فرشاة و إزميل

فنسنت هوكنز

علَمٌ بين ورثة مؤسسي التجريد

الانطباع الأول الذي يرتسم في ذهن من يتطلع إلى أعمال الفنان الإيرلندي فنسنت هوكنز- سواء أكان ذلك في صالة عرض أم على شاشة الكمبيوتر- يعود بالذاكرة إلى أعمال بعض كبار أساتذة النصف الأول من القرن العشرين، مثل هنري ماتيس على مستوى اللون أو بول كلي على مستوى المساحات اللونية المؤطرة داخل خطوط دقيقة. ولكن التأمل جيداً في هذه الأعمال يؤكد أصالتها واستقلاليتها عن كل ما سبق، وإن كان الفنان لا يخفي إعجابه بجورج براك، الذي يحب أن يستشهد به كثيراً. وبين هذا وذاك، نتأكد أننا أمام فنان يُعد اليوم عن جدارة واحداً من بين أفضل ورثة فن التجريــد الذي ظهـر في العقــد الثاني من القرن العشرين.
في طريقنا نحو محترف الرسَّام الإنجليزي فنسنت هوكنز في لندن، كان علينا أن نمر في متاهة من أبواب الخشب والممرات الطويلة، وكأن الأمر مقصوداً لرفع منسوب حشرية الزائر وفضوله قبل الوصول إلى المكان المنشود. وعند وصولنا إلى البهو الواسع، حيث المرسم، استوقفنا عمل معلّق على الجدار إلى اليمين، وهو آخر أعماله الفنية: شكل برتقالة مطوي، يبدو عليه كأنه غير منجز بسبب شيءٍ من الهشاشة في شكله يجعله يبدو كأنه متروك قبل الانتهاء منه، ولكنه في الواقع مكتمل. إنها برتقالة ورقية تقع في الوسط بين عالم الرسم وعالم النحت، الفن الذي اصطلح النُقَّاد على تسميته بـ “البصري”.

الخفّة الناطقة
باشرنا تبادل الحديث مع الفنَّان هوكنز، واستغرق ذلك أكثر من ساعة. ولكن هذا الرسام مقتصد في اختيار الكلمات والتعابير، ومغرق في حبه لما يقوم به، وهذا كله مغلف بتواضع كبير يصل إلى حد الخجل.
الفنّان يلوّن ويرسم بألوان الأكريليك على قماش الكنفاس والورق والكرتون. بعض الأعمال مرتب داخل إطار. ولكن بعضها الآخر نافر وكأنه ينسلخ عن الحائط.
داخل الأستوديو، أتأمل تصاميمه الأوريغامية التي تنطق بالخفّة، وتتّصف بقصر العمر،
إلى درجة بعثت فيها شفرات المروحة الصيفية الحياة ببطء.
أوراق صغيرة ذات تشعبات متفرعة من الألوان، تنبض بنفحة من هواء المروحة في فضاء المكان.
هل لهذه حجة لخفيّة الأوراق؟

“إن طبيعة اللوحة غير المكتملة، والخالية من الموضوع، وغير المجازية، هي السبب الذي يجعلنا مشدودين إليها إلى هذا الحد”

أو، بالأحرى، هل الخفّة تشير إلى أن هذا الهواء العليل الذي يهب، والذي عوضاً عن الإحساس به فقط، قد بدأنا نبصره من الآن وصاعداً؟ هذا من دون شك ما تأمل حدوثه فنسنت هوكنز.
ومقابل الصورة التقليدية الراسخة في أذهاننا والقائلة إن الأعمال الفنية يجب أن تكون خالدة، أو مؤهلة للخلود، تثير الهشاشة المادية لهذه العمال قلقاً من قابليتها للزوال. فسألناه: “هل تدع بعض الأعمال تموت؟”
وأجاب “نعم، أفعل ذلك أحياناً. أو قد أستعملها من جديد على نحو مختلف.”
يكرّر هوكنز في حديثه مرات عديدة كلمة “اللعب”. ويشير إلى أهمية غير المتوقَّع، والاستكشاف في الفنـون. وينبّه إلى وجود عامل المفاجأة في الأعمال المطويــة، وإلى الأشكال الملطِّفة لتوزيع الألوان.
حدثنا عن مفهومه للعمل الفني “الكامل”، وكيف أن هذا التعريف يستجيب لحاجتنا إلى الإحساس بالذهول. وبالفعل، لم تفارقنا مشاعر الذهول هذه حتى آخر اللقاء، ذهول عاودنا مرة بعد أخرى أمام الأعمال العديدة التي أطلعنا عليها الفنان، فيما كانت إعادة ترتيب الأعمال المعروضة في المرسم تمضي أمام أعيننا.

قلْ الأمور الصحيحة
داخل الأستوديو، أتأمل تصاميمه الأوريغامية شديدة الخفة، إلى درجة بعثت فيها شفرات المروحة الصيفية الحياة ببطء.
أوراق صغيرة ذات تشعبات متفرعة من الألوان، تنبض بنفحة من رياح المروحة في فضاء المكان.
هل لهذه الريح حجة لخفية الأوراق؟
أو، بالأحرى، هل الخفة تشير إلى أن هذا الهواء العليل الذي يهب، والذي عوضاً عن الإحساس به فقط، قد بدأت أبصره من الآن وصاعداً، هو من دون شك ما تأمل حدوثه فنسنت هوكنز فيما يتعلق بالألوان نفسها.
ولمرات لا تحصى، لطالما أتى على ذكر الحائط الطويل في مشغله، حيث حضرت لترقد، في ظلال نزوات اختراعاته، الثنايا الهشة، الطلاء القاتم وفتات الورق المقوى، فوق السرير الأبيض للقرميد المطلي.
لوران بودييه
تموز 2016
مقتطفات من بيان فنسنت هوكنز “say the right things”

نص ومحادثات: لوران بودييه
طبعة أيلول 2016.

التجريد المفهوم
النماذج والأشكال والخطوط تشكّل معاً سمفونيات في داخل أطر مختلفة الأحجام. لكنها كذلك تجول طليقة مثل قطعة موسيقية مرتجلة على جدران الأستوديو وعلى أرضه. إنها تتلاقى وتقيم علاقات فيما بينها أو تنفرد، كما لو كانت تائهة في التأمل على جانب من الجدار.
نسأله عن رأيه في فكــرة الفــن المجرد، فيجيب بانفعــال شديد بإنه يكره العبــارة. ونسألـه مجدداً : “لماذا تكرههـا؟” فيقول : “لأنها مضلِّلة”.
ونتحدث طويلاً عن فكرة التجريد، ففي رأيه أن الفن المجرد يمكنه أيضاً أن يكون مفهوماً، وقد لا يعني في الواقع الكثير في أعمال فنان ما. فبعض الفنانين يجدون أن التجريد نفسه يمكنه ألَّا يكون مفهوماً، أو أن فهمه يكون بطرق مختلفة بالنسبة للناظر إلى اللوحة أو متذوق فن الرسم والتشكيل، كما هو حال فنسنت هوكنز.
تأملنا سوية لوحة جميلة سمّاها “قوس”. ولما سألناه عن سبب تسميتها كذلك، وما إذا كان ذلك يعود إلى أنه رأى هذا الشكل، أم قصد تمثيله في اللوحة؟ تاه مضيفنا في أفكاره ، وأجاب ببساطة أنه لا يذكر لماذا فكر بهذه التسمية.
في تلك اللحظة، أشار إلى لوحة على الأرض، فيها تضارب حاد بين بقع بيضاء وأخرى سوداء. وفي اللوحة مساحات تعبيرية مبهمة، والبقع فيها تتجاوز التجريد لتصبح فضاءات، وبصيص أضواء.. أخذ اللوحة وعلقها على الجدار بجانب لوحة أخرى، ألوانها مماثلة، لكنها في تشكيل لم ينتهِ من العمل عليه حتى آنذاك. وراح يطلعنا على مضمون محاورة غير مسموعة بين اللوحتين، ولكنها بالتأكيد منظورة، محاورة بين الخطوط والألوان.

اللعب قبل الانضباط في موضوع محدد
خلال عمله على لوحة أو تركيب ما، يبدو هوكنز وكأنه ينطلق من دون أية ضوابط تلزمه بمتابعة مسار محدد، أو تقيّده إلى موضوع محدد. فمتعته الكبيرة تبدو في ما هو قادر على استنباطه خلال تقدم سير العمل. وفي هذا الصدد نسمعه يقول:
“إن طبيعة اللوحة غير المكتملة، وغير ذات الموضوع، وغير المجازية، هي السبب الذي يجعلنا مشدودين إليها إلى هذا الحد. إنها تنطوي ضمناً على أسرار طبيعة شخصية، انفعالية، لكنها كونية أيضاً، إلا أنها لا تكشف عن كل شيء. ربما، في النهاية، هذا ما يجعل العمل الفني غير نهائي”.
ويشبِّه هوكنز العمل في الفن “بحفر حفرة في البستان بحثاً عن كنز دفين. فاللعب، مرة أخرى، هو مفتاح العملية”. إنه يفترض الانخراط الكامل، وفي الوقت نفسه عدم الإفراط في التأنق بشأن المواد الخام، وجعل تدمير اللوحة جزءاً من اللوحة نفسها. وهذا ما يقتضي شيئاً من الطفولة، أكان بعصر طلاء “الغواش” مباشرة من أنبوبته، لرسم خطوط، أو بعدم الاكتراث لحجم “الكنفاس” الكبير، بل بالإقبال عليه رسماً وتلويناً وتشكيلاً.

“النماذج والاشكال والخطوط تشكّل معاً سمفونيات داخل أطر مختلفة الاحجام، لكنها كذلك تجول أيضاً طليقة مثل قطعة موسيقية مرتجلة على جدران الاستوديو وعلى أرضه”

هذا الفنان، وفي كثير من الوجوه، هو أشبه بالطفل، لناحية انفتاح حدسه، أو روح الفكاهة العالية لديه التي تنضح بها الأعمال. ومهما بدا الكلام مكرراً، فإن الفنان وعمله الفني على السواء، ينطويان على براءة فطرية، حيث يعاد بعث المخيلة، فلا تتبلّد.
يقول هوكنز في مناسبة الحديث عن اللعب إن كل أعماله المرصوفة على الجدار يمكن وضعها كلها في حقيبة واحدة. ويضيف أن صاحب أحد الغاليرهات قال له ذات مرة: “أنت مثل الساحر الذي يملك عرضاً كاملاً يخفيه في حقيبة”.
ويذكرنا الفنان بما سبق له أن أدلى به في أحاديثه أكثر من مرة حول مقاربته العمل الفني وكأنه لعب، ويتوسع في تفسير ذلك بقوله: “إنني أميل إلى التجاوب مع هذه المقاربة. إن اللعب جزء أساسي من الفن. وأن تكون أشبه بطفل، بمزاج منفتح، كما يُفترَض، فهذا قد يقودك إلى نتائج مثيرة للغاية… أحياناً يكون العمل ما نظنه أنه العمل، وليس العمل نفسه. والتأثيرات في المحيط، التي يمكن أن تظهر أثناء العملية الفنية، قد تحتوي على أكثر مما كان مقصوداً في الأصل”. فالأشياء، أو المادة ،أو الفكرة الضائعة والمستعادة، قد تحتل موقع المركز. ومن خلال هذا البحث المستمر والانفتاح، يفيض العمل الفني بالحدس والابتكار. وهذا ما يصفه فنسنت هوكنز بأنه “العمى الحكيم”.
وحين سألناه عن رأيه في التكليف بعمل فني، قال إنه لا يستطيع أن ينتج عملاً عن موضوع معين محدد سلفاً. “لن أعرف كيف أفعل هذا”. وأضاف: “أما إذا طلبوا إلي تنفيذ عمل شبيه ببعض الأعمال، فهذا الأمر ممكن حتماً”.
ختاماً، كان لا بدّ لنا من أن نثير معه في حديثنا الفرق الذي يراه ما بين الرسم على القماش، والأعمال الثلاثية الأبعاد التي تبدو كأنها صارت تثير اهتمامه أكثر من ذي قبل في السنوات الأخيرة. وفي هذا الصدد سمعناه يقول : “أنا أرسم بالأكريليك على القماش والكرتون والورق، ومؤخراً، بدأت بصنع قطع ثلاثية الأبعاد. عادة ما أعمل بطريقة ارتجالية، لا أعرف من البداية إلى ماذا سينتهي ما بدأت به. إني أعاني من الحساسية تجاه الإطارات التي توضع حول للوحات والتي تجعلها تبدو كنوافذ. ولذا، صرت أفضّل الأشكال النافرة من الأعمال وغير المتسّقة. وقد تبدو بعض الأعمال كما لو أنها أقرب إلى النحت مما هي إلى الرسم. لكن هذا الفرق ليس مهماً، المهم هو أنه كله يندرج في إطار التشكيل”.

سيرة مختصرة
فنسنت هوكنز فنان بصري إيرلندي، ولد في هرتفوردشاير عام 1959م. ودرس في معهد ميدستون للفن في كنت ببريطانيا منذ عام 1984م وحتى 1987م، تاريخ تخرجه بدرجة بكالوريوس في فن الرسم، ليستقر بعد ذلك في بريطانيا.
كان أول معارضه في سنة تخرجه، في كانتربري في بريطانيا، وتوالت معارضه خلال السنوات اللاحقة في عشرات المدن البريطانية والأوروبية وصولاً إلى متاحف الولايات المتحدة.
شق هوكنز طريقه ليكون واحداً من أهم الفنانين البريطانيين الأحياء في عام 2006م، تاريخ حصوله على جائزة جون مورز (التي عاد ووصل إلى قائمتها النهائية في عام 2012م)، وترشيحه في السنة النهائيــة لجائــزة جيروود المرموقة في العام نفسه.
وبعد ذلك بسنتين، تكرست هذه المكانة باختياره من بين عدة متنافسين لتنفيذ مشروع تزيين قاعة “ترايسي إيمن” في الأكاديمية البريطانية. وكرّت بعد ذلك سلسلة الجوائز العديدة التي حازها، ومعارضه التي كان آخرها في مطلع العام الحالي.

أضف تعليق

التعليقات