مَنْ منّا لا أسرار في حياته؟ ومَنْ منّا لا يعرف أن محيطه يكتم عنه كثيراً من الأسرار؟
فكل المعارف والمشاعر ومكوّنات وعي الإنسان تنقسم إلى قسمين: قسم متبادل مع محيطه، وقسم يحتفظ به لنفسه أو ضمن دائرة مغلقة. إن السر درع يحمي به الإنسان نفسه أو مصالحه من الآخرين. ولأن «الحماية» من مستلزمات الحياة، ومن شروط البقاء، لا عجب في أن تنطوي هذه الحياة على سلسلة من الأسرار تمتد من أعماق نفس الطفل، وحتى قيادات الدول والمجتمعات.
قد يكون الاحتفاظ ببعض الأسرار مرهقاً ومكلفاً، ولكنه يبقى أقلّ تكلفة من إفشائه. ولذا، يبدو السر أشبه بملكية خاصة، تحميها الأعراف الأخلاقية، ومنها ما هو محميّ قانوناً. وكي لا يبقى مفهوم السر سراً يستطلع حسام الدين صالح في هذا الملف تاريخ السر، وحضوره في حياتنا اليومية وأثره فيها ماضياً وحاضراً، كما ينقلنا إلى أبرز مواقع تجمع الأسرار من حولنا في هذا العالم.
تبدأ حياة الإنسان بسرٍّ وتنتهي بآخر. فعند تكوّنه في رحم أمه يكون جنسه سراً، وعندما يُوارى الثرى تحضر صورة الموت كواحد من أكبر الأسرار التي شغلت الإنسانية على مرّ العصور. وما بين الولادة والموت تتكدس في حياة هذا الإنسان أسرار لا حصر لطبيعتها ولا للدواعي إلى الاحتفاظ بها أسراراً.
السر في اللغة
السر ما أَخْفَيْتَ، كما يقول ابن منظور في لسان العرب؛ وكثيره أسرار، والسريرة مثيل السر وكثيرها سرائر؛ وكل سر مخفي بالضرورة، فالسر في اللغة يؤخذ من مادة (س ر ر) التي تشير إلى إخفاء الشيء؛ وكأن اللغة العربية قد احتاطت لاحتمال ظهور الأسرار وطبيعتها، فعدّت السر من ألفاظ الأضداد التي يمكن أن تستخدم في المعنى وعكسه، فيمكن أن يطلق السر على الإعلان أيضاً، مثلما جاء في قول الله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ)، أي: أظهروا الندامة؛ ومثلها قول الله تعالى: (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)، وقد فُسِّر الإسرار هنا بالإظهار لأن إبلاغ السر إلى الآخرين يقتضي إظهاره لهم.وعندما يذكر السر اصطلاحاً فإنه برأي الرّاغب الأصفهاني، يعبِّر عن (الحديث المكتّم في النّفس)، وهو عند الكفوي: «ما يسرُّه المرء في نفسه من الأمور التي عزم عليها»، أما مجمع الفقه الإسلامي فقد اعتبر السر كل: «ما يفضي به الإنسان إلى آخر مستكتماً إياه من قبل أو من بعد، ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان إذا كان العُرف يقضي بكتمانه، كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التي يكره أن يطلع عليها الناس»، ويضع الشيخ شريف بن إدريس تعريفاً جامعاً للسر بقوله إن السر هو كل «ما يقوم في الذهن مقيداً بالكتمان».وهكذا، يزداد السر تمنعاً عن تعريف واحد جامع. فرغم بساطته اللغوية، يصعب وضعه في إطار محدَّد خاصة حينما يتعلَّق الأمر بالمفاهيم، لارتباط الأسرار بشتى مجالات الحياة: الشخصية، والسياسية، والعسكرية، والقانونية، والاجتماعية.
يقال إن الإنسان كائن اجتماعي وثقافي ولغوي، إلا أن كل هذه الصفات لا تنفي عنه صفة السرية الملازمة لكثير من تفاصيل حياته. إننا اجتماعيون لأننا لا نستطيع العيش منعزلين عن الآخرين، وسرّيون لأننا لا نسطيع أن نعيش مكشوفين تماماً في حال الاتصال بالآخرين. نحن ثقافيون لامتيازنا بالوعي والعقل وحُب المعرفة، لكننا سرّيون لأننا نحب أن نعرف أكثر مما نريد أن يعرفه الآخرون عنا. نفخر بكوننا كائنات لغوية تجيد التواصل، دون أن نسمع افتخاراً مشابهاً بالأسرار التي تميّزنا عن بقية الكائنات التي تعيش وتموت دون أن تشعر بوخز السر، أو تتعرَّض سلباً لتأثيراته عند كتمانه أو إفشائه.
كأن السرّ يشطرنا إلى نصفين، فما زالت الحياة منذ وعينا بها مقسّمة إلى مُكتَشَفات ومجهولات. كذلك، فإن بعض حياتنا الشخصية معروف للآخرين: ولادتنا، نشأتنا، تعليمنا، حالتنا الاجتماعية وغيرها، وبعضها الآخر نطويه بالكتمان طوعاً وإصراراً، نكشفه عندما نريد، ونخفيه عمّن نريد.
وللسرّ جاذبية تشدّ غرائز الآخرين إلى اكتشافه. ويمكن لسعي هؤلاء إلى اكتشافه أن يكون تطفلاً وعيباً سلوكياً، كما يمكنه أن يكون بحثاً حميداً. ألم تبدأ كل الاكتشافات الكبرى في تاريخ الإنسانية بملاحظة وجود سرٍّ غامض في موضع ما؟
هكذا يبدو أن لكل شيء سراً، نحن، والكون، والحياة. ومن كان منّا بلا سرٍّ فليبح به.
تاريخ السر
لا تاريخ محدد لبداية السر ولا نهاية، وكأنه أمر ساكن، قائم في نفس الإنسان وفي العالم من حوله. لا يتطور ولا يتبدل، بل يقتصر التطور على النظرة إليه وعلى التعامل معه.
أضخم مخازن الأسرار
من أضابيرها المظلمة خرجت لنا أختام «سري للغاية» و«سري جداً» لتصبح كليشيهات قريبة إلى حياتنا؛ فأجهزة المخابرات العسكرية والأمنية في العالم هي أكبر أجهزة البحث عن الأسرار وأكبر مخازنها أيضاً.ومن أقدم ما وصلنا من كتابات تتناول سرية عمل المخابرات العسكرية، هو الفصل الثالث عشر من كتاب الصيني صن تزو «فن الحرب» في القرن الخامس قبل الميلاد، والمخصص لعمل المخابرات وأنماطه وأهمية الاستطلاعات السرية. فالسرية تغلّف كافة مناحي الاستطلاعات العسكرية والأمنية، بدءاً بالسرية التي يجب أن يتصف بها العاملون فيها، وصولاً إلى الإبقاء على الأسرار طي الكتمان بعد إحالتهم على التقاعد، عملاً بشرف المهنة والعهد الذي يكونون قد قطعوه على أنفسهم. ويُعد جمع الأسرار وتنظيمها والاستفادة منها من أقدم النشاطات التي زاولها
الإنسان في تاريخه، وما أجهزة ووكالات المخابرات الحالية - بأنظمتها وأساليبها وأدواتها الجديدة - إلا شكلاً حديثاً ومتطوراً لمهنة قديمة مارستها البشرية عبر أجيالها المتعاقبة، حماية لمجتمعاتها وحدودها السياسية والجغرافية.
قد نستطيع القول إن تاريخ السر سبق وجود اللغة، ومع سبقه لتاريخ الكلام والكتابة تطوّر التعامل معه بتطورهما. ولا نستطيع من الناحية التاريخية الفصل بين السر وكتمانه. فمنذ العصور القديمة تأكد الإنسان من قيمة حفظ الأسرار وعاقبة إفشائها من خلال حرصه على مصلحته الشخصية، وعلى مصلحة وجوده في الجماعة التي يعيش فيها.
منذ ذلك التاريخ البعيد عُرف احترام السر كأحد مكارم الأخلاق التي تحافظ على حرية الناس ومصالحهم الاجتماعية. وتبعاً لذلك وجد السر مكانه من الصيانة والحرمة في مدونات الأخلاق التي ظهرت في المجتمعات القديمة. ثم تبع ذلك سن القوانين الحامية له، فيما ظهر حينها من قوانين، كقوانين حمورابي في بابل في القرن الثامن عشر قبل الميلاد التي كانت تقوم على مبدأ المعاملة بالمثل، وفقء العين عقوبة لمن يتعمد النظر في أسرار الآخرين، ومثلها قوانين الأمانة وحفظ السر التي ميّزت الحياة الاجتماعية عند قدماء المصريين.
وقد وجد السر مكانة أثيرة في حياة العرب، وكان حفظ السر يُعد من مكارم الأخلاق والمروءة، وتشهد بذلك حياتهم الاجتماعية التي وثقتها دواوينهم الشعرية.
السر في القرآن الكريم
ورد (السر) في القرآن الكريم بصورة مباشرة بلفظ (السر) ومشتقاته، وورد بصورة غير مباشرة في الآيات الحاضة على الوفاء بالعهود والأمانات والشرف والمروءة، وفي الآيات المحذِّرة من اللغو، والخيانة، وهتك الأستار والأعراض، والإساءات والأذى.
ومن الآيات التي ورد فيها اسم (السر) صراحة، قوله تعالى: (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الفرقان:6)، وقوله تعالى: (وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (طه:7)، وقوله تعالى: (سِرًّا وَعَلَانِيَةً) (إبراهيم:31)، وقوله تعالى: (ويَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) (التغابن:4)، وقوله تعالى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) (الملك:13)، وقوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) (التوبة:78)، وقوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) (يونس:54)، وقوله تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا) (التحريم:3)، وقوله تعالى: (تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ) (الممتحنة:1)، وقوله تعالى: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) (الطارق:9) وغيرها من الآيات.
ومن الآيات العامة التي حضَّت على احترام الأسرار وعدم إفشائها قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (الإسراء:34)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ • وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (الأنفال: 27-28)، وقوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83) وغيرها من الآيات.
احترام الإسلام للأسرار
السر في الشريعة الإسلامية جزء من الإنسان، يجب احترامه معنوياً بحمايته من كل أذى، كما وجب احترام كيانه مادياً بعدم الإضرار به من أي جانب. ولهذا منع الإسلام إفشاء أسرار الآخرين، وحض على كتمانها، لما في إفشائها من ضرر على حياة الأشخاص والمجتمعات؛ وبهذا عدّ الإسلام إفشاء السر من المحرمات إذا ارتبطت بضرر.
كلمة السر
للسر كلمته التي لولاها لأصبحت أسرارنا في مهب الانكشاف، إلا أن كلمات السر لم تلجم بشكل كامل اللصوص والساعين إلى نهب أملاك الآخرين وكشف أسرارهم، منذ الاستخدام غير المشروع لقاسم بابا لكلمة سر شقيقه علي بابا في حكايتهم المشهورة التي روتها قصص ألف ليلة وليلة، وإلى يومنا هذا الذي يتزايد فيه وقوع نفوسنا في شر نسيانها، ويتبارى فيه أيضاً قراصنة المعلومات و(الهاكرز) بقدراتهم التقنية على الوصول إلى هذه الأسرار عبر كلمات المرور الإلكترونية.لقد أحاطت بنا الأسرار من كل جانب، ولم تعد مجموعة من كلمات السر كافية للوفاء بمتطلبات الحياة الحديثة، حيث الآلات التي نخترعها لراحتنا باتت تطالبنا بكلمات سر قوية ومغايرة لأي كلمات أخرى، حتى تستطيع أن تخدمنا بأمانٍ كامل. ولهذا يأمل كثيرون في مجيء اليوم الذي نستطيع أن نستبدل به كلمات السر ذات الأحرف والأرقام والرموز، بأدوات أخرى أكثر حماية للأسرار، وأقل إرهاقاً للذاكرة، مثل بصمات العين والأصابع ونبرات الصوت.
ويرتبط عدم احترام الأسرار في الإسلام بكثير من الأفعال المنكرة والممنوعة مثل التجسس الذي يرتكز على كشف أسرار الآخرين من عورات وكشف أسرار الدول والمجتمعات ونقلها للأعداء، ومثل الغيبة التي لا تكون إلا بكشف أسرار الناس أمام الآخرين سواء أكانت هذه الأسرار والمعلومات صحيحة أم خاطئة، مثلما يقول الجاحظ في هذا الشأن: «كل سر في الأرض إنما هو خبر عن إنسان، وطوي عن إنسان، فله في الغيبة أكثر الحظ، وجلها كلفة لا ضرورة».
ومن الممنوعات المرتبطة بعدم احترام أسرار الآخرين النميمة، التي تعني نقل الكلام بقصد الإفساد، ويُعد بعض العلماء النميمة إفشاءً للسر في حدِّ ذاتها مثل الإمام الغزالي الذي يقول: «حقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه»، ومن العلماء المسلمين الذين أشاروا إلى ارتباط السر بالنميمة الإمام الماوردي الذي قال كلمته الحكيمة: «إظهار الرجل سر غيره أقبح من إظهار سر نفسه؛ لأنه يبوء بإحدى وصمتين: الخيانة إن كان مؤتمناً، والنميمة إن كان مستخبراً».
السرّ في الرواية
حيث للغموض معنى
لكل رواية سرها الذي يتطلَّب من القارئ الوصول إليه خلال عملية القراءة. وقد يتعلَّق هذا السر بشخصية الكاتب الحقيقية أو بشخصيات الرواية المتخيلة؛ وبعد الفراغ من القراءة يتضح أكثر سر النجاح أو الفشل الذي تحقَّقَ للكاتب في مشروعه الروائي. ولهذا، لا تفلت الروايات عموماً من دورانها في فلك الأسرار. فالكتابة مهمة خاصة تبدأ بعيداً عن أعين الآخرين بوصفها إنتاجاً لسرٍّ يُراد لكشفه أن يكون مهمة عامة للجمهور. وللأسرار حضورها القوي في أدب الغموض عموماً، وفي أدب الرعب. والأدب البوليسي خصوصاً. كما يعدّ أدب الخيال العلمي حاضنة لعشاق الأسرار، ومنتجاً في أحيان كثيرة لكثير من الأسرار التي تحوّلت فيما بعد إلى حقائق ومكتشفات واختراعات استفادت منها البشرية. وقد بنى هذا النوع من الأدب شهرته وجاذبيته على الشغف الإنساني باستكشاف الأسرار والمجهولات. أما استخدام السر كموضوع روائي، أو استعماله كمدخل للبناء الروائي من خلال اسم الرواية وعنوانها الأوّلي، فما زال تقليداً فنياً طيّعاً ومؤثراً عند روائيي الأمس واليوم.«أسرار» هي إحدى هذه الروايات التي برع فيها الكاتب النرويجي كنوت هامسون، الحائز نوبل للآداب عام 1920م، وقد كانت هذه الرواية نفسها سراً مخفياً عن قرَّاء اللغة العربية قبل أن تترجم إلى اللغة العربية خلال العام الجاري 2016م، أسوة بروايته الشهيرة «جوع». وبنفس الاسم «أسرار» كتبت الروائية الأمريكية المعاصرة دانيال ستيل روايتها بلمستها الرومانسية والبسيطة التي اشتهرت بها. وبروايته «سر» المنشورة في العام 1999م فاز الروائي الياباني كيغو هيغاشينو بجائزة اليابان لكتاب الغموض، لتترجم بعدها إلى الإنجليزية بعنوان «ناوكو» وهو اسم أحد شخصيات الرواية. ومن الكتَّاب الذين وظفوا الأسرار في أعمالهم الأدبية شكلاً ومضموناً عالم الآثار البريطاني بول سوسمان خصوصاً في روايته «آخر أسرار الهيكل» التي تتخذ من الشرق الأوسط وتعقيداته مادة لبنائها الروائي. ومنذ روايته الأولى «الشارع السري لمكان الاختباء» المنشورة في عام 1989م وإلى عام 2008م حيث نشر روايته «باب الأسرار»، يظل الروائي التركي أحمد أوميت وفياً للأسرار ولأدب الغموض الذي اشتهرت به أعماله. وتمضي في ذات الطريق الروائية اللبنانية نجوى بركات في روايتها الأخيرة «لغة السر» المنشورة في عام 2004م. وللأديب الجزائري الدكتور محمد مرتاض رواية بعنوان: «وادي الأسرار» نُشرت في عام 2013م لم يكتفَ من السر فيها بالعنوان فقط، بل ذيّل غلافها بعبارة لمحمد أبو سليم عن السر قال فيها: «للسر سر لا ينكشف إلا في بقائه محجوباً متمنعاً»، وتحكي هذه الرواية عن يوميات الثوار ضد الاستعمار الفرنسي إبان الثورة الجزائرية. ومن عمالقة الأدب العربي الذين وظفوا الأسرار في أعمالهم توفيق الحكيم في مسرحياته «سر المنتحرة»، وعلي أحمد باكثير في مسرحياته «سر شهرزاد»، و«سر الحاكم بأمر الله»، ونجيب محفوظ في مجموعته القصصية «التنظيم السري».ويمكننا أن نصف الروائي الأمريكي دان براون بكاتب الأسرار. فأغلب رواياته التي أثارت كثيراً من الضجة تتحدث عن عوالم سرية وشفرات ورموز، وحركات باطنية، ففي كل أعماله وهي الحصن الرقمي، وحقيقة الخديعة، وملائكة وشياطين، والرمز المفقود، وشيفرة دا فينشي، والجحيم، يبني دان بروان معمار الرواية لتتحرك تحت أسقفها شخصيته المركزية التي ابتكرها من خياله البروفيسور «روبرت لانغدون» الأستاذ الجامعي المتخصص في الرموز الدينية والمجتمعات الباطنية.. ويعترف دان براون نفسه بسطوة الأسرار على الناس، حيث نقلت له هيئة الإذاعة البريطانية في العام 2004م قوله: «إن الأسرار تجذب اهتمامنا جميعاً»، كتفسير لإقبال القرَّاء على شراء رواياته.
تطور التعامل معه
يحفظ التاريخ بين دفتيه كثيراً من النهايات المؤلمة لأشخاص قضوا حتفهم على وقع أسرار ائتُمِنوا عليها ثم كشفوها. وكان إفشاء السر يسمى «الخيانة»، وكانت العقوبة تصل إلى القتل. وبتطور الأعمال والمهن صار الكشف عن السر المهني جريمة يعاقب عليها القانون، بعد أن كانت في الأساس التزاماً أخلاقياً، حيث حفظت لنا كتب الطب القديمة وجوب التزام ممارسي الطب عدم إفشاء أسرار مرضاهم، وما زال قَسَم أبقراط الذي يؤديه اليوم كثير من خريجي كليات الطب شاهداً على هذا الالتزام الأخلاقي تجاه الأسرار. وتقول كثير من المصادر التاريخية إن أول النصوص العقابية لكشف الأسرار المهنية كانت على عهد الإمبراطور الفرنسي نابليون الأول في القرن التاسع عشر. وقد واجه تعريف مفهوم السر من الناحية القانونية وكيفية التحقق من وقع الجريمة كثيراً من المصاعب وعدم الاتفاق على نتائج موحدة،
أقفال السر عبر التاريخ
- الشمع، - الوشم، - الحبر السري، - الخوارزميات،
- الاختزال، - الشفرة، - الكود - كلمة المرور،
- تعديل صدى الصوت، - توحيد لون الكتابة مع الخلفية، - السودوكو، - تطبيقات الستيغانوغرافي
فهل السر مثلاً هو كل ما يضر إفشاؤه بالسمعة أو الكرامة، أم هو علاقة تتطلب التزاماً بين شخصين كما في القانون الإيطالي، أو يمكن اعتبار الأخبار أسراراً كما في القانون الفرنسي؟ وقد وجدت الأسرار المهنية طريقاً للقوانين الجنائية في كثير من الدول، وربما ترتبت على جريمة كشف الأسرار عقوبات مدنية أو مالية. وقد تجلت هذه القوانين بصورة خاصة فيما يتعلَّق بالأسرار الطبية والقانونية والمالية وأسرار الدولة.
مدة صلاحية الأسرار
كثير من الأسرار لا تستطيع العيش في الخفاء إلى الأبد، ومنها الأسرار السياسية والعسكرية، فبعضها تتكفل الأحداث والأيام بكشفها، وبعضها تُفرج عنه الدول بموجب عملية رفع السرية عن الوثائق التاريخية التي تتجاوز عدداً محدداً من السنوات تختلف من دولة إلى أخرى، وتكون غالباً مسنودة بقوانين الوثائق السرية وقوانين حرية الوصول إلى المعلومات الحكومية.. ويقوم عديد من المؤسسات الدولية - كالبنك الدولي - باتباع سياسة رفع السرية عن وثائقها بعد انقضاء عشرين عاماً.وبسبب شغف الناس الفطري بمعرفة أقصى ما يمكن معرفته عن الآخرين، يبذل البعض جهداً في التنقيب عن الأسرار، إرضاءً لأناس يريدون أن يعرفوا أكثر. وفي بعض الحالات، يشكِّل ذلك جزءاً مهماً من عمل الصحافة، ويكون محموداً إذا كان في «فضح» السر منفعة عامة. ولكنه في أحيان أخرى، يبقى مذموماً، حتى ولو تمكن من الالتفاف على القوانين المرعية الإجراء. فالصحف البريطانية مثلاً التي تصب اهتمامها على نشر أسرار الحياة الشخصية للعائلة المالكة وغيرها من المشاهير، تعرف باسم «الصحف الصفراء»، وهذه التسمية باتت ذات نكهة سلبية تشير إلى تدني مستوى الأداء الصحفي.
لقد توسع المجال الذي يتحرَّك فيه السر. ولم يعد علاقة بين الإنسان ونفسه، أو بينه وبين من يبوح لهم بأسراره. كما لم يعد الحفاظ عليه مجرد خُلق ضمن فضائل المروءة. فقد تحوَّل السر إلى منظّم لكثير من العلاقات الجماعية. وأصبحت السريّة مبدأ يرتكز عليه كثير من المهن والوظائف مثل الطب والخدمات الاجتماعية، والقانون، والصحافة، والاستخبارات، والمعلوماتية، والمصارف، والضرائب، البريد والمراسلات. واستقوى مبدأ السرية مع تطور الوظائف المرتبطة به، وأصبح الإخلال به يهدِّد مستقبل المهن، ويعرّض حياة الأفراد الشخصية للضرر.
غير أن المفارقة الكبرى في تاريخ السر هي في ما هو قائم من حولنا اليوم. ففي عصر يتباهى بالعولمة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي ونشر المعارف، «كل المعارف»، نشهد من وسائل حفظ الأسرار التقنية والقانونية ما لم يشهده أي عصر مضى. ألا يكفي هذا للتأكيد على أن ازدياد التواصل لا يقلل من الأسرار المختزنة بل يزيدها؟
وللسر: كاتمٌ وصاحبٌ وأمين
صاحب السر
هو كل شخص أوكلت إليه مهمة حفظ سر ما. وقد اشتهر بهذا اللقب في الإسلام الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، بعد أن أودعه الرسول، صلى الله عليه وسلم، أسراراً ومعلومات تتعلَّق بأسماء المنافقين حينها، وهي أسرار لم يكشفها لغيره من الصحابة.
كاتم السر
أما كاتم السر فهو القائم بوظيفة نشأت في بلاط الخلافة العباسية، كان يقوم بها أحد المقربين من الخليفة ويُعهد إليه بكتابة الأوامر والرسائل والمدونات الإدارية. وبحكم الوظيفة والقرب من دوائر القرار، كان المسؤول عن هذه الوظيفة قريباً من أسرار الحكم والحكام، ولهذا وصف بكاتم السر. وتطورت وظيفة كاتم السر في دواوين الإنشاء التي تطورت بدورها في الممالك الإسلامية، وأصبحت تتطلب كثيراً من المهارات مثل تعدد اللغات اللازم للمراسلات الخارجية، ولانفتاح الممالك الإسلامية حينها على تخوم أوروبا وآسيا. حتى إن كاتب السر كان يلقب أحياناً بـ «لسان الممالك» و«لسان ملوك الأمصار». فقد كانت وظيفته مشابهة في العصر الحديث لوظيفة وزراء الإعلام والخارجية والناطقين باسم الحكومات.
أمين السر
ما زالت وظيفة «أمانة السر» وظيفة إدارية موجودة حتى عصرنا الحالي. لكنها تقتصر في كثير من الدول العربية على السلك القضائي، فأمين السر، أو «أمين سر التحقيق» هو الشخص المكمّل للهيئة القضائية والمكلف بمساعدة عمل النيابات العامة بتجهيز محاضر التحقيق في القضايا والقرارات والجلسات وإعداد اليوميات وتحرير الإعلانات، والقيام بالأعمال الكتابية المتطلبة في الدعاوى القضائية، وكل ما يتعلق بالمساعدة القضائية.
وقد تخرج وظيفة أمين السر عن السلك القضائي، لتعبر إلى الفضاء الإداري العام، حيث تصبح مهمة تولي الأعمال الكتابية من حفظ محاضر الاجتماعات، وإعداد المراسلات، وكتابة الإشعارات، ومتابعة التكاليف الإدارية، وحفظ سجلات العمل وغيرها من أعمال «السكرتارية»...
علم التعمية في عصر المعلوماتية
أحالت الأسرار الترميز أو التشفير إلى علمٍ معتبر، بعد أن كان قديماً مجرد فن يضفي السرية على المعلومات ويخفي البيانات. ويعد «علم التعمية» من العلوم الحديثة نسبياً، التي تقاطعت مع كثير مع العلوم الأخرى كالرياضيات والهندسة والبرامج الحاسوبية، وازدادت أهميته بعد ارتباطه بكثير من التطبيقات التقنية المعاصرة، بعدما كان قديماً يستخدم في مجالات محددة كحفظ المعلومات العسكرية من التجسس المضاد، وحماية مراسلات الأجهزة الحكومية. فهذا العلم ينفتح اليوم على مجالات جديدة كالاتصالات والتجارة الدولية، ليندرج في منع التجسس والقرصنة، وليساعد على تسهيل التجارة الإلكترونية.
السِّر
في التلفزيون والسينما
تطول قائمة الأعمال التلفزيونية والسينمائية التي كان السر أبرز موضوعاتها. نذكر منها الفِلم الوثائقي «السر» الذي تحوَّل من كتاب شهير لروندا بايرن إلى فِلم مصوَّر أشهر يتحدث عن قانون الجذب، ويُنتظر أن يصدر كفِلم سينمائي من إنتاج هوليوود هذا العام حسبما أفاد الموقع الرسمي للفِلم على الإنترنت. ومن الأفلام العربية القديمة «أسرار الناس» 1951م، من بطولة فاتن حمامة، فريد شوقي، شكري سرحان وغيرهم. وفِلم «شاطئ الأسرار» عام 1958م، من إخراج عاطف سالم وبطولة عمر الشريف وماجدة. وفِلم «كلمة السر» 1968م، وفِلم «أسرار البنات» 1969م، وفِلم «البيوت أسرار» 1971م، وفِلم «أسرار عائلية» 2013م.ومن السينما الأمريكية شاهدنا الفِلم الدرامي الكوميدي «جزيرة المدينة» 2009م الذي يؤدي بطولته كل من أندى جارسيا وجوليانا مارجوليز وستيفن ستريت حيث تدور أحداث الفِلم حول أسرة يخفي كل عضو فيها سره عن بقية العائلة، إلى أن يكتشف ربّ الأسرة السر الذي يغيِّر حياته. ومن الأفلام القديمة فِلم «سر الصحراء» للمخرج بن كينغسلي الذي صُوِّر في المغرب وأُنتج في العام 1988م، ولم يخرج عن عادة الكثير من الأفلام الغربية التي كانت وما زالت تصوّر العرب بدواً رحّلاً لا يجيدون التأقلم مع الحياة العصرية. ومن الأفلام كذلك الفِلم الإنجليزي «العميل السري» 1996م للمخرج كريستوفر هامبتون. ومن الأفلام الشهيرة فِلم «نحن نسرق الأسرار: قصة ويكيليس» 2013م للمخرج أليكس جيبني، وفِلم «مفتاح الأسرار» 2005م للمخرج إيان سوفتلي وبطولة كيت هيدسون، وفِلم «أسرار أخوية يايا» 2002م للمخرج كالي خوري وبطولة ساندرا بولوك؛ ولا ننسى سلسلة أفلام هاري بوتر ومنها فِلم «هاري بوتر وحجرة الأسرار» 2002م للمخرج كريس كولومبوس. ومن الأفلام الجديدة التي تناولت موضوع السر فِلم «السر في أعينهم» 2015م للمخرج بيلي راي، وبطولة جوليا روبرتس، نيكول كيدمان، وشيوتيل إيجيوفور.أما المسلسلات، فقد اشتهر منها مسلسل «الصندوق الأسود» الذي عرض في عام 2010م والمسلسل الدرامي «سر علني» الذي عرض في عام 2012م.
بدأ علم التعمية بالتشفير، بتحويل المعلومات المفهومة إلى رموز يصعب فهمها على من لا يعرف سرها، واشتهر العرب والمسلمون قديماً بهذا النوع من تعمية الأسرار فكتبوا فيه المؤلفات، وكانوا يسمونها طرق استخراج المُعمَّى؛ ولم يتوقف هذا العلم عن التطور، ومن أحدث تطبيقاته الحديثة تقنيات التصويت الإلكتروني والتوقيع الرقمي وغيرها من التطبيقات المرتبطة بعالم المعلوماتية.
ورغم أن كثيراً من أدوات المراسلة، والتواصل الإلكتروني قد بُنيت على عدم اختراق الأسرار، إلا أنها باتت هي الأخرى وسيلة لنشر أسرار الأشخاص والمجتمعات، إلى درجة أصبحت تهدِّد السلامة الاجتماعية واستقرار حياة الأفراد.
اللغات السرية
أحياناً، يرغب حامل السر في البوح به إلى شريحة محدَّدة من محيطه، دون أن يتمكن الآخرون في المحيط نفسه من معرفة كنه هذا السر، فتظهر عندها اللغات السرية، التي يخترعها البعض لدواعٍ كثيرة هدفها تأمين مكاسب غير شرعية في الغالب دون أن تكون عرضة للمساءلة. فاللغات السرية كما يعرِّفها د.عبدالوهاب المسيري هي «لهجات ورطانات خاصة، بل أحياناً لغات، يستخدمها أعضاء الجماعات الوظيفية. فالعوالم والنشالون، على سبيل المثال، لهم لغاتهم السرية، وهي في الغالب رطانة، تركيبها هو تركيب اللغة الشائعة في المجتمع مع إضافة مفردات لغوية لا يعرفها إلا عضو الجماعة الوظيفية، فائدتها المباشرة تسهيل أداء الوظيفة، وهي وظيفة مشينة في العادة، ومن ثم تصبح اللغة السرية من علامات الهامشية».
وقد تظهر مثل هذه اللغات في بعض المجتمعات الشبابية كنوع من «المقاومة المراهقِة» لجيل عمري أكبر، أو كتعبير عن مطالب غير مسموعة من طرف الأغلبية؛ وقد تكون موجة مرتبطة بظروف سياسية واقتصادية معينة لا تلبث أن تزول. وقد ظهرت مثل هذه اللغات السرية في المجتمع الشبابي في السودان في بداية التسعينيات من القرن الميلادي الماضي وكانت تعرف بلغة «الراندوك» وانتقلت من مجتمعات المشرّدين إلى الأوساط الشبابية والطلابية، وخضعت لكثير من الدراسات الاجتماعية واللغوية، منها دراسة فرنسية حاولت مقارنتها بلغة المدن الفرنسية التي تُسمى «الفيرا».
السرُّ في الفن التشكيلي .. وفي الغموض حياة
لو كان بالإمكان تحديد أضلاع لعملية السر عند كتمانه أو إفشائه، لرسمناه على شكل قلب ولسان وأذن. فحفظ السر يقتضي قلباً كتوماً، والبوح به يتطلب اقتراب لسانٍ من أذنٍ، أما الإفشاء فحسبه اللسان فقط. فلا عجب إذاً أن نجد هذا التعبير الشكلي لعملية السر يشيع في اللوحات الفنية التي عبّرت عن موضوع السر.يبدو احتياج الفن لشيء من الغموض مشابهاً لحاجة الجمال للروح، لكي يتحقق فيه معنى الحياة، فلكل غموض فاتن قدرة متجددة على إطالة المنتج الفني وحمايته من (العادية) والملل. والفن التشكيلي خصوصاً يؤكد هذه الحقيقة، بل ويستمد قوته منها منذ عصور ضاربة في القِدم حتى عصرنا الحالي، حيث ما زال كثير من الأعمال الفنية تفرض سيطرتها ومهابتها على جمهور كبير من الناس بفعل ما تكتنزه من أسرار، وما زالت أعمال بعض كبار الفنانين
تُحافظ على ألغازها، من نهب الأيام التي تطوّر مع كل لحظة أداة جديدة لاستكشاف المجهول. ومنها على سبيل المثال لا الحصر لوحات ليوناردو دافنشي التي راحت أسرارها تتناقص مع تقادم الأيام دون أن تنفد، كما هو حال تحفته الخالدة «الموناليزا»، التي لا تزال تحتفظ بكثير من أسرارها، وأولها الهوية الحقيقية للمرأة التي تمثلها.. هذا الغموض العام الذي يحيط بالفن عموماً، لم يمنع عديداً من الفنانين من الافتتان بالسر كوحدة موضوعية في لوحاتهم. ويحفظ لنا التاريخ على سبيل المثال لوحات فنية كثيرة حملت اسم «السر» كعنوان واحد متشابه لأعمال تعود إلى عدة فنانين، منهم الفنان البولندي آدم ستيكا الذي اشتهر بولعه بطبيعة الحياة الشرقية ولوحاته الزاخرة بتفاصيل قبائل شمال إفريقيا ولوحة «السر» هي إحدى هذه اللوحات التي يصوِّر فيها رجلاً يهمس في أذن امرأة. وهناك لوحة أخرى بالاسم نفسه «السر»، للفنان الإنجليزي إدموند بلير لايتون المتوفي في العام 1922م. وهناك أيضاً «السر»
للفنان المفاهيمي ميل رامسدن الذي يُعد أحد رواد الفن المفاهيمي والذي يسمى أيضاً بالفن التصوري، وأحد أعضاء جماعة فن ولغة التي تحاول ربط اللغة بالفن، حيث يُظهِر عمله «السر» العائد إلى عام 1967م، إطاراً مربعاً أسود، وبجانبه إطار أبيض كُتب عليه: «مضمون هذه اللوحة غير مرئي، الشخصية والبُعد في المحتوى صمم ليبقى سرياً وبشكل دائم، وغير معروف إلا للفنان».وتواصل الفنانة الكوبية إلسا مورا المولودة في العام 1971م والمقيمة في مدينة نيويورك مسيرة اختيار مسمى «السر» لإحدى لوحاتها التي تظهر فيها عصفورة تبوح بسر لطفلة يبدو عليها الحزن. ومن الفنانات المعاصرات اللواتي اهتممن بالسر في أعمالهن الفنية الفنانة البريطانية أنجيلا ليون في لوحتها «سرّنا» التي يعود تاريخها إلى عام 2010م.
الحائط ومشربية الأرابيسك: حلول معمارية لمشكلة الأسرار
كانت الجدران والأبواب والنوافذ وما زالت من أساسيات العمارة في العالم. فمثلما لا يُتصوَّر وجود بشري دون أسرار، لا يُتصوَّر كذلك وجود بناء دون أن يحتاج إلى جدار أو باب أو نافذة. هذه الصلة الوثيقة بين ضرورات العمارة وبين الأسرار والخصوصيات أعطت للحوائط والواجهات والشبابيك أهمية فائقة في الفن المعماري عموماً، والعربي والإسلامي خصوصاً، حيث تتطلب القيم الاجتماعية من العمارة ما يضمن حرية مستخدمي المساكن وحرصهم على خصوصياتهم وأسرارهم من أعين الغرباء سواء أكانوا زوّاراً أم من الجيران.وبفعل هذا الاهتمام بالنواحي الجمالية والوظيفية، ظهرت فكرة (المشربيات) الخشبية المزخرفة فحلَّت مشكلات الإضاءة والتهوية خصوصاً في البيئات الحارة، وحافظت على أسرار البيوت وحرية ساكنيها، إذ إنها تسمح لمن في الداخل من الإطلالة على الفضاء الخارجي العام، ولكنها تحجب عن الفضاء العام ما في الداخل من خصوصيات وأسرار.ومثلما ازدهرت المشربيات في مصر، انتشرت بعدها في بقية النواحي العربية كالحجاز، واليمن، والسودان، ولبنان، وفلسطين، ودول الخليج العربي. ويرى كثير من المعماريين العرب أن الحاجة باتت اليوم ماسة لإعادة الاعتبار لهذا التراث المعماري، بما يتوافق مع التطور المعاصر، لكي تستطيع العمارة الحديثة حل المشكلات الجمالية والوظيفية التي تعاني منها الكثير من المجتمعات العربية، فقد فقد الجدار معناه الجمالي في عديد من البيئات العربية بسبب الحاجة الملحة للتستّر ولحفظ أسرار وممتلكات البيت من فضول وتغوّل الآخرين، فتطاولت عليه الأسلاك الشائكة، وأصبحت الكثير من البيوت مثل صناديق حديدية عملاقة، وباتت تفتقر بشدة لحائط مثاليّ، أو مشربيّة معاصرة.
السر في شعر الأقدمين والمعاصرين
تزخز دواوين العرب - أقدمها وأحدثها- بأشعار من شتى الأصناف والطبقات والجماليات، تعكس كلها مكانة السر في حياتهم وخطورة التهاون في حفظه. وهنا مقتطفات منها مثالاً لا حصراً:
يقول البغدادي:
صُنِ السرَّ بالكتمانِ يُرضيك غبُّه
فقد يظهرُ المرءُ المضِيعَ فيندمُ
فلا تلجئنْ سرًّا إلى غيرِ حرزِه
فيُظهرَ حرزَ السوءِ ما كنتَ تكتمُ
ومن واقع خبرته يقول أنس بن أسيد:
ولا تفـش سرك إلا إليك فإن لكل نصيح نصيحـا
فإني رأيت وشـاة الرجال لا يتركون أديماً صحيحا
وكان جرير يقول:
كانت إذا هَجَر الخَليل فِرَاشَها
خُزِنَ الحَدِيثُ وعفَّت الأسرارِ
وينعى الحلاج أخلاق هاتكي الأسرار:
مَن ســارروه فأبـدى كلّما ستروا ولم يراع اتّصــالاً كان غَشَّــاشـا
إذا النفوس أذاعت سرّ ما علمت فكل ما خـــلت من عقلها حاشـا
من لم يصن سرّ مولاه وســيّده لم يأمنوه على الأسرار ما عاشـا
ويقول بعض الشعراء:
وسرك ما كان عند امرئ وسر الثلاثـة غير الخفي
ويقول آخر عن قرار البوح بالسر للغير:
فلا تنــطـق بســرك، كـل ســرٍّ إذا ما جـــاوز الاثنين فاشـــــي
ويصور أبو الطيب المتنبي احتفاظه بسر غيره بعقل لا يصل إليه السُّكر ولو شرب الخمر:
وللســر مني موضـــع لا ينــاله نديــم، ولا يفـضي إليه شـرابُ
ويستكشف أبو العتاهية وجوه الأسرار عندما تنطوي في القلوب:
إنّ القلـوبَ إذا طَــوَت أسرارَها أبْدَتْ لكَ الأســرارَ منها الأوْجُهُ
ويحكي عبد الغني النابلسي مفارقة الإسرار والإفشاء قائلاً:
تســتر السرّ بإفشــــائه كالموج منسوب إلى مائه
ليس كلام القــوم رمزاً ولا إشـارة منهم بإيمائه
ويمكننا البدء بعلي الجارم لنصل بين جيل الشعراء العرب الأقدمين والأحدثين الذين تسربل السر بأحرف قصائدهم. يقول الجارم:
والحبُّ سِرٌّ من الفِردوسِ نَبْعَتُهُ وخير ما يحـــفَظ الأسرارَ كتمان
أما إيليا أبو ماضي فيتجلى انبهاره بأسرار الكون في قصيدته «الأسرار» حيث ينتهي به مقام الجمال:
بادٍ ويعجز خاطري إدراكـه وفتنــتي بالظاهر المتواري!
وأحمد مطر في احتراساته السياسية المتواصلة يخشى على السر من السر:
أمارس دائماً حرية التعبير في سري وأخشى أن يبوح السر بالسر
ويرسم عبدالوهاب البياتي في رسالته إلى أرنست همنجواي النهاية لحياة السر:
لا تسأل عن الحُب فالناس يمضون ولا يأتونَ
والسر على شفاهنا انتحر
قالوا في السر
«يُقاس حجم السر بقيمة الشخص الذي نخفيه عنه».
كارلوس زافون
«إنَّ سِرَّك من دمك، فانظر أين تريقه».
أكثم بن صيفيّ
«ما وضعت سرّي عند أحد أفشاه عليّ فلمته، فأنا كنت أضيق به حين استودعته إيّاه».
عمرو بن العاص
«لا يدرك أسرار قلوبنا إلا من امتلأت قلوبهم بالأسرار».
جبران خليل جبران
«كشف المرء سره حماقة، وكشفه سر الآخرين خيانة».
فولتير
«الصدور خزائن الأسرار، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كل امرئ مفتاح سره».
عمر بن عبدالعزيز
«إن أصعب سر يحتفظ به الإنسان هو رأيه الخاص في نفسه».
مارسيل بانول
أمثال وحكم في السر
إذا تجاوز السر ثلاث آذان انتشر.
مثل باسكي
حفظك لسرك أوجب من حفظ غيرك له.
مثل عربي
تجنب الذين يأتمنونك على الأسرار الصغيرة، فهم يريدون منك اجتذاب الكبيرة.
مثل فرنسي
ما قيل على المائدة ينبغي أن يبقى تحت غطائها.
مثل باسكي
من يحبل في السر يلد في العلانية.
مثل تركي
السر أمانة.
مثل عربي
سر الثلاثة، سر الجميع.
مثل فرنسي
صدرك أوسع لسرك.
مثل عربي
من لا يعرف الكتمان لا يعرف الحكم.
مثل لاتيني
وللسر: تاج، ختم، ولسانٌ وشفتان
سيبدو من الغريب أن يقف (السر) أمامك متمتعاً بكل المقوّمات التي تجعل منه كائناً بشرياً، لكنه أمر اعتيادي في بلد مثل السودان؛ فهو البلد الوحيد في العالم العربي الذي يحظى فيه السر باهتمام واحترام للدرجة التي يحرص فيها كثير من السودانيين على تسمية مواليدهم به. يعود شغف السودانيين بالتسمية بالسر، إلى الأجواء الصوفية التي كانت وما زالت تؤثر على الحياة الاجتماعية في السودان، وينبع اسم السر من الموروث الصوفي الذي يكثر فيه مدح المتصوفة بعلمهم بأسرار المعرفة، ومع انتقال السر من المعرفة إلى العارف به، أصبح السر لقباً لأعلام المتصوفة، ثم وجد الاسم طريقه إلى الكثير من العائلات السودانية حباً لأولئك الصالحين وصلاحهم. ولا يتسمّى السودانيون بالسر فقط، بل يزيدون عليه صفات أخرى، كتاج السر، وسر الختم الذي كان في بادئ الأمر (الختم) لقباً اشتهر به مؤسس الطريقة الختمية في السودان الشيخ محمد عثمان الميرغني، ثم ظهر اسم (تاج السر) لقباً أيضاً وأداة للتمييز بين الأسماء المتشابهة في الاسم الواحد، كانت في البداية مجرد ألقاب للزعماء الدينيين إلى أن أصبحت في حد ذاتها من الأسماء الشائعة في السودان.وقد اشتهر بهذه الأسماء كثير من الزعماء والسياسيين والفنانين والأدباء في السودان، منهم من زعماء الختمية الشيخ محمد عثمان تاج السر الميرغني، والشيخ محمد سر الختم الميرغني، ورئيس الوزراء السابق سر الختم الخليفة، والصحافي السر سيد أحمد، والشاعران الغنائيان السر قدور، وتاج السر عثمان، والشاعر تاج السر الحسن الملقب بشاعر «آسيا وإفريقيا»، والفنان التشكيلي تاج السر حسن المعروف بعميد الخطاطين السودانيين، والروائي أمير تاج السر صاحب «صائد اليرقات» الرواية التي وصلت للقائمة القصيرة لجائرة البوكر العربية في العام 2011م.
ويكيليكس ثم بنما
أضخم تسريب للأسرار في التاريخبمراهقة امتزجت بحب القرصنة، بدأت رحلة أشهر تسريب مستمر للوثائق شهدها العالم مع الصحافي والمبرمج الأسترالي جوليان أسانج. فبفضله، أصبح «ويكيليكس» عنواناً لأشهر القضايا المتصلة بالأسرار والمعلومات والأمن القومي في عشرات من دول العالم، نظراً لضخامة الوثائق السرية المعلنة - أكثر من مليون وثيقة منذ البداية - ولحساسيتها وتأثيراتها الكبيرة.
ويبدو أن «وثائق بنما» المسربة من شركة موساك فونيسكا للخدمات القانونية في بنما، سوف تتفوق على «ويكيليكس» في ضخامة عدد الوثائق السرية الذي يقارب 11 مليون وثيقة مسربة.
تختلف وثائق بنما عن ويكيليكس في عدد المؤسسات الإعلامية التي شاركت في هذه المهمة التسريبية، حيث تمت العملية بعد تحقيق دام عاماً كاملاً شاركت فيه أكثر من مئة مؤسسة إعلامية، لتخرج بعدها بمعلومات سرية حول غسيل أموال وتهربات ضريبية تتعلق بعدد كبير من أصحاب الرساميل الكبرى في مشارق الأرض ومغاربها.
أما صدقية محتويات هذه الوثائق من أسرار، فتبقى بدورها سراً، إذ حامت شكوك كثير حول صحة ما ورد في كثير منها. وتم تفنيد بعضها تماماً. حتى إنّ الدافع الحقيقي لإفشاء هذه الأسرار، هو بدوره سرٌ لم يكشف عنه حتى الآن.
الصندوق الأسود
كاشفُ أسرارٍ 30 يوماً فقط
يتأزم الحديث عن تحطم أي طائرة بشكل مفاجئ بالحديث عن الصندوق الأسود الذي يفترض أن يحتوي على سر سبب التحطم. وكما أن الصندوق الأسود الموجود في كل أنواع الطائرات هو في الحقيقة برتقالي اللون ليسهل العثور عليه في حال تحطم الطائرة، فإن البيانات المسجلة عليه ليست مجرد معلومات، ولكنها في الحقيقة أيضاً أسرار يُرجَى منها الكشف عن غموض كثير من حوادث الطيران التي لم يتم التأكد من أسبابها. وللعثور المبكر على الصندوق الأسود أهمية قصوى لأنه يصير بلا فائدة إذا تجاوز البحث عنه ثلاثين يوماً، حيث تنتهي مدة صلاحيته ككاشف للأسرار، ويضيع سر الكارثة إلى الأبد.