في إطار تطوير مفاهيم التربية السليمة، وإزالة العثرات الكثيرة من أمام حوارات الأهل مع أولادهم، ظهر مؤخراً كتاب جديد من إعداد ثلاثة دكاترة أخصائيين في مجالي علم النفس والتربية، هم: موريس إلاياس، وستيفي توبليس، وبرايان فريدلاند، بعنوان التربية بواسطة الذكاء العاطفي، كيفية إنشاء أطفال منضبطين قادرين على تحمل المسؤولية ولديهم المهارات الاجتماعية . مهى قمر الدين* تعرض لنا بعض المسائل المهمة التي يثيرها هذا الكتاب.
قبل الحديث عن المبادئ التي تساعد في بناء الذكاء العاطفي أو تساعد في تحفيز عملية التفكير عند أطفالنا، تجدر الإشارة إلى أن أغلبنا تعلَّم مجموعة من المبادئ العامة أدَّت إلى كمية كبيرة من المشكلات التي يمتد تأثيرها السلبي إلى حجب التفكير والتحليل عند أطفالنا.
وهذه المبادئ المغلوطة تتضمن بعض الحكم المكتسبة التي انتقلت عبر الأجيال، والتي ترتبط في كثير من الأحيان ببعض الخلفيات التراثية. وليس المطلوب تقييم وتصنيف تلك المبادئ بأنها خاطئة أو صحيحة، وإنما علينا التساؤل عن مدى ملاءمتها لمعطيات التربية في عصرنا الحاضر.
ويمكن تلخيص هذه المبادئ الشائعة بما يأتي:
1. أن نقدِّم لأطفالنا كلما سنحت لنا الفرصة عِبَراً من طفولتنا نحن، مثال عندما كنت في سنِّك… . وهذه الطريقة تقطع الطريق أمام الاحتمالات الأخرى التي قد تبرز أحياناً في عدة مواقف تكون من العصر الذي يعيش فيه أطفالنا.
2. أن نقيِّم أفكارهم وأقوالهم باللحظة التي يعبِّرون عنها، أي أن نعمد على تصنيفها بالجيدة أو السيئة . وهذه الطريقة قد لا تقدِّم في كثير من الأحيان المعلومات الكافية التي يحتاجها الطفل لاستكمال طريقة تحليل الأمور لديه وبلورتها.
3. أن نكون جديين في كل الأوقات، أي أن نفرض عليهم القيام بكل الواجبات مثل المساعدة في الأعمال المنزلية والواجبات المدرسية والاعتناء بإخوانهم الأصغر سناً..وما شابه، من دون إعطائهم فرصة للاعتراض، مما يخنق لديهم حرية إبداء الرأي، فيعتادون على الخنوع والخضوع للسلطة الأعلى من دون إعمال عقولهم وتشغيلها.
الأهل.. ليسوا مُثلاً عليا
أما عن السبل التي يجب على الأهل اتباعها من أجل تحفيز عملية التفكير عند أطفالهم، فيمكننا الإشارة إلى أنه على الأهل ألاَّ يقدِّموا أنفسهم على أنهم أشخاصاً كاملين في جميع الأوقات. إذ يجب أن يظهروا بأنه يمكنهم أن يخطئوا أحياناً. وهناك قلة من الأهل تسمح لأولادها بالاطلاع على ما يدور في أذهانها. وهذا شيء مهم لأنه يجعل الأولاد يدركون أنه من الممكن أن تكون للمرء مشاعر سلبية، وأن يشعر بالحِدَّة، أو أن لا يمتلك الحل الأمثل لكل الأمور في كثير من الأحيان.
وهنالك الوسيلة التي يتبعها الأهل لحثِّ أطفالهم على القيام بمهارات كانوا قد تعلموها سابقاً، إذ ليس من المهم فقط تعليم المهارات، بل يجب ممارستها في حياتنا اليومية. وإحدى الطرق التي تحمل الأولاد على استخدام المهارات بطريقة أكثر استقلالية هي أن نذكِّرهم بها. وهنا يجب أن نراعي الفرق بين التذكير والإصرار على فعل الشيء بطريقة مزعجة. فالتذكير يعترف ويحترم وجود العقل عند أطفالنا، وما نفعله أثناء عملية التذكير هو تحفيز العقل لكي يركِّز.
ومن المهم إعطاء الطفل الخيارات أثناء عملية التذكير هذه مثل: هل تريد أن تتمرن على طباعة هذه الورقة الآن أو بعد الأكل؟ . أما الحث والإصرار المتكرر فيشبه هذه الفكرة، ولكنه يفترض غياب القدرات العقلية وبأننا نحن من يفكِّر ويقرِّر مكان الطفل.
طريقة طرح الأسئلة
ولطريقة طرح الأسئلة أهمية كبيرة في الحوار مع أطفالنا. ففي المبدأ، هناك أربعة أنواع من الأسئلة التي يمكن أن يطرحها الأهل على أولادهم:
1. الأسئلة التي تبحث عن السبب مثل: لماذا ضربت رفيقك؟ أو لماذا لا يمكنك أن تتذكَّر ما قلته لك؟ أو لماذا لا تساعد شقيقتك؟ .
2. الأسئلة التي تحمل عدَّة احتمالات مثل: هل ضربته لأنه استفزَّك بأخذ غرض من أغراضك أو لأنك كنت غاضباً من أمر آخر؟ أو هل تتذكر الأشياء عندما أعيدها على مسمعك أو عندما أترك رسالة تذكِّرك بها في غرفتك؟ أو هل تساعد شقيقتك عندما أعطيك مكافأة؟ أو هل تريدني أن أهددك بإنزال العقاب بك؟ .
3. أسئلة الخطأ والصواب مثل: هل ضربك له خطأ أم صواب؟ أو هل بإمكانك أن تتذكر الأشياء عندما أقولها لك؟ أو هل ستساعد شقيقتك أم لا؟ .
4. الأسئلة المفتوحة مثل ماذا حصل بينكما؟ أو ماذا عساني أن أفعل لك حتى يكون أسهل لك أن تتذكَّر الأشياء المهمة التي أطلبها منك؟ أو كيف يمكننا إيجاد طريقة يمكنك معها أن تساعد شقيقتك عندما تحتاج المساعدة؟ .
الأولاد لا يحبون لماذا؟
يجد أكثر الأولاد صعوبة في الاجابة عن الأسئلة التي تحتوي على كلمة لماذا . لأنها غالباً ما تحمل اتهامات مبطنة لهم، والأولاد كما الكبار، يعمدون على اتخاذ موقع دفاعي إذا ما شعروا باللوم يُوجه إليهم. علاوة على ذلك، يطرح الأهل الأسئلة التي تتضمن كلمة لماذا في الأوضاع التي تدور حول المشكلات. وفي أغلب الأحيان يجيب الأولاد بـ لا أعرف ، أو لم أفعل ذلك رداً على ذلك النوع من الأسئلة. وهذا النوع من الأسئلة التي تُطرح لمعرفة السبب، تضع الأولاد في موقع الضعف، لأنهم لا يمتلكون مهارات الذكاء العاطفي المكتملة في تلك المرحلة المبكرة من حياتهم.
وغالباً ما يُسرع الأهل في طرح الأسئلة التي تُعطي أكثر من احتمال أو أسئلة الصح والخطأ إذا ما شعروا بتمرُّد أولادهم. ويضع هذا النوع من الأسئلة الضغوط على الأولاد، ويحرمهم من إمكانية التفكير بأي تعليل آخر يكونون قد توصلوا إليه بأذهانهم.
وهكذا، إذا كانت الضغوط عليهم قوية، فقد تحرمهم من تمرين عقولهم والتعبير والنطق بما يرونه هم الجواب الأمثل.
أهمية الأسئلة المفتوحة
أما الأسئلة المفتوحة، فبالرغم من أنها تستلزم وقتاً أطول، إلاَّ أنها تخلق جواً إيجابياً يشعر معه الأولاد بأنهم يمتلكون الحلول لمشكلاتهم مما يعزِّز ثقتهم بأنفسهم. وليس من السهل التعود على طرح ذلك النوع من الأسئلة، لذلك على الأهل تمرين أنفسهم عليها. وفيما يلي طريقة لتحويل الأسئلة التي تبحث عن السبب إلى أسئلة مفتوحة. 1. ماذا حصل؟ 2. ماذا أردت أن يحصل؟ 3. كيف تشعر؟ 4. ماذا كان الشخص الآخر يفعل؟ 5. ماذا حصل قبل ذلك؟
يشار هنا إلى أن الأسئلة التي تبحث عن السبب، والأسئلة التي تحمل عدة احتمالات وأسئلة الصواب أو الخطأ قد تكون مفيدة في بعض الأوقات. لذلك على الأهل التأكد من إيجاد التوازن المقبول بين ذلك النوع من الأسئلة والأسئلة المفتوحة في حواراتهم مع أولادهم.
وأخيراً يمكننا القول إنه لا يمكن تطبيق أي من المبادئ المفيدة التي تحدثنا عنها، من دون بناء علاقات جيدة تتميز بالثقة المتبادلة بين الآباء وأولادهم وتسمح للآباء بإرشادهم وتعليمهم. إذ إن هناك الكثير من المؤثرات التي يمكن أن يتعرَّض لها أطفالنا، ولا يمكننا معها الظن بأنه يجب على أولادنا طاعتنا والالتزام بما نقوله لهم لمجرد كوننا آباءهم. فشئنا أم أبينا، نحن في عصر الأسئلة. والطريقة الجيدة للإجابة عن تساؤلات أولادنا، هي في عدم التسرع بتقديم الأجوبة. إنما الطريقة الأمثل هي في الكلام الأقل والإصغاء الأكثر واستبدال الفرض بالإقناع، أي ببناء الشخصية من الداخل وليس الطلب بإبراز تلك الشخصية أمام أعين الأهل.. ظاهرياً فقط.