مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2021

جسر مدينة أمستردام..
أوّل جسرٍ معدني مطبوع!


علي البزّاز

وصفته الصحافة الهولندية بأول جسر معدني مطبوع بالتقنية ثلاثية الأبعاد في العالم، إنه جسر مدينة أمستردام، المُخصّص للمشاة وللدرَّاجات، الذي استغرق تشييده، أو قل “طباعته” نحو خمس سنوات. وإضافة إلى فرادة طبيعته “المطبوعة”، فهو جسر ذكي تم تجهيزه بمستشعرات إلكترونية تعمل على قياس حمولته، وهو أخفّ وأقوى من الجسور التقليدية. كما أنه مُنخفضُ التكاليف، وذو مواد صديقة للبيئة، ما يُشجّع شركات البناء وتلكَ المُتخصّصة بالتقنية على اعتماد هذا النموذج في البناء مستقبلاً.

“جسر معدني مطبوع” بالمعنى الحرفي للكلمة، ذلك هو جسر مدينة أمستردام، الذي وصفته الصحافة الهولندية بأول جسر معدني مطبوع بالتقنية ثلاثية الأبعاد في العالم.

وقد اشتركت في بناء جسر أمستردام “المطبوع”، الذي بدأ منذ العام 2015م، أربع روبوتات عِملاقة متعدِّدة المَحاوِر، حيث جرى تسخين الفولاذ وجعله مُطاوعِاً، ومن ثمّ إعداده للطباعة لدى شركة أمستردام المُتخصّصة بالصناعات المعدنية المُجسّمة، وبالتعاون مع معهد “آلان تورينغ” و”إمبريال كوليدج” في لندن.

تأخَّر افتتاح الجسر الذي يبلغ طوله 12 متراً، ويزن 4500 طن، عن موعده بثلاث سنوات، وذلك بسبب أزمة فيروس “كورونا” كوفيد – 19، وهو يقع في أقدم منطقة في أمستردام تُسمّى “فال”، أي: رصيف الميناء، أو الحائط، أو الجرف، إذ كانت أرصفة تحميل وشحن السُّفن في القرن السابع والثامن عشر، وهناك من يربط الاسم “فال” بـ “وول ستريت” في أمريكا، فالكلمة نفسها بالإنجليزية، ما عدا الاختلاف في نُطقهِا، وفي هذا الأمر وجاهة، فالهولنديون هم من أوائل المُهاجرين إلى هناك، كما يشير اسم منطقة “هارلم” في أمريكا إلى مدينة “هارلم” الهولندية التي تبعد 8 كيلومترات عن أمستردام.

تمَّ تجهيز الجسر المُخصّص للمشاة وللدرَّاجات بمستشعرات إلكترونية تعمل على قياس حمولته على إثر الازدحام، ما يجعل مراقبته ميسورة لمعرفة مدى حجم الضغط عليه وقدرته على التحمّل، وتوجد فائدة أخرى للمستشعرات وهي، معرفة الثغرات والهفوات التقنية جرَّاء بنائه، ما يسهم بالتغلّب عليها مستقبلاً عند إنشاء جسور ومبانٍ بالتقنيّة نفسها.

قد يتغيّر جذرياً شكل العمارة التقليدية بعد تطوّر تقنية الطباعة ثُلاثيَّة الأبعاد، فنحن هنا أمام خَرَسانة مطاوِعة ومقاومة للزلازل أكثر 500 مرّة من التقليدية، إضافة إلى سرعة الإنجاز.

ومن أجل إعطاء الانطباع بآليّة الجسر الحديثة وتقنيّة عمله، قامت مَلِكة هولندا مكسيما زوريجويتا عند تدشينه، بالضغط على زر باللون الأخضر، إشارة إلى مكوناته التي تخدم البيئة، وذلك من أجل تحريك ذراعٍ آلية مزوَّدة بمقصٍ، لقطع شريط الافتتاح مباشرة أمام الجمهور.

يقول الهولندي رووت أوبيلز في مقالته، في جريدة “نيذرلاندز داخ بلاد” بعنوان “كيف ستغيّر تقنيّة الطباعة ثلاثية الأبعاد عالمنا؟”:
نُصِبَ أوّل جسر لعبور الدرَّاجات بالتقنيّة تلك، في العام 2017م، في مقاطعة برابانت الهولندية، والجسر هو أخفّ وأقوى من تلك التقليدية. كما أنّه مُنخفضُ التكاليف وذو مواد صديقة للبيئة، ما يُشجّع شركات البناء وتلكَ المُتخصّصة بالتقنية على اعتماد هذا النموذج في البناء مستقبلاً، مُستشهداً بالخبير الاقتصادي لبنك “إنخ” راوول ليرنك: “عوض استيراد القوالبِ والركائزِ المُصنّعة في البلدان ذات تكاليف العمل الرخيصة، يستطيع أيّ بلد وفقاً لتلك التقنيّة من إنجازها حصريّاً” بمعنى سهولة وسرعة وضآلة التكاليف، إضافة إلى الاعتماد الذّاتي على الموارد البشرية والطبيعيّة. وفي سياق متّصل، أنجزت هولندا تجارب فذّة استغناءً عن الوقود الأحفوري، وذلك بإنشاء طرق، تزوّد السيارات بالطّاقة الكهربائية حال السير فوقها.

وداعاً للعمارة  “اللّو كو بوزييه”
قد أحدث المِعماري والفنان لو كو بوزييه، الذي يُعدّ من أوائل المعماريين الذين استعملوا الإسمنت في البناء (عمارة الحداثة)، نقلةً هائلةً في البناء الحضري والعمراني، ولا تزال العمارة تلك تُنعت باسمه، ولم تقتصر على الإسمنت وحده، بل استعمل الحديد المُسلّح في خلطة متجانسة وعملانية، وذلك لقدرة الإسمنت على التوافق مع الحديد وقوالب الخشب، وهكذا، تَمَّ إنشاء الجسور العملاقة كما ارتفعت العمارات الشاهقة بسلاسة، ما أسهمَ بالقضاء على أزمة السكن المستدامة يومذاك، بإنشاء عِمارة “الدومينو” منخفِضة التكاليف إشارة إلى اسم اللعبة المعروفة.

جسر مطبوع للدرَّجات.

ثمَّة مَن يقول: إنّ الحداثة والمدنية هي بحقّ العمارة فحسب. إذ يسهم المنزل المريح، بالقضاء على التوتّر النفسي وإشاعة السعادة الشخصية، وما لذلك من دور كبير على إنتاجية الإنسان وصحته العقلية.

سنشهد مع الطابعة ثُلاثيَّة الأبعاد، القضاء على العِمارة “اللّو كوربوزييه”؛ إذ نحن هنا أمام خَرَسانة مطاوِعة ومقاومة للزلازل أكثر 500 مرّة من التقليدية، إضافة إلى سرعة الإنجاز، وتقليل الاعتماد على العنصر البشري، والمواد الدّاخلة في البناء هي صديقة للبيئة تماماً.

يجب الذكر، أنّ أوّل بيت مطبوع بواسطة أذرع آلية وخراطيم، تحرّكها روبوتات، كان في العام 2020م في بلجيكا، وكانت المُشكلة حينذاك هي، اقتصاره على طابق فحسب (وراهناً، تمّ التغلُّب على ذلك بطباعة طوابق عدّة). لا يقتصر عمل الروبوتات على تجهيز الخرسانة والأرضيّة فقط، بل يتعدّى إلى طباعة النوافذ والأبواب وصولاً إلى تأثيث السكن كاملاً، وكلّ ذلك من طريق خدمة آليّة بحتة.

أمستردام.. فكرة جيومائية
ليس بعيداً عن الجسر المَطبوع، يقع مبنى دي فاخ “الميزان”، وكان بمثابة ميناء المدينة ما بين 1425 و1488م؛ حيث يجري فيه وَزنَ البضائع المستوردة أو تلك القابلَة للتصدير، كما ينتصبُ في المنطقة نفسها برج “الصُّراخ” إذ كانت تتجمّع أمامه النّسوة الهولنديات لتوديع أزواجهن بالبكاء والنحيب، وهكذا، جاء نَعته بـ الصُّراخ، كما يقف هناك شامخاً وجليلاً تمثالٌ، يستبطنُ العالَمَ الروحي والمعرفي لفيلسوف السعادة الهولندي “سبينوزا” مُجاوِراً لنصب “المحرقة” ضحايا الحرب العالمية الثانية، في منطقة “واترلو”، التي كانت تسكن فيها كما يبدو من اسمها الجالية اليهودية، ومن معالِمها: سوق اليهود مجاوراً للمعبد وكذلك المتحف اليهودي. المنطقة برمَّتها قديمة وبحرية ذات معمار هولندي كلاسيكي تشملُ بيتَ ومتحفَ الفنّان الهولندي رمبراندت، كما تكثر فيها البيوت المائلة المَسنُودة بالخشب تارة وطوراً بالحديد بسبب المياه التي تجري من تحتها.

تمثال سبينوزا.

اشتهرت هولندا بـ إمبراطورية “الرياح الموسمية”، فقد سيطرت على البحار قرابة 150 سنة، واحتلّت شركة “الهند الشرقية” الهولندية إندونيسيا لغاية الاستقلال في 1945م، إذ كانت شركة فعَّالة ليس تجارياً فقط بل وسياسياً أيضاً، كما وصل الهولنديون إلى شواطئ عكا ويافا، وإلى شواطئ عُمان بعد جلاء الاستعمار البرتغالي منها، كما جاء ذكر ذلك في كتاب “هولندا والعالم العربي منذ القرون الوسطى حتّى القرن العشرين” ويشمل مثلاً مجموعات المَخطوطات والمطبوعات العربية في هولندا، الخليج والبحر الأحمر: الهولنديون على سواحل شبه الجزيرة العربيّة، كما يتناول رحلة التاجر بيتر فان دن بروكه المستخدم لدى شركة الهند الشرقيّة الهولندية إلى بلاط الوالي في صنعاء سنة 1616م. ولا يمكن إغفال الدور الكبير الذي لعبته جامعة “لايدن” في نشر وتعزيز مكانة الدراسات الشرقية ممّا لديها من الكنز الهائل كمخطوطات ووثائق عن الخليج خاصّة والمنطقة عامة، وفي جانب آخر، يتعلّق الأمر بدار النشر “بريل” الشهيرة بطباعة الكتب حول الشرق والمنطقة العربية.

تعرّضت هولندا إلى عدد كبير من الفيضانات في تاريخها، فثُلث البلاد تقع تحت مستوى سطح البحر، ولا تزال بعض الدراسات تتوقَّع أن تغمر المياه هولندا بأكملها مستقبلاً.

وبناءً على الخبرة والصّيت الدولي لهولندا في المجالات الزراعيّة والسدود، قامت الشركات الهولندية بمشروعات كثيرة في منطقتنا العربية في العراق مثلاً منذ العام 1960م في مدينتيْ الناصرية والديوانية، ومشروع كورنيش أبو ظبي في العام 1966م، وبناء ميناء مدينة أكادير المغربية بعد تعرضها إلى الزلزال في العام 1960م.

ولا يزال أرشيف المملكة الهولندية، يحتفظ وبصورة جيدة، بما يقرب 3 كم من الورق كخرائط ورسومات عن الخليج العربي، يتضمّن بدقة مواطئ اللؤلؤ وخرائط عن الحيوانات والأشجار والأعشاب والعطور، من بينها خرائط رسمها الفنّان الهولندي رمبراندت.

مدينة الجسور والقنوات المائية
يعيش في مدينة أمستردام ما يزيد على 72 قوميّة، ما يشكّل ظاهرة فريدة في التنوّع العرقي والثقافي، شاخِصاً في عديد المطاعم غير الهولندية المنتشرة في المدينة، من بينها وبشكل لافت مقاهٍ ومطاعم عربيّة، لذا، أصبحت “الفلافل” و”الحُمص بطحينة” و”النعناع” وزيت “الأركانة”، منتشرة في جلّ المَتاجِر الهولندية الشهيرة مِثل “البرت هين” و”ليدل” وغيرها.

قام الهولنديون، بشقّ قناة أمستردام الكبيرة (تقع خلف محطّة القطار المركزية مباشرة وتتصل بمرفأ المدينة) بأدوات “بدائية” كالمعول والمجرفة، واستكمالاً لذلك، قامت أمستردام بحفر ثلاث قنوات اصطناعية متفرّعة من نهر “امستل” الشهير، ومرتبطة بشبكة هائلة من القنوات الصغيرة، وظيفتها، سحب مياه البحر وتوزيعه على القنوات، حمايةً للمدينة من الغرق وهذه القنوات هي: قناة “القيصر”، و”السّادة” و”الأمير”، ونستشفُ من أسمائِها معالم الأرستقراطية الهولندية والثراء الطبقي، والجدير ذكره، أنّ جل القصور المُشيّدة على جانبي القنوات، ذات طابعٍ هولندي مُميّز مَحلياً (لا يوجد فنّ معماري هولندي فريد مقارنة بالمعمار الفرنسي مثلاً، والسبب يكمن في أنّ هولندا، هي أرض رخوة منبسطة، لا تسمح ولا تستجيب إلى المعمارية التي تحتاج إلى قواعد وحفر وثقل على الأرض)، فهناك مثلاً، سبعة أنواع من واجهات المباني والقصور، تبرز فيها الزخارف والتشكيلات الهندسيّة المتنوّعة، تارة من الجبس والخشب، وطوراً من الحديد، تُميّز بناء “العلّية” في أعلى القصور، ويستطيع السائح ملاحظة الفوارق في ما بين شكل “علّية” وأخرى، من خلال النوافذ الدائرية أو المستطيلة أو المربعة وهكذا. غالبية البيوت في مركز المدينة ذات سلالم ضيّقة جداً، لا تسمح بنقل الأثات عبرها، ولذا نجد “الكلّاب” الحديدي المعقوف في أعلى البنايات، إذ يستعمل لنقل الأثاث بعد وضعها في سلّة من خلال النوافذ.

بيت مطبوع.

تنافِسُ “العوّامات” (وهي غالِباً سفن خارج الخدمة، وهكذا تسمى سفنَ السكن) المنتشرة على جانبي القنوات القصورَ في مدينة أمستردام وثمَّة قانون إداري ينظِّم بناءها والضريبة عليها عالية جداً مقارنة بالبيوت والقصور، وهي مُجهزة بكلّ شيء، ولها رقم سكن وصندوق بريد، ويسكنها الأثرياء تحديداً.

ولكون أمستردام مدينة مائية بامتياز، فثّمة آلاف من القوارب الشخصيّة تُبحر في تلك القنوات، وهناك قانون ينظّم طريقة إبحارها وركنها إلى الجرف، إضافة إلى السفن والقوارب السياحيّة، من بينها الباص النهري، ما يضفي جمالاً وبهجة.

إنّ هولندا، هي بلد الحريات المُطلقة والمُفاجآت الجريئة، مثل قانون “الموت الرحيم” وغيره، ولكن اللّافت، أنّ كل شيء، يُنظّم من خلال قانون، ويكاد القول يذهب بعيداً على أنّ الحرية عالية في أمستردام مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي، ولكن هولندا عموماً من أكثر الدول تشريعاً للقوانين.

وهكذا نرى أنّ إنشاء هولندا عامة ومدينة أمستردام خاصة، جاء من فكرة جيومائية، اعتمدت على تأهيل البحر وجعله مكاناً للعيش.


مقالات ذات صلة

على الرغم من وجود العديد من التساؤلات حول مستقبل الكتب المادية، فقد أطلقت الفنانة الإسكتلندية المفاهيمية “كاتي باترسون” في عام 2014م فكرة إنشاء “مكتبة المستقبل” كمشروع فني تطلعي يجمع بين كونه كبسولة زمنية أدبية ومشروعًا بيئيًا. كرّست “باترسون” جلّ اهتمامها بما ستتركه البشرية للأجيال القادمة؛ لذلك ابتكرت فكرة إنشاء هذه المكتبة في مدينة أوسلو النرويجية. […]

استطاعت الدول الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا، والنمسا، وسويسرا) أن تخلق نموذجاً في النهضة والتفوّق بالاعتماد على الأيدي العاملة المؤهلة مهنياً، وقد حقَّق هذا النموذج نجاحاً باهراً على مستوى العالم، فيما تسعى دول كثيرة داخل أوروبا وخارجها للاستفادة منه، ففي هذا البلد المزدهر اقتصادياً، يُعدُّ التدريب المهنيّ سرّاً من أسرار نجاحه، بل وربما ريادته عالمياً، فبفضله […]

من المؤكد أن للعلوم والتكنولوجيا تأثيراً عميقاً على المجتمع، لكن العكس صحيحٌ أيضاً، بحيث يشكِّل المجتمع، بصورة كبيرة، الطرق التي تتطوَّر بها العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، تُظهر التجربة أنه لا يمكن دائماً للعلماء، من ناحية، وعامة الناس والحكومات والشركات، من ناحية أخرى، فهم بعضهم بعضاً بوضوح، لهذا السبب كان لا بدَّ من وجود خبراء ذوي […]


رد واحد على “جسر مدينة أمستردام”

  • مقال مهم ومعلومات وافية عن اخر تقنيات الطباعة ثلاثية الابعاد، التي وجدت لها مكانا في عالم العمارة والبناء، كذلك المعلومات المهمة التي دونها الكاتب عن مختلف الامور فيما يخص هولندا، وامستردام بشكل خاص.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *