لو لم يكن المطبخ غير مكان لتحضير الطعام لاستحق الأمر زيارة معمّقة إليه. فكيف الحال، وهو أكثر من ذلك بكثير.
إنه النواة في كل بيت، حتى إن اسمه بات في بعض اللغات مرادفاً للعائلة.
وهو حكاية تطور بدأت فصولها قبل مئات آلاف السنين، وتسارعت بشكل مدهش في العصر الحديث، وتداخلت فيها احتياجات الإنسان الأساسية بالعلوم والاقتصاد والعمارة والمفاهيم الثقافية المختلفة.
وبفعل احتلاله حيّزاً راسخاً في الحياة اليومية لكل منا، كان لا بدّ له من أن يترك بصماته الواضحة على المعارف الإنسانية من علوم وفنون وآداب.
خدمته العلوم التي أسهمت في تطوره، فردّ الجميل بتحوّله إلى مصدر لعلوم جديدة ومحفّز على الابتكار والإبداع في مجالات تتجاوز إلى حدٍّ بعيد الاقتصار على تحضير الطعام.
في هذا الملف، يدخل بنا عبود عطية إلى المطبخ ليروي لنا من خلال سيرته وتاريخ مكوناته، الأبعاد الثقافية والاجتماعية الشاسعة التي ينطوي عليها.
قد لا يكون هناك ما يعبِّر بكلمة واحدة عن قيمة المطبخ أكثر من اسمه باليابانية الذي ظل رائجاً حتى بدايات القرن العشرين، وهو "كامادو"، الكلمة التي تعني حرفياً موقد الطبخ، ولكنها تعني أيضاً في الوقت نفسه "البيت" وحتى "العائلة"، لأنَّ المطبخ كان رمز البيت بأسره. حتى إنَّ تفكك أسرة ما بفعل الانفصال أو الهجرة، كان يُطلق عليه تعبير "تحطم الموقد".
يقال عنه إنه "مملكة المرأة"، لأن الأعراف الاجتماعية في معظم المجتمعات أناطت مسؤولية إعداد الطعام بربَّة المنزل. ولكن المطبخ يبقى الملكية المشتركة لكل أفراد الأسرة، والرابط الذي يبقي على لحمتها واجتماع أفرادها ثلاث مرّات في اليوم.
انطلاقاً من الموقد
الموقد هو نواة المطبخ اليوم، كما كان منطلق نشأته ومحور تطوره، ظهر عندما اكتشف الإنسان النار، وأن الطعام المطبوخ على النار هو ألذّ طعماً، ويحتمل أن يكون ذلك قد حصل قبل أكثر من مليون سنة حسبما استخلص بعض العلماء من اكتشاف بقايا موقد في كهف "وندرويرك" في جنوب إفريقيا. ولكن إجماع العلماء يقتصر على التسليم بأن الإنسان عرف طهي الطعام على النار قبل 400.000 سنة، وتأكد ذلك بفعل اكتشاف كثير من الحفر المحتوية على بقايا الحطب المحروق المختلطة بعظام الحيوانات في أماكن عديدة من الشرق الأوسط وأوروبا.
الموقد هو نواة المطبخ اليوم، كما كان منطلق نشأته ومحور تطوّره، ظهر عندما اكتشف الإنسان النار، وأن الطعام المطبوخ على النار هو ألذّ طعماً، ويحتمل أن يكون ذلك قد حصل قبل أكثر من مليون سنة
كان الموقد الأول عبارة عن حفرة في الأرض، ومن ثم تطوَّر ليصبح فوق الأرض. ولتلافي تطاير الشرر في الهواء، تعلَّم الإنسان إحاطة النار ببعض الحجارة، ومن ثم بناء سور صغير من الطين حولها. وهذا الموقد البسيط المهندس جيداً الذي ظهر قبل أكثر من عشرة آلاف سنة، لا يزال حتى اليوم يختزل بمفرده المطبخ بأسره في أرياف بعض دول شرق آسيا وإفريقيا، حيث يقتصر المطبخ على هذا الموقد المُقام خارجاً قرب البيت. أما في أماكن أخرى، فقد تطوَّر ببطء أولاً، وبسرعة كبيرة خلال القرنين الماضيين.
المطبخ المنزلي والمطبخ العام
في الحضارة اليونانية القديمة، كانت البيوت تُبنى وفق مخطط مربع تتوسطه فسحة سماوية مخصصة للنساء. وكانت مواقد الطبخ تُقام في هذه الفسحة. أما في الحضارة الرومانية، فإن امتلاك مطبخ خاص في المنزل كان حكراً على الأثرياء، وكانت عامة الناس تطبخ مأكولاتها في مطابخ عامة متفرقة في أحياء المدينة.
وعلى الرغم من قلة ما وصلنا عن وصف المطبخ في الحضارة الإسلامية، فإن الأدب الشعبي يشير بوضوح إلى أن بيوت العامة في العصر الوسيط في كل من دمشق والقاهرة كانت تخلو من المطابخ وتعتمد على المطابخ العامة، إذ كان الناس يحتفظون في بيوتهم بالمؤن التي يحتاجونها، ويرسلون يومياً مستلزمات الطبخة من حبوب ولحوم وخضار إلى مطبخ عام، حيث تطبخ ويعاد إرسالها إلى بيوتهم في الوقت المحدَّد. غير أن الحال كان مختلفاً في قصور الأغنياء والحكّام.
فقد وصلنا وصف المأدبة التي أقامها السلطان قانصوه الغوري لإحدى البعثات الدبلوماسية من جمهورية البندقية، وعلى الرغم من أنه لم يصلنا شيء عن وصف مطبخ قصره، يمكننا أن نتخيل ضخامته من وصف الأطباق التي تتحدّث عن عجول محشوة بالخراف المحشوة بدورها بالدجاج... وعندما تكون الأطباق تقاس بالأمتار، فمن الطبيعي أن تقاس المطابخ بعشراتها.
وخلال العصور الوسطى نفسه في أوروبا، عندما كانت بيوت العامة تتألَّف من غرفة طويلة، كان المطبخ يقع في منتصف المسافة ما بين باب المدخل والمدفأة التي تستخدم نارها للطبخ والتدفئة والإنارة. أما في قصور النبلاء، فقد كان في معظمها غرفة خاصة لأن تكون مطبخاً. ولكن مع بدايات عصر النهضة صار هؤلاء يبنون مطابخ منفصلة عن مبنى القصر الرئيس لحمايته من الدخان وروائح الأطعمة التي قد تعكر عليهم استقبالاتهم الرسمية.
وفي أواخر العصر الوسيط تم ابتكار مواقد التدفئة المبنية بالحجارة بمدخنة تشفط الدخان إلى ما فوق السطح، ففقد موقد المطبخ وظيفتـه في التدفئة، فانفصلت غرفــة الجلوس عن المطبخ، متحرَّرة من الدخان.
والتطور الثاني الذي شهده عصر النهضة الأوروبية، كان في ابتكار مزيد من مستلزمات المطبخ التي لم تعد تقتصر على الموقد الحجري وبعض القدور، بل تظهر بعض الرسومات العائدة إلى تلك الفترة، وجود مواقد معدنية تعمل على الحطب أو الفحم، ويُنفخ فيها الهواء ميكانيكياً، ومزودة بذراع ميكانيكة لتقليب المشاوي، يُنسب اختراعه إلى ليوناردو دا فنشي.
سلامة المطبخ
بموازاة جاذبيته، يُعدُّ المطبخ المكان الأخطر على سلامة البيت وسكانه، فبالإضافة إلى أن الإحصاءات في أي مكان من العالم تؤكد أن ما بين 85 و96 % من الحرائق المنزلية تبدأ من المطبخ، فإن شروط السلامة الصحية تبقى مسألة لا تقل خطورة.
ومن أبرز عشرات شروط نظافة المطبخ وسلامته والنصائح المنشورة من قبل اختصاصيين على مواقع إلكترونية مختلفة، نختار ما يحظى منها بالإجماع، وهي التالية:
• إفراغ حاوية النفايات مرة على الأقل في اليوم، لأن فضلات الخضار واللحوم والطعام المطبوخ هي بؤرة في غاية الخصوبة لتكاثر الجراثيم.
• غسل القدور وأدوات تحضير الطعام جيداً، بعيد الانتهاء من استخدامها وعدم ترك ذلك لليوم التالي.
• غسل كل الأدوات المستخدمة في تقطيع اللحوم النيئة والدجاج بمادة معقمة مضافة إلى الصابون، إذ ثبت أنه حتى رذاذ الماء المتطاير من غسل الدجاج النيء يمكنه أن يحتوي على جراثيم السالمونيلا.
• تبديل المناشف المستخدمة في مسح الطاولات أو تجفيف الأدوات المغسولة بشكل مستمر، إذ ثبت مخبرياً أن مناشف المطبخ المستخدمة مدة ثلاثة أيام على التوالي، تحتوي على جراثيم أكثر مما على كرسي المرحاض، والأمر نفسه ينطبق على الليفة المستخدمة في غسل أدوات الطعام، التي يجب تبديلها دورياً، أو وضع بعض النقاط من أية مادة معقمة عليها بعد الانتهاء من استخدامها.
وإضافة إلى ما تقدَّم، يجب الاحتفاظ بأدوات المطبخ من قدور وأطباق في أماكن مغلقة لا يصلها الغبار، وذلك بعد أن تكون قد جفّت تماماً من ماء الغسل. وفي البيوت التي فيها أطفال، يجب الحرص على بقاء كل الأدوات الحادة التي يمكن أن يشكِّل العبث بها خطراً، في أماكن بعيدة عن متناولهم، شأنها في ذلك شأن الأدوية.
الطريق إلى المطبخ الحديث
خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، تركَّز تطوير المطابخ على تطوير المواقد والأفران وظهرت طرز عديدة منها، غير أن التطور الأكبر فيها تمثل في عام 1825، بتسجيل براءة اختراع أول موقد طبخ يعمل على الغاز في الولايات المتحدة، وبدأ تسويقه تجارياً بدءاً من عام 1835، وبيع منه 90 ألف وحدة خلال السنوات الثمان التالية. وعلى الرغم من أن مدناً مثل باريس ولندن وبرلين كانت قد بدأت بمدّ شبكات الغاز لإنارة الشوارع منذ مطلع عشرينيات ذلك القرن، فإن انتشار مواقد الغاز في البيوت لم يحصل قبل أواخره.
ولأنَّ مواقد الغاز لا تتسبب بانبعاث أي دخان، فقد حلّت بشكل كامل محل المواقد العاملة على الحطب أو الفحم في كل مدن العالم. ولأنَّ الطلب عليها تجاوز المدن التي تمتلك شبكات لتوزيع الغاز، ظهرت قارورة الغاز كحل يحرر من الاعتماد على الحطب الذي لم يعد مستخدماً في مواقد الطبخ إلا في بعض المجتمعات الفقيرة في آسيا وإفريقيا، حيث يتوفر الحطب بكثرة تبقيه بديلاً أفضل اقتصادياً من الغاز المستورد.
وشهدت السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر الميلادي تطورات بالغة الأهمية انعكست كلها على تطور المطبخ. فكل المدن الأوروبية راحت آنذاك تمد شبكات لإيصال المياه إلى البيوت، وشبكات لصرف المياه المستعملة والصرف الصحي، وما إن أطل القرن العشرين حتى كان التحكم بالكهرباء كافياً لتوزيعها تجارياً لتحل جزئياً محل الغاز في استخدامات عديدة. ولتشرّع الأبواب واسعة جداً أمام سلسلة كبيرة من المبتكرات الصناعية التي أصبحت من مستلزمات أي مطبخ حديث في العالم.
حتى فترة الحرب العالمية الثانية، كانت جهود المصممين والمبتكرين على تطوير عالم المطبخ، حكراً على بعض الأفراد، حيث لا يوجد مناخ اجتماعي واقتصادي يساعدها على الانتشار بشكل واسع وشامل
غير أنه كان للثورة الصناعية وجه آخر غير برّاق تجلَّى بوضوح في عالم المطابخ. فبسبب زحف الأرياف إلى المدن للعمل في المصانع الجديدة والمتكاثرة، وبسبب ضعف الأجور المدفوعة للعمال، ازدحمت المباني السكنية في معظم المدن الحديثة بما يفوق طاقتها على الاستيعاب. فكان من الطبيعي في أية مدينة أوروبية أن يتشارك ستة عمال إيجار غرفة واحدة، لا يبقى فيها لمطبخهم أكثر من زاوية لا تتجاوز مساحتها مساحة الموقد. وحتى في بيوت الطبقة الوسطى والأعلى قليلاً، التي أصبحت عبارة عن شقق سكنية متفاوتة الأحجام وفيها مطابخ مستقلة عن بقية الغرف، تحوَّلت المطابخ إلى غرف منامة للخدم. وحتى فترة الحرب العالمية الثانية، كانت جهود المصممين والمبتكرين على تطوير عالم المطبخ، حكراً على بعض الأفراد، حيث لا يوجد مناخ اجتماعي واقتصــادي يساعدها على الانتشــار بشكل واسع وشامل. كما حصـل في العقود اللاحقـة وأفضى إلى ظهور المطبـخ المنزلي الحديث، المطبخ الذي نعرفه جميعاً، مع اختلافات محدودة بين بيت وآخر، وأيضاً المطبخ الصناعي المجهّز لإعداد الطعام لمئات الأشخاص وحتى الآلاف.
فمطبخ البيت المتوسط هو اليوم غرفة ضمن المنزل، تحتوي على موقد وفرن يعملان على الغاز أو الكهرباء (حسب الجدوى الاقتصادية) وثلاجة لحفظ الطعام، ومغسلة لأدوات الطبخ والمائدة، وطاولة لتحضير المواد اللازمة للطبخ، وخزائن مبنية في جدران المطبخ لتوضيب أدوات الطبخ والقدور ومواد التنظيف. ويمكن للائحة موجودات المطبخ أن تتجاوز هذه الأساسيات لتضم أيضاً جهاز ميكروويف وجلاية كهربائية، ومطاحن ومعاصر كهربائية، وغير ذلك من الأدوات والمبتكرات التي يظهر الجديد منها في الأسواق كل يوم وتسهّل أعمال المطبخ على ربة المنزل، أو تزعم ذلك.
أما المطابخ الكبيرة المعدّة لتلبية احتياجات أعداد كبيرة من الناس، كما الحال في الفنادق والمطاعم والثكنات العسكرية، فتختلف تماماً عن المطابخ المنزلية، إذ يمكن للثلاجة فيها أن تكون غرفة أو عدة غرف مبردة، كما أن المواقد تتعدَّد وتنتظم في صفوف طويلة، وتصبح قدور الطهي أشبه بالبراميل، يمكن أن تصل سعة بعضها إلى 750 ليتراً.
ثمرة نظرة ثقافية جديدة
في كثير من البيوت والشقق السكنية المصممة حديثاً، ينفتح المطبخ على غرفة الجلوس. فلا جدار ولا باب مغلقاً بين الجهتين بل طاولة تستخدم لتناول الطعام، كما يمكن استخدامها لأغراض أخرى. وهذا ما يعرف "بالمطبـخ المفتـوح"، الذي يسميــه البعض في بلادنا "المطبخ الأمريكي".
وبالفعل، فإن هذا الطراز من المطابخ هو أمريكي المنشأ، وهو ثمرة تلازم تطور كبير في العمارة والتصميم الداخلي وتقنيات التهوئة، ولكن قبل كل شيء ثمرة تغير في النظرة الثقافية إلى الطبخ.
ففي ثلاثينيات القرن الماضي، بنى المعماري الأمريكي فرانك لويد رايت بيتين كان المطبخ فيهما مفتوحاً على غرفة الجلوس، وتطلَّب ذلك منه رفع سقف المطبخ حتى سطح الدور الثاني من المنزل، لضرورات التهوية وإضاءتهما طبيعياً عبر السقف. ولكن هذا الحل المعماري لم يكن في متناول الجميع، بل تطلَّب الأمر تطوير تقنيات التهوية بما فيه الكفاية في ثمانينيات القرن الماضي لينتشر تصميم المطابخ المفتوحة على نطاق واسع من أمريكا وأوروبا وصولاً إلى بلادنا.
في السينما.. بيئة حاضنة للصراعات المبطنة
ولكن إضافة إلى الحلول التقنية التي جعلت المطبخ المفتوح ممكناً، فإن هذا المطبخ هو في العمق ثمرة تغير في النظرة الثقافية إلى الطبخ، إذ بات يُنظر إليه كفن وكنشاط إبداعي واجتماعي، وليس مجرد وظيفة أو خدمة. كما أن ربات المنازل رحبن به لأنه يسهل عليهن نقل الطعام من المطبخ إلى المائدة المجاورة للموقد، بدلاً من أن تكون في غرفة مجاورة.
وبعد البيوت انتشرت المطابخ المفتوحة في كثير من المطاعم. صحيح أن بعض المطاعم فتح مطبخه على قاعة تناول الطعام لطمأنة الزبائن إلى مستويات النظافة وحسن الإعداد، ولكن في كثير منها كان الدافع فعلاً ثقافياً، للتباهي بالطرق الوطنية في فن الطبخ، كما هو الحال في كثير من المطاعم اليابانية، حيث يتوسط المطبخ القاعة، ويتحلق الزبائن حول المواقد ومناضد تحضير الطعام فيها.
وقد أدّت فلسفة المطابخ المفتوحة هذه إلى نشاط كبير في صفوف المصممين الذين راحوا يرتقون بتصاميم المطابخ ومستلزماتها إلى مستوى جمالي يجعلها لائقة بالظهور أمام أعين الزوار في غرفة الجلوس، فكان المطبخ المفتوح بذلك وراء تطور صناعة جديدة لم تكن موجودة قبل نصف قرن.
المطبخ الراقي
المطبخ الراقي "هو ترجمتنا لما يسمى بالفرنسية (Haute cuisine) وترجمتها الحرفية هي" المطبخ العالي.
ظهر هذا التعبير في القرن السابع عشر، وكان يشير آنذاك إلى المأكولات التي كان تناولها حكراً على النخبة الاجتماعية. أما اليوم فإنه يشير إلى مستوى من الطعام يختلف عن الطعام المنزلي اليومي بعدة أمور، منها: طبخ مواد أساسية نادرة وغير شائعة مثل بعض أنواع الطيور والأسماك، واستخدام منكهات نادرة، وطريقة تحضير معقّدة وتتطلّب وقتاً طويلاً، وأخيراً طريقة التقديم على المائدة. وإلى ذلك يضيف البعض اسم الطاهي الذي يجب أن يكون معلّماً كبيراً في هذا المجال.
وحتى اليوم، لا يزال المطبخ الراقي فرنسي الشخصيـة والطابع، رغم انتشار مفهومه في المطاعم الفاخرة وفنادق الخمسة نجوم عبر العالم.
وينقسم المطبخ الراقي المعاصر إلى مرحلتين:
المرحلة الكلاسيكية، التي كان الطاهي والذواقة الشهير جورج إيسكوفييه قائدها بوضعه أطر المطبخ الراقي المعاصر في كتابه "دليل فن الطبخ" في بداية القرن الماضي، التي التزمت بها معظم المطاعم والفنادق الفاخرة في أوروبا طوال القرن الماضي.
مرحلة "المطبخ الجديد"، التي بدأت في ستينيات القرن الماضي بتمرد بعض الطهاة على تعاليم إيسكوفييه المعقدة والمتشددة. وتميّز هذا المطبّخ بالتركيز على المواد الطازجة ونكهاتها الطبيعية، والتقليل من الصلصات الدسمة، وأيضاً من وقت الطهي على النار. ويرى النقاد أن هذا المطبخ الجديد ظهر ليتماشى في فلسفته مع تيار "المقلّين" في الأدب والفن.
الفنانون في المطبخ
يقول مؤرخو الفن إن ظهور المطبخ في الفن التشكيلي يعود إلى أواخر القرن السادس عشر الميلادي، ولكن اكتشافات أثرية عديدة أظهرت أن المطبخ أو أشياءً من المطبخ كانت محور اهتمام بعض الفنانين منذ أيام الإمبراطورية الرومانية، إذ عثر في مدينة بومبايي الإيطالية على لوحة جدارية تعود إلى العام 70 ب.م، تمثل ثلاثة أوعية: في واحد منها فاكهة وفي الثاني ما قد يكون سمناً وفي الثالث بعض الحبوب. وفي متحف الفاتيكان لوحة موزاييك من القرن الميلادي الثاني، وتمثل دجاجة وبعض الأسماك والخضار إضافة إلى التمر في حالة الإعداد للطبخ.
فما يقصده المؤرِّخون بأواخر القرن السادس عشر هو تاريخ تحوُّل المطبخ إلى مصدر إلهام شبه دائم، بالنسبة لمئات الفنانين الذين وجدوا فيه مادة للتعبير لا يوفرها أي مصدر آخر. وقد بدأ ذلك في هولندا، ليعم في وقت لاحق أوروبا بأسرها.
ففي القرن السادس عشر، عندما كانت المدارس الفنية الإيطالية والفرنسية غارقة في المواضيع الدينية والمستوحاة من الأدب والصور الشخصية، كانت هولندا تبتكر جديداً يركِّز على تطوير رسم مشاهد الحياة اليومية، وهو الفن الذي ظهرت باكورته على يد الفنان جان فان إين في القرن الأسبق. وما من فنان يزعم الاهتمام بالحياة اليومية ويقدر على تلافي المطبخ. وبمرور الوقت، بات بالإمكان تقسيم ظهور المطبخ وأشيائه في الفن إلى تيارين رئيسين:
أولاً: في الطبيعة الصامتة
وهو التيار الأسبق زمنياً إلى الظهور، ويتمثل في رسم الأطعمة من أسماك ولحوم وخضار وفاكهة على طاولة المطبخ. والفنَّانون الذين تخصّصوا في هذا الموضوع يعدّون بالمئات، والذين رسموه بشكل متقطع هم معظم الأساتذة الأوروبيين، رغم تصنيف هذا الموضوع في أسفل قائمة تراتبية مواضيع اللوحات بعد المواضيع الدينية والأدبية والصور الشخصية، ورسم المشاهد الطبيعية وحتى الحيوانات الحية. وذلك لأنَّ النقاد رأوا أن مواضيع الطبيعة الصامتة تتطلَّب القدر الأقل من الجهد الذهني عند الفنان. ولكن بفعل الرواج التجاري الكبير الذي حظيت به هذه الفئة من اللوحات، فإن مواقف التعالي عليها لم تكبح جماح تطورها، كما أن ذلك لا يعني أبداً أن هذه اللوحات أتت خالية من المضمون الفكري، فكثير منها يعبِّر في اختياره لأنواع محدَّدة من الأطعمة عن الالتزام الديني وفق العقيدة البروتستانتية وتقاليد الصوم فيها مثل السماح بأكل السمك وليس اللحوم..وما شابه ذلك.
ولو قارنا طبيعة صامتة رسمها بيتر كلايتز في بداية القرن السابع عشر بأخرى رسمها فيلام كالف رسمها في أواخر ذلك القرن، للاحظنا أن الأطعمة وأدوات تناول الطعام أصبحت فاخرة أكثر بكثير مما كانت عليه في السابق، في خطاب يشي بالرخاء الذي عرفته هولندا في تلك الفترة بفعل تجارتها مع جزر الهند الشرقية، وأيضاً بفعل ابتعادها عن الفكر المطهري البروتستانتي الذي يميل إلى التقشف الشديد.
ثانياً: المطبخ كله على اللوحة
في عام 1665م، رسم الفنَّان الهولندي يان ستين الذي كان متخصصاً في مشاهد الحياة اليومية في الريف، لوحته الشهيرة "المطبخ السمين"، وكان الفنَّان نفسه قد رسم الموضوع نفسه عام 1650، وبالاسم نفسه. وفي كل من هذين المطبخين السمينين، نرى قاعة كبيرة وأناساً يتحلقون عشوائياً حول طاولة كبيرة والكثير من اللحوم والطيور المذبوحة معلَّقة على السقف.
وفي فبراير من العام الماضي، أقام الفنّان الأمريكي دان غرازيانو معرضاً منفرداً في نيويورك بعنوان " مقاهٍ ومطاعم ومطابخ". غير أن اهتمامه هنا تركَّز على الشكل الجمالي المستخرج من بعض زوايا المطبخ، كما هو الحال في لوحة "الطبّاخ" التي اختارها لتكون ملصقاً المعرض. ويبدو جلياً أنَّ ما استرعى اهتمامه في هذا المشهد هي لعبة التناقض اللوني ما بين ملابس الطبّاخ البيضاء وما تحتها من أشياء فاتحة اللون من جهة والخلفية البنية الداكنة من جهة أخرى.
وما بين يان ستين قديماً وغرازيانو حديثاً، يمكننا أن نجد مئات اللوحات التي تمثل أناساً يطبخون، وكل منها يروي موضوعاً مختلفاً، ويسعى إلى إظهار جانب مختلف، حتى ولو كان مجرد "سيدة وخادمة في المطبخ" التي رسمها الفنّان الهولندي فلوريس فان شوتن، وهو الفنّان الذي لم يرسم شيئاً مهماً في حياته غير مشاهد الطبيعة الصامتة التي تمثل مأكولات، ومشاهد من المطابخ.
ولم يقتصر اهتمام الفنّانين بالمطبخ يوماً على المتخصِّصين. فمن كارافاجيو في إيطاليا إلى فرانز هالس في هولندا، وحتى شاردان في فرنسا لاحقاً، وكلهم من الفنّانين الذين اشتهروا برسم الصور الشخصية والمواضيع الكبرى، رسموا لوحات مستوحاة من موجودات المطابخ.
حتى إن شاردان تمكَّن من الدخول إلى الأكاديمية الفرنسية بفضل واحدة من لوحاته رسمها في العام 1726م، وتمثل سمكة الشفنين وبعض الثمار البحرية على طاولة مطبخ.
وأكثر من ذلك، فإنَّ بعض عمالقة الفن مثل الأستاذ الإسباني فيلاسكيز الذي اشتهر باللوحات الكثيرة التي رسمها للعائلة المالكة وأميراتها، وجد ثمة جاذبية في المطبخ ، فرسم في عام 1618م واحدة من لوحاته الشهيرة " امرأة عجوز تقلي بيضاً".
أمثال شعبية من المطبخ الحلبي
تشتهر مدينة حلب في سوريا بفن الطبخ، الذي يصفه كثيرون بأنه قد يكون الأفضل في كل بلاد الشام. وإلى ذلك، عُرف عن الحلبيين قدرتهم الفائقة على إطلاق الأمثال الشعبية وكثرة تردادهم لها في حياتهم اليومية. ولذا، كان من الطبيعي أن يحفل معجم هذه الأمثال بكثير مما هو خارج من المطابخ أو مستوحى منها.
وعلى أحد المواقع الإلكترونية وجدنا قائمة طويلة من هذه الأمثال التي شاع كثير منها خارج حلب، وقد لا يكون منشؤها حلب خاصة، ولكن تم نسبها إلى هذه المدينة. ومنها نقتطف ما يأتي:
• "قعّدني بالمطبخ سنين ولا تسمعني عنين"، يُقال على لسان الزوجة المتضايقة من تذمر زوجها بشكل مستمر.
• "ما بيقرقع في الدست غير العظام"، ويُقال لوصف الكلام الفارغ الذي لا جدوى منه.
• "الطبخ مش شطارة، الطبخ بدو نطارة"، ومعناه أن الطبخ الجيد ليس بالسرعة، بل هو يحتاج إلى وقت طويل.
• "دخانك عمانا وأكلك ما جانا"، ويُقال لنقد التأخر في إعداد الطعام، أو للإشارة الى تحمل الإزعاج من الغير دون الاستفادة منه.
• "الله يرزقنا الطحين حتى تسمعوا طق العجين"، ويُقال في أكثر من ظرف، مثل انتقاد الفقير للغني البخيل الذي يحتاج إلى درس في كيفية الاستفادة من ماله، وأيضاً كوعد بتسديد دين أو تقديم مساعدة عندما تتحسن الظروف.
• "إن كثر الطباخون احترقت الطبخة"، معروف وشائع.
كتب فن الطبخ... القضية في مكان آخر
في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، فوجىء جمهور "معرض الكتاب العربي" في بيروت، باحتلال كتاب "فن الطبخ" رأس قائمة الكتب الأكثر مبيعاً. وشكّل الحدث آنذاك صدمة محرجة للمثقفين ومادة للبحث والتحليل. ولكن سرعان ما أثبت رواج هذا الكتاب، أنه ليس ظاهرة عَرَضية، إذ راح يتكرَّر في كل معارض الكتب العربية الكبيرة منها والصغيرة، من القاهرة إلى الرياض. وما كان عنواناً واحداً أصبح عشرات العناوين. أما الموقف السلبي من هذه الظاهرة الراسخة فقد بقي نفسه ما بين المقالات الساخرة من الأمر التي ظهرت في الصحافة العربية قبل ثلث قرن وتقرير بثته قناة "سكاي نيوز" غداة معرض الكتاب في أبو ظبي خلال العام الماضي، وكلها تلقي باللوم المبطّن على القارئ وكأنه لا يُحسن الاختيار.
لم تتمكن المواقف المتعالية على كتب فن الطبخ من أن تكبح جماح رواجها ونجاحها التجاري، الذي لا يمكن للناشرين أن يقاوموا مغرياته. فـ"دار العلم للملايين" التي كانت سبّاقة إلى ما قد يكون أول كتاب رائج حول فن الطبخ قبل أكثر من ثلث قرن، أصدرت لاحقاً "سلسلة الطبخ العالمي" (في حوزتنا الطبعة السابعة عام 2007م). وراحت العناوين تتنوَّع "فن الطهي"، "المأدبة الملكية"، "المطبخ الهندي"، "كيك"، وصولاً إلى "المطبخ العباسي"، وغير ذلك الكثير مما يصعب إحصاؤه، كما أن معظم مقدمي البرامج التلفزيونية حول فن الطبخ أصدروا كتباً راجت بفعل شهرة أسمائهم.
الإقبال على هذه الكتب تسبَّب في إحراج للمثقفين من أدباء وشعراء ومفكرين، دفع منظمو معارض الكتب إلى اتخاذ تدبير يحفظ ماء وجه هؤلاء وتقديرهم لذواتهم، ويقضي بتقسيم الكتب الأكثر مبيعاً إلى فئات مختلفة مثل الأدب والرواية والسياسة والعلوم.. وتصنيف كتب فن الطبخ ضمن "الفنون"، بحيث يتم تلافي مقارنة عدد الكتب المبيعة منها بغيرها تلافياً للإحراج. ومع ذلك، لو تطلعنا إلى قائمة الكتب الثلاثة الأكثر مبيعاً في فئة الفنون خلال آخر معرض للكتاب أقامه النادي الثقافي العربي في بيروت في ديسمبر 2016م ، لوجدنا أنها كلها حول فن الطبخ. وهي على التوالي: "مأكول الهنا"، "سلسلة المطبخ العالمي"، و"سفرة أناهيد الشهية".
إن رواج هذه الكتب الذي حاول البعض أن يحوِّله إلى قضية يقرأ فيها "سطحية" المتهافتين عليها، مقارنة بضعف الإقبال على كتب الفكر والعلم والأدب، هو في الواقع تعبير عن رغبة طبيعية وسليمة في تحسين جانب ولو صغير من جوانب الحياة اليومية: الحصول على طعام أفضل أو ألذّ. وهذا ما تحققه فعلاً هذه الكتب، من خلال مخاطبتها اهتماماً محدداً بوضوح لا لبس فيه ولا غموض. فقضية الكتب الأقل مبيعاً، وإن كانت تتناول شؤوناً أخطر من فن الطبخ، هي إذاً في مكان آخر، لا مجال هنا للدخول في تفاصيله.
في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، فوجىء جمهور "معرض الكتاب العربي" في بيروت، باحتلال كتاب "فن الطبخ" رأس قائمة الكتب الأكثر مبيعاً. وشكّل الحدث آنذاك صدمة محرجة للمثقفين ومادة للبحث والتحليل. ولكن سرعان ما أثبت رواج هذا الكتاب الذي كان واحداً، أنه ليس ظاهرة عَرَضية، إذ راح يتكرر في كل معارض الكتب العربية الكبيرة منها والصغيرة، من القاهرة إلى الرياض
إدارة المطابخ
تخصُّص جامعي
بالنسبة لغالبية الناس، يُعد الطبخ وإدارة المطبخ مهارة تكتسبها المرأة عادة من خلال التمرين ونصائح والدتها وما شابه ذلك. ولكن تطور الصناعة الفندقية في العصر الحديث أوجد حاجة إلى محترفين قادرين على تلبية مختلف الاحتياجات والأذواق. وهنا برزت المعاهد الفندقية لتلبِّي هذه الحاجة.
فعلى صعيد فن الطبخ بحدّ ذاته، أي الطبخ لفرد أو لعدد محدود من الأفراد، فإن كل المعاهد الفندقية تقريباً، تدرسه كحرفة وكمهارة فردية. ولكن ماذا عن الطبخ للكثرة، أي ما يسمى بالإنجليزية (Catering) ؟ ففي بعض الأماكن، مثل المؤسسات الكبيرة والثكنات العسكرية، والسفن الحربية، يجب على المطبخ أن يطعم عدة آلاف في وقت واحد، فيصبح إعداد الطعام أكثر تعقيداً بكثير مما هو عليه في المنزل العائلي، ويتطلَّب المطبخ في هذه الحالات سلسلة من المهارات المتخصِّصة تشمل الإدارة المالية والاتصالات والمراقبة الصحية، إضافة إلى حشد من الطهاة الذين يحتاجون بدورهم إلى من يوزِّع الأعمال المختلفة عليهم. وهذا ما جعل فن الطهي والطهي للكثرة متخصِّصين جامعيين بالمعنى الدقيق للكلمة، يُمنح الخريجون فيهما شهادات تتراوح ما بين البكالوريوس والماجستير والدكتوراه. إذ بات في بريطانيا وحدها نحو عشرين جامعة ومعهداً تمنح مثل هذه الشهادات.
ويشهد تدريس الطبخ وإدارة المطابخ تفريعاً متواصلاً بسبب تعدد الاحتياجات وثقل المناهج القديمة التي كانت عامة. ففي الهند مثلاً، وبعدما كان طلاب المعاهد الفندقية مجبرين على تعلُّم الطبخ للنباتيين وغير النباتيين في وقت واحد، بات الطبخ للنباتيين تخصصاً مستقلاً بدءاً من السنة الدراسية 2017م.
وفي دراسة أجريت في العام 2013م، لاختيار أفضل مخرجات المعاهد والجامعات في مجال إدارة المطابخ الفندقية والكبيرة، جاءت النتيجة على الوجه التالي:
• المدرسة الفندقية في لوزان، سويسرا.
• المدرسة الفندقية في لاهاي، هولندا.
• جامعة كورنيل.
• معهد غليون للتعليم العالي.
• أكاديمية الإمارات للإدارة الفندقية، دبي.
• مدرسة لي روش العالمية للإدارة الفندقية، سويسرا وإسبانيا.
• جامعة أوكسفورد بروكس، المملكة المتحدة.
• مدرسة بلوماونتن العالمية للإدارة الفندقية، لورا، أستراليا.
• جامعة فلوريدا العالمية.
• جامعة بوليتكنيك، هونغ كونغ.
الظاهرة عالمية
إن دهشة الناشرين الأمريكيين من حلول كتاب جولي شايلد حول الطبخ الفرنسي في المرتبة الثانية بين الكتب الأكثر مبيعاً لم يكن بسبب رواج هذا الكتاب، بقدر ما كان بسبب المرتبة العليا التي احتلها بعد عدة طبعات سابقة خلال نصف قرن.
فكتب فن الطبخ التي بدأت بالظهور في اليابان منذ مطلع القرن العشرين، وتفشت عالمياً غداة الحرب العالمية الثانية، أصبحت من لوازم التعبير الثقافي عن الهوية في كل بلدان العالم، تتوجه إلى السياح الأجانب بقدر ما تتوجه إلى الراغبين في تحسين مهاراتهم من المواطنين المحليين. وما من سائح يزور مكتبة في بلد ما إلا وسيجد فيها كتباً فاخرة الطباعة عن المطبخ الوطني فيها.
وفي عددها الصادر في 27 7- 2017-، نشرت مجلة "فوربس" استطلاعاً موسعاً حول مكتبة متخصصة في الطبخ والمطابخ في مدينة نيويورك، واسمها "آداب وفنون المطبخ"، واعتبرتها من معالم المدينة البارزة، والمقصد الأول في المدينة بالنسبة لذواقة الطعام والطهاة والباحثين في شؤون الطبخ والمطابخ. حتى ولو توقفنا أمام الأفلام السينمائية التي يلعب فيها المطبخ دوراً محورياً ويكون هو الموضوع الأساس فيها، تبقى اللائحة طويلة جداً. إذ ظهر المطبخ على الشاشة الكبيرة ميداناً صالحاً للتعبير عن كل شيء تقريباً، من أعمق القضايا الثقافية وأكثرها إثارة للجدل، إلى الكوميديا.
في عام 1988م، حاز فِلم "وليمة بابيت" للمخرج غبريال أكسيل أوسكار أفضل فِلم أجنبي. ويروي هذا الفِلم الدانماركي قصة امرأة فرنسية تدعى بابيت، كانت تعمل في أحد أرقى مطاعم باريس خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتهاجر إلى الدانمارك، حيث تعمل خادمة عند فتاتين عانستين، ابنتي قس بروتستانتي، شديدتي التحفظ دينياً والتقشف اجتماعياً. وعندما ربحت بابيت الجائزة الكبرى في اليانصيب وقيمتها عشرة آلاف فرنك ذهب، قرَّرت صرف المبلغ على إقامة وليمة باذخة لنحو دزينة من المدعوين تكريماً لذكرى والد الفتاتين. وبعد وقت طويل جداً من الفِلم مخصص لعرض مهارات بابيت في فن الطبخ الراقي والمعقّد، يقدِم المدعوون المحافظون على تناول الطعام بحذر شديد أولاً ثم باستمتاع، في ما هو في الواقع مواجهة بين الليبرالية والمحافظة البروتستانتية.
مكانته الاجتماعية والطبقية عند الهندوس
لم يُحَط المطبخ وحقوق استخدامه بهالة من القدسية في أية ثقافة في العالم كما هو حاله في الديانة الهندوسية. فهذه الديانة القائمة على توزع الناس على طبقات أعلاها البراهمن وأدناها الداليت أو المنبوذين وما بينهما عدة طبقات، تسمح بدخول المنبوذين مثلاً إلى بيوت البراهمن، ولكن من المحرّم تماماً عليهم الدخول إلى المطابخ في هذه البيوت. وفي حين يمكن لأبناء طبقة "الشيتري"، وهي أعلى طبقـة بعد البراهمن، الدخــول إلى مطابخ الطبقة الأعلى منها، يحرّم على البراهمن تناول أي طعــام أعده شخص من الشيتري.
ومن أغرب الحالات وأكثرها تشدداً في هذا المجال، هو ما كان متبعاً في بلاط ترافنكور (ولاية كيرلا الهندية حالياً). فقد جرى التقليد بأن يتزوج مهراجات ترافنكور، وهم من البراهمن، نساء من مجتمع "النير"، أعلى طبقة بعد طبقتهم. ولم تكن الزوجة تحمل أي لقب ملكي، بل تنادى بلقب "أمّاشي". وبسبب هذا الفرق الطبقي البسيط، كان يمنع على الزوجة دخول المطابخ ، وحتى غرفة الطعام، حيث يأكل المهراجا. وإذا حصل ذلك عن طريق الخطأ، ووطئت الزوجة بقدمها غرفة الطعام، توجب رد الطعام إلى المطبخ لوضعه على النار ثانية.
وتنطبق القاعدة السلوكية نفسها عنما تكون الملكة (المهراني) الحاكمة متزوجة من رجل أدنى من طبقتها، فيبقى بعيداً عن مطبخها وعن غرفة طعامها.
ومن التقاليد الأخرى التي لا تزال سارية على نطاق واسع في الهند والنيبال، هو نبذ المرأة تماماً مدة ثلاثة أيام خلال دورتها الشهرية. فيُمنع عليها دخول المطبخ تماماً، أو لمس أي طعام يأكله الآخرون من أهل البيت، أو حتى حلب البقرة.
صحيح أن بعض هذه القواعد السلوكية بدأ يتعرَّض للخرق المحدود في يومنا هذا، خاصة على أيدي الجيل الصاعد، غير أن كثرة الملتزمين بها لا تزال ترخي بثقلها، خاصة على قطاع المطاعم. ففي النيبال مثلاً لا توجد امرأة واحدة في مطبخ أي مطعم في البلاد. والقاعدة المعمول بها هي أن يكون كل الطباخين ذكوراً من طبقة البراهمن لطمأنة الزبائن.
المواجهة نفسها شاهدناها في فِلم آخر بين الليبرالية والمحافظة الكاثوليكية هذه المرة في فِلم "شوكولا"، المقتبس عن رواية لجوان هاريس بالعنوان نفسه. ففي هذه الدراما الكوميدية التي أخرجها لاس هالستروم، نرى امراة متخصصة في صناعة الشوكولاتة تصل إلى قرية فرنسية للاستقرار فيها. وتتمكن من خلال صناعة أنواع عديدة من الشوكولاتة وتقديمها لسكان القرية من قلب نمط حياتهم رأساً على عقب، وكسر سلطان الكونت الذي يتحكم بالقرية وكان يفرض عليها نظاماً محافظاً جداً بذرائع دينية تحرّم أكل الشوكولاتة، "لأن لذة طعمها خطيئة".
واتخذ الكثير من أفلام الطبخ والمطابخ طابع الدراما الاجتماعية الخفيفة، مثل فِلم "الليلة الكبيرة" للمخرجين كامبل سكوت وستانلي توسي (1996م)، الذي يروي قصة شقيقين إيطاليين مهاجرين إلى أمريكا في خمسينيات القرن الماضي، ويملكان مطعماً على شفير الانهيار والإفلاس، فيراهنان على ليلة كبيرة تمكنهما من إنقاذ المطعم.
ولعل أفضل ما في فِلم "من دون حجز" (2007م)، للمخرج الأمريكي سكوت هيكس، هو أداء الممثلة كاترين زيتا جونس وهي تلعب دور رئيسة طهاة في مطبخ مطعم فاخر في نيويورك، حيث تعمل بيديها وتوجه الجميع وتشرف على أن يبلغ مستوى كل طبق على حدة حد الكمال، وهو عمل يتطلب منها طاقة هائلة والتمتع بسلطة لا تقبل أي نقاش.
وكان المطبخ مسرح الأحداث الرئيس في أفلام كوميدية عديدة، من أشهرها "الجانح أم الفخذ" الذي يعود إلى عام 1970م، للمخرج الفرنسي كلود زيدي، وبطولة الممثل الكوميدي الشهير لويس دو فونيس. ويروي هذا الفِلم قصة ناشر متخصص في شؤون المطاعم، يقرر التحول إلى ناقد طعام، غير أنه يصطدم بظهور شركة لإنتاج الأطعمة بالجملة، فيقرر مع ابنه تدمير هذه الشركة مهما كلف الأمر. وفُهم هذا الفِلم منذ وقت ظهوره على أنه تعبير رمزي عن الصراع ما بين الثقافتين الأمريكية والفرنسية، كما كان يراه الفرنسيون في سبعينيات القرن الماضي.
أما فِلم "من يقتل كبار الطهاة في أوروبا؟"، للمخرج تيد كوتشيف، وبطولة جورج سيغال وجاكلين بيسيه، فهو الآخر كوميديا، محورها التحري عن قاتل مجهول يقتـل عدداً من أشهر الطهـاة المتخصِّصين في طبخ ألوان معيّنة من الطعام، ويتبيَّن في النهاية أنه رجل شره ومصاب بالسُّمْنَة والحل الوحيد لإنقاذ حياته واتباع حمية، هو بالتخلص من الطهاة الذين يحضِّرون أطباقاً لا يقوى على مقاومة تناولها.
حتى أفلام الكرتون دخلت المطابخ بدورها، ومن أشهرها فِلم "راتاتوي" الذي أنتجته شركة ولت ديزني عام 2007م، وأخرجه براد بيرد، ويروي قصة جرذ يعقد تحالفاً غريباً من نوعه مع رئيس الطهاة في مطعم فاخر.
ختاماً، لا بدّ من التوقف أمام فِلم "جولي وجوليا" (2009م) للمخرجة نورا أفرون الذي قامت ببطولته ميريل ستريب. وتتداخل فيه قصة جولي شايلد عند بداية تعلمها فن الطبخ في أواسط القرن الماضي، ونشرها أول كتاب في أمريكا عن فن الطبخ الفرنسي، ومحاولة فتاة شابة في عام 2002م إعداد كل الوصفات الواردة في هذا الكتاب.
وكان هذا الفِلم سبباً في تسليط الضوء مجدداً على كتاب جولي شايلد. ففي أغسطس 2009م، نشرت صحيفة نيويورك تايمز، أن كتاب شايلد وهو بعنوان "إتقان فن الطبخ الفرنسي" قد حلّ في المرتبة الثانية على لائحة الكتب غير القصصية الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة وسط دهشة عارمة في سوق النشر. وتوقعت الصحيفة أن يحل الكتاب في المرتبة الأولى على موقع "نيلسن" التصنيفي الإلكتروني في وقت لاحق.
أفضل مطابخ
في تاريخ السينما
في شهر يناير من العام الماضي 2016م، اختارت لجنة تحكيمية من مجلة "فود 52" المتخصصة في كل ما يتعلق بالطبخ والمطابخ أفضل ثلاثة عشر مطبخاً ظهرت في أفلام سينمائية، وكان تصميمها معبِّراً عن المناخ العام للفِلم والمزاج الذي يود إشاعته عند المشاهد. وتضمَّنت لائحة المطابخ الفائزة (من دون ترتيبها): المطبخ الدانماركي المتقشف في فِلم "وليمة بابيت"، الذي يبقى راسخاً في الذاكرة كما هو حال الأطباق التي تعدها بابيت. ومطبخ ميريل ستريب في فِلم "الأمر معقد" (2009م)، الذي "يجسد الحلم الكاليفورني بانفتاحه على غرفة الطعام وبالطاولة الرخامية البيضاء التي تستخدم أيضاً للعمل. ولميريل ستريب مطبخ آخر على لائحة الفائزين، ألا وهو مطبخها في فِلم "جولي وجوليا" الذي أنشأ طبقاً للمطبخ جولي شايلد الأصلي اعتماداً على صور فوتوغرافية قديمة.
ومن المطابخ الأخرى الفائزة كان هناك مطبخ فِلم "سابرينا" (1954م) الشاسع، حيث يحضر الخدم طعام أسيادهم، ويتناولون طعامهم المتواضع. وطبعاً مطبخ فِلم "شوكولا" الذي يجمع في تعبيره عن المطبخ المعد للعمل التجاري، ومطابخ الريف الفرنسي، بطاولته الخشبية الضخمة، والرفوف الخشبية المفتوحة وعليها كل ما نحتاجه.
للاطلاع على اللائحة كاملة:
https://food52.com/blog/15644-13-of-the-best-movie-set-kitchens-of-all-time