مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس - أبريل | 2019

محمود تيمور
يروي انطلاقته الأدبية


في عددها لشهر محــرم 1391هـ (فبراير – مارس 1971م)، نشرت القافلة مقابلة مع الأديب وعميد القصة العربية المعاصرة محمود تيمور، أجراها محمد رفعت المحامي، وتناولت كثيراً من آرائه في الأدب والفن. وهنا مقتطفات منها يروي فيها تيمور كيف تشكَّلت شخصيته الأدبية وماهية المؤثرات فيها.

قال تيمور: “عاش جيلنا فترة طويلة في ظلال النزعة المحافظة التي كانت تسود المجتمع في مستهل القرن المعاصر. ثم لم تلبث ظلال هذه النزعة المحافظة أن انحسرت على أثر تتابع البعثات إلى ممالك أوروبا، وازدياد أسباب الاتصال بيننا وبين العالم المتحضِّر. وأخذنا نسمع نغمة تدعو إلى التجديد في اللغة والأدب والسياسة.. وكان زعماء هذه النهضة: سعد زغلول ومحمد عبده وقاسم أمين ثم لطفي السيد وتلاميذه فيما بعد.
ولمَّا تهذَّب ذوقي في المطالعة، أقبلت بشغف على قراءة المنفلوطي. فقد كانت نزعته “الرومانسية” الحلوة تملك مشاعري، وأسلوبه السلس يسحرني. وكل إنسان في أوج شبابه تطغى عليه نزعة الرومانسية والموسيقى، فيصبح شاعراً، ولو بغير قافية، وقد يكون أيضاً شاعراً بلا لسان!
ولمّا كان شقيقي الأكبر “إسماعيل” بحكم مكانه في الأسرة قد اضطلع بزعامة المنزل، وأخذ على عاتقه القيام بما تفرضه هذه الزعامة… وجدت الفرصة سانحة للتحكم في أوقات فراغي إلى حد كبير، أصرفها وفق ميولي بعيداً عن الحياة العملية ومظاهر الرسميات، فأشبعت ميلي إلى المطالعة”.

دور أدب الهجر
وأضاف: “كان نصيبي الشعر. وأقرأ في مطالعاتي هذه، الشعر بنوعيه: العربي والأفرنجي، وخاصة شعر المعاصرين. وكنت أفضّل منه غالباً ما كان خيالياً مغرقاً في الخيال. وكانت المدرسة المهجرية التي أنشأها إخواننا اللبنانيون والسوريون في المهجر قد بسطت نفوذها على الأدب المصري، فأخذت بها.  وشغفت كبير الشغف بزعيمها “جبران”، ذلك الشاعر الرمزي المغرق في الرمزيـة. وكانـت “الأجنحة المتكسرة” أول كتاب حظي مني بأوفى حُب وتقدير، فتأثرت به أولى كتاباتي، وجلّها من الشعر المنثور ذي النزعة الرومانسية.
وكان لجبران وجماعته مجلة تُدعى “الفنون”، قرأنا فيها لوناً جديداً من الأدب كان يحاول أن يخرج عن نطاق التقليد في الفكرة والقالب، ويستمد معينه من الغرب. وقد استحدث له أسلوباً جديداً خرج فيه عن بعض قواعد اللغة، ونهج المنهج الأفرنجي، فاستعديناه لطرافته وشذوذه عن المألوف. ولا جدال في أن ذلك الأدب على علاته، كان يحوي عنصري التجديد، وهو دم جديد جرى في عروق أدبنا المحافظ، فنشط ودبت فيه حياة جديدة. 
وكان للقصة نصيب لا يستهان به في هذا الأدب “المتأمرك”، والقصة/حتى ذلك العهد/ بضاعة تكاد تكون غريبة عنا، فتأثير هذه المدرسة في تلك الناحية من أدبنا ظاهر ملموس. وأخذ نفوذ هذه المدرسة يزداد على مر الأعوام، إذ كثرت البعوث إلى أوروبا، قلما عاد أعضاؤها، أخذوا يبشِّرون بمبادئ جديدة في كل فرع من فروع الأدب. فكانت بداية نهضة جديـدة، نهضة لها خطرها..”. 
وكنا على أبواب الحرب، وعاد شقيقي “محمد” من أوروبا محملاً بشتى الآراء الجريئة. كان يتحدث بها إليّ، فاستقبلها بعاطفتين لا تخلو من تفاوت: عاطفة الحذر، وعاطفة الإعجاب.
هذه الآراء كانت وليدة نزعة قوامها التجديد، ولكن جدتها أخذت تهدأ على توالي الأيام. ومن ثمّ اتخذت طريقها الطبيعي في التطور. والأمر الذي كان يشغل فكر أخي، ويرغب في تحقيقيه، هو إنشاء أدب مبتكر يستهدي وحيه من دخيلة نفوسنا وصميم بيئتنا”.
ويستعيد تيمور ذكرياته حول تلك الفترة فيقول: “يحسن هنا أن أذكر حادثاً مهماً أعتقد أنه كان نقطة تحوُّل في حياتي الأدبية، إذ وجّه مجرى هذه الحياة وجهة معينة. فقد أصبت بمرض “التفوئيد” – وكنت آنذاك في العشرين من عمري – وكانت وطأة المرض شديدة علي. فلزمت الفراش ثلاثة أشهر قضيتها في ألوان شتى من التفكير، وأخلاط من الأحلام، واستطعت أن أهضم كثيراً من الآراء التي تلقيتها من أخي، أو استمديتها مما قرأته من الكتب. فلما أبللت من مرضي، وأردت استئناف الدراسة العالية – وقد كنت بدأتها فعلاً – حال دون ذلك ضعف بنيتي، وعشت فترة من الزمن متعطلاً، وأطلقت لنفسي عنان الحرية، فخرجت من كثير مما كان يقيدني من تحفظات الأسرة.  وشعرت باشتداد ميلي للأدب، فرسمت له دراسة شبه منظمة، وخصصت له وقتاً معيناً من وقتي. فكأني قد أردت بهذه الخطة استكمال النقص الذي لحقني من انقطاع دراستي العالية. فمما لا ريب فيه أن حادث المرض كان بداية طور جديد في حياتي الأدبية، نقلني من دور التردُّد إلى دور اليقين، ومن دور الإلمام والهوادة في التحصيل إلى دور الجد فيه والاستيعاب”.

وتأثره بشقيقه
وحول تأثره بشقيقه يقول: “كان شقيقي “محمد” قد اقتحم المسرح، إذ كان ميدانه الأكبر. فألَّف فيه بالعامية، وعالج موضوعات مستخلصة من حياتنا في فن جديد، امتاز بوصف مبدع، وتخيل دقيق، وأسلوب جذَّاب. ومارس كتابة القصة، فاستحدث طريقة تكاد تكون غير مألوفة في أدبنا في ذلك الوقت، فنظم الشعر وترجم فيه إحساسه المرهف. وألّف في النقد المسرحي فابتدع لوناً جديداً مرحاً فيه هزل وفيه جد. وعلى الجملة كان أدب محمد تيمور أدباً مبتكراً، مادته الحياة الواقعية والنفس البشرية والبيئة المحلية.
هذا على حين أن والدي “أحمد تيمور” كان يعمل ويؤلِّف في ميدان آخر، ميدان اللغة والتاريخ والأدب القديم، لا يبرح خزانته إلاّ لماماً، يعيش في جو المعجمات وحوادث العهد الغابر، وقد يقضي الساعات الطوال، بل الأيام، في الكشف عن لفظ أو تحقيق خبر. 

“عاش جيلنا فترة طويلة في ظلال النزعة المحافظة التي كانت تسود المجتمع في مستهل القرن المعاصر. ثم لم تلبث ظلال هذه النزعة المحافظة أن انحسرت على أثر تتابع البعثات إلى ممالك أوروبا، وازدياد أسباب الاتصال بيننا وبين العالم المتحضِّر”.

في ذلك الوقت كنت أستشير في مطالعاتي بهداية شقيقي، فنصح لي، فيما نصح، بأن أطالع حديث “عيسى بن هشام” للمويلحـي، وروايــة “زينب” للدكتور هيكل، فرأيت فيهما لوناً يختلف عن اللون الرمزي والرومانسي الذي كنت غارقاً فيه، لوناً واقعاً يهبط بالقارئ من سماء الخيال العليا – حيث يعيش الناس كالملائكة فوق الضباب – إلى الأرض التي نحيا عليها، حيث نرى الناس بشراً مثلنا على فطرتهم التي خلق عليها.
و”حديث عيسى بن هشام” يُعدُّ في نظري المرحلة الثانية للقصة في الأدب العربي بعد “ألف ليلة وليلة”، فقد نحا فيه مؤلفه منحى عصرياً، فخياله واسع وسرده ممتع لا تخلو شخصياته من أحكام في الوضع، وهو وإن كان قد تقيد بعض التقيـد بالمقامـات في الأسلوب والتأليف..
وامتدح لي شقيقي محمد غير مرة “موبسان” الكاتب الأقصوصي الفرنسي، فبدأت أطالعه، وما كدت أقرأ له مجموعة حتى فتنت به، وتابعت قراءتي إياه في شغف عظيم. واتسعت مطالعاتي فيما بعد في القصيص الأوروبي، وتشعبت، ولكنني حتى اليوم ما زلت محتفظاً بموبسان في المكان الأول في نفسي، فهو عندي زعيم الأقصوصة الأكبر.
ثم انتقلت بعد ذلك إلى القصص الروسي، وقرأت “تشيخوف” و”تورجنيف” ومن ما أعقبهما، فرأيت تأثير “موبسان” واضحاً في بعض إنتاجهم، وتمتاز القصة الروسية بأنها قطع منتزعة من نفس صاحبها ومن مشاهداته، يعرضها في غير كلفة ولا زخرف، وقد يقرأ الإنسان أقصوصة من هذه الأقاصيص، فلا يرى فيها موضعاً تاماً له بدايته ونهايته، بل يرى صفحة ساذجة من الحياة، ولكن تتراءى له خلف هذه السذاجة الظاهرة صفحات من صميم المآسي البشرية، لذلك نعتقد أن قوّة القصة ليست في حوادثها الثائرة الفاجعة، ولا مشوقاتها المبتذلة التي قد يتعمد القاص أن يجتلبها ليستر ضعفه وراءها، بل إن قوتها الحق في بساطتها وصدقها وصوغها في قالب فني رفيع”.


مقالات ذات صلة

خلال أمسية شعرية ضمَّت مجموعة من الأسماء، ألقى محمد الفرج في الجولة الأولى قصيدته وهو يمشي بين الحضور، متوجهًا إلى جمهوره بالكلام، ونظنه تعثَّر في قدم أحدهم. ولكنه استفاد من الإمكانات الأدائية الكبيرة التي يوفرها له دور الحكواتي الذي اعتاد القيام به؛ إذ إن الفرج فنان تشكيلي وحكَّاء إلى جانب كونه شاعرًا. غير أن مقدِّمة […]

صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]

من الملاحظات المهمة التي سمعتها من عدد من الفلاسفة الذين شاركوا في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في ديسمبر 2021م، أن الحضور الغالب كان من غير المحترفين في الفلسفة. والمقصود بالمحترفين هنا هم أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا تحديدًا. فالمعتاد في مؤتمرات الفلسفة في العالم هو أن يحضرها أسـاتذة الجامعات الذين يقدمون أوراقًا علمية في المؤتمر […]


0 تعليقات على “محمود تيمور”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *