة المستقبل” كمشروع فني تطلعي يجمع بين كونه كبسولة زمنية أدبية ومشروعًا بيئيًا. كرّست “باترسون” جلّ اهتمامها بما ستتركه البشرية للأجيال القادمة؛ لذلك ابتكرت فكرة إنشاء هذه المكتبة في مدينة أوسلو النرويجية. […]

استطاعت الدول الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا، والنمسا، وسويسرا) أن تخلق نموذجاً في النهضة والتفوّق بالاعتماد على الأيدي العاملة المؤهلة مهنياً، وقد حقَّق هذا النموذج نجاحاً باهراً على مستوى العالم، فيما تسعى دول كثيرة داخل أوروبا وخارجها للاستفادة منه، ففي هذا البلد المزدهر اقتصادياً، يُعدُّ التدريب المهنيّ سرّاً من أسرار نجاحه، بل وربما ريادته عالمياً، فبفضله […]

من المؤكد أن للعلوم والتكنولوجيا تأثيراً عميقاً على المجتمع، لكن العكس صحيحٌ أيضاً، بحيث يشكِّل المجتمع، بصورة كبيرة، الطرق التي تتطوَّر بها العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، تُظهر التجربة أنه لا يمكن دائماً للعلماء، من ناحية، وعامة الناس والحكومات والشركات، من ناحية أخرى، فهم بعضهم بعضاً بوضوح، لهذا السبب كان لا بدَّ من وجود خبراء ذوي […]


0 تعليقات على “نيوم: عبقرية المكان والقرار”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *