الإلهام فعل غامض.
عمره من عمر الآداب والفنون والعلوم. بحضوره إليهم فسّر المبدعون إبداعاتهم، وبغيابه عنهم برّروا تقطع هذه الإبداعات. قلائل هم الذين نقضوا أهمية الدور المعوَّل على الإلهام، لأن الغالبية أقرت بوجوده وحاولت أن تفسر به ما صعب عليها تفسيره بالمنطق.
ربطناه في وجداننا أكثر ما ربطناه بالفنون والآداب وخاصة الشعر، للعلاقة الوطيدة التي تربط هذه المجالات بمزاج المبدع وتقلباته. ولكن التطلع إليه بمعناه الواسع يؤكد حضوره في صيغ مختلفة في كافة أوجه الحياة وصولاً إلى التربية والسلوك والصناعة، وأبعد التقنيات عن المزاج الشخصي.
في هذا الملف، يتلمس فريق القافلة ماهية فعل الإلهام من خلال استعراض تاريخه ودوره وتنوُّع أوجهه ومصادره منذ نشوء الحضارات الأولى، وحتى حقيقته اليوم كما يراها المربّون.
يفترض في الإلهام أن يسبق الإبداع. ولكن من شبه المؤكد أن الحديث عنه لم يبدأ إلا بعد ظهور إبداعات عديدة، وخاصة في مجالات الآداب والفنون. ولأن الإبداع مرتبط بأمور عديدة أهمها المزاج والثقافة والموهبة الشخصية، وجد الإنسان نفسه منذ أقدم الحضارات أمام سؤالين لم يكن من السهل عليه الإجابة عنهما.
السؤال الأول: لماذا يستطيع هذا الشاعر مثلاً أن يقول كلاماً جميلاً وموزوناً، فيما لا يستطيع الآخرون ذلك؟
أما السؤال الثاني فهو: إذا كان هناك مثل هذا الترحيب بإبداع هذا الفنان أو ذاك الشاعر، فلماذا لا يستمر هؤلاء في العطاء من دون توقف؟ بعبارة أخرى، لماذا تظهر هذه الإبداعات في أوقات محددة لا يمكن تحديدها سلفاً، ثم تنقطع لفترات غير محددة أيضاً؟
والجواب عن السؤالين كان واحداً: الإلهام.
ومنذ عصر الإغريق وحتى يومنا هذا لم يغب الحديث عن الإلهام ودوره في أية ثقافة من ثقافات العالم، حتى ولو كان ذلك من باب نفي دوره في بعض الأطر المحددة.
ومنذ عصر الإغريق وحتى يومنا هذا، شهد مفهوم الإلهام تبدلات أساسية ما بين الخرافات الوثنية، والحقائق العلمية في التربية الحديثة، كما تنوعت مصادره، ليس فقط بتنوع الثقافات وتعاقب الأزمنة، بل أيضاً من شخص إلى آخر في الزمن الواحد والثقافة الواحدة.
يقول العالِم السويسري غوستاف يونغ مؤسس علم النفس التحليلي: «إن المظهر الإبداعي للحياة الذي يوجد أوضح تعبير عنه في الفن، يستعصي على كل محاولات الصياغة العقلية، ذلك لأن أي رد فعل على مثير من المثيرات يمكن تفسيره سببياً بيسر. أما الفعل الخلاق، وهو النقيض الكامل لرد الفعل المحض، فسيظل إلى الأبد مستعصياً على الذهن البشري».
واليوم ثمة مختبرات تعمل في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرهما على دراسة تعامل المخ البشري مع ما يرده من معلومات، وطريقة ربط هذه المعلومات ببعضها وأيضاً بتلك المتخيلة داخل المخ نفسه للخروج بمعلومة جديدة لا أساس خارجي لها. وبانتظار أن تتوصل هذه المختبرات إلى نتائج ملموسة، والأمر لا يبدو أنه سيحصل في المستقبل المنظور، لا بأس من التوقف قليلاً أمام تاريخ الإلهام في تاريخ الثقافات، من خلال أمثلة حفظها لنا المؤرخون جيداً.
نشأة مفهومه في الخرافة الإغريقية
قبل سقراط وأفلاطون وأرسطو واختلافاتهم في دور الإلهام على صعيد الإبداع الشعري (الذي نتطرق إليه بشيء من التفصيل في مكان آخر من هذا الملف)، كان الإغريق قد عرفوا من الإبداع الأدبي والفني ما يستوجب تفسير ظهوره على أيدي عدد محدود من الناس. فكان أن ردوا ذلك جرياً على عادتهم إلى عدد من «ربات الإلهام» الشهيرات في التاريخ باسم «Muses»، الأصل الذي اشتقت منه اللغات الأوروبية لاحقاً مفردات عديدة في عالم الفنون منها «Musica» (للموسيقى) و «Museum» (للمتحف) أي بيت الفنون.
ولم يحفظ لنا المؤرخون تاريخ ظهور «ربات الإلهام» بدقة. ولكن من المرجح أن ذلك كان قبيل النصف الثاني من الألف قبل الميلاد. وما نعرفه أن عددهن كان يتبدل من وقت لآخر، كما أن أسماءهن كانت تتبدل وكذلك وظائفهن، ولكن عددهن الإجمالي كان تسعة. وكل واحدة منهن كانت مختصة بإلهام نوع من أنواع المعرفة: كاليوبي للشعر الملحمي، كليو للتاريخ، إراثو للشعر الغزلي، أوتيربي للغناء والإنشاد الديني، ميلبومين للمسرح التراجيدي، … الخ.
ومن هنا يتضح أن الإغريق اقتصروا في نظرتهم إلى الإلهام على أنه فعلٌ بين شخصين أحدهما مُتَخيل وهو الملهِم، والثاني حقيقي وهو المنتج والمُلهَم. ولكننا بتنا نعرف اليوم أن شريحة مصادر الإلهام في الثقافات القديمة، كما هو الحال في عصرنا هي أوسع من ذلك. وما كان يصوَّر قديماً (وربما لا يزال يصور حتى وقتنا الحاضر عند بعض الشعراء) على أنه همس من متحدث علوي في أذن مستمع من البشر، صار اليوم مع تطور العلوم، وخاصة في مجال التربية، مجرد محفِّز ينشط العقل البشري في اتجاه معين عن طريق جمع معطيات مختلفة وصهرها مع بعض الإضافات من ذات العقل لإبداع فكرة جديدة أو إنتاج ملموس جديد لم يكن موجوداً سابقاً. وبهذا المفهوم العلمي والعصري للإلهام، يمكننا أن نستكشف حضوره المؤكد ودوره في كل عملية إبداع، ليس فقط في مجالات الآداب والفنون بل أيضاً في الفلسفة والطب والصناعة وكل حقول المعارف الإنسانية دون استثناء.
مصادر الإلهام وتنوعها
تتنوع مصادر الإلهام تنوعاً لا حصر له، وتتبدل ليس فقط من مجال معرفي إلى آخر، أو من زمن إلى آخر، بل ضمن المجال الواحد في الوقت نفسه. ولو قرأنا مثلاً سير الشعراء التي تضمنت إشارات واضحة إلى مصادر إلهامهم، لوجدناها تشمل العاطفة والحُب والحياة والموت والبطولات والمشاعر الوطنية والحكمة والكراهية والطبيعة.. وحتى أحوال الطقس.
معناه في اللغة ونقيضه الوسواس
للإلهام في الوجدان صورة إيجابية، إذ إن ما ينجم عنه عادة هو أمر جيد، سواء أكان إبداعاً أدبياً أو فنياً، أم اختراعاً علمياً، أم تغيراً إيجابياً في السلوك. ففي ثقافتنا الإسلامية، غالباً ما نرد الإلهام إلى الله تعالى. فقد جاء في القاموس المحيط أن الإلهام هو بمعنى التلقين: «تقول ألهمه الله الخير، أي لقنه إياه». ويقول ابن منظور في لسان العرب: «الإلهام ما يُلقى في الرَّوع، أو أن يلقي الله في النفس أمراً يبعث على الفعل أو الترك».
أما عندما يكون التحفيز في اتجاه الخطأ والسوء فإن ما يقف وراءه هو الوسواس. جاء في القرآن الكريم: «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى» (آية 120 سورة طه). كما جاء في سورة (الناس) «قل أعوذ برب الناس (1) ملك الناس (2) إله الناس (3) من شر الوسواس الخناس (4) الذي يوسوس في صدور الناس (5) من الجِنة والناس (6)».
والوسوسة هي توهم وجود مخاطر أو مساوئ لا وجود لها في الواقع، بفعل عوامل خارجية تطرأ على النفس وتنحرف بها عن التعامل الصحيح مع الواقع.
الإلهام في أضيق دوائره
دافنشي مثلاً
كان ليوناردو دافنشي أول مفكر مبدع تحدث عن أهمية الأحداث والأشياء العشوائية على صعيد تطوير مناهج التفكير. ونصح الناس بتأمل الجدران والغيوم والأرضيات المرصوفة كما لو كانوا يتطلعون إلى أنماط وصور بهدف مزجها بأفكارهم.
ففي كتاب كتبه بلغة «سرية»، هي في الواقع كتابة معكوسة لا يمكن قراءتها إلا من خلال التطلع إلى عكسها على المرآة، تحدث دافنشي عن مصادر إلهامه في الفن والاختراعات. وفي هذا الكتاب يفترض دافنشي أن بإمكان المرء أن يستلهم أفكاراً رائعة من خلال التطلع إلى مواضيع عشوائية يمزجها بالتحديات التي يواجهها. ويقول إنه كان يحدِّق طويلاً في طلاء الجدران، أو الرماد المتبقي من نار ما، أو بأشكال الغيوم، أو تضاريس الوحول. وكان يتخيَّل مشاهد معارك وأشجار ومناظر طبيعية وشخصيات في حركة حية. كما يروي أنه كان أحياناً يقذف بإسفنجة مملوءة بالدهان على الحائط، ليتأمل الخطوط العشوائية الناجمة عن ذلك وما يمكنها أن تمثل.
ما يقول به دافنشي عن الإلهام صحيح. ولربما ما زالت مثل هذه الدائرة الضيقة من مصادر الإلهام صالحة بالنسبة إلى بعض المبدعين. ولكننا نعرف يقيناً أن هذه الدائرة أوسع من ذلك.
من نيوتن إلى زوكربرغ
التفاعل الثقافي على مستوى الأفراد
والأمثـلة على ذلك أكثر من أن تُحصى، ولربما شملت معظم الإبداعات في كل المجالات.
في كتابه الرائع «تراسل الفنون»، يكشف الفيلسوف الفرنسي إيتان سوريو عن العلاقة الوطيدة والخفية ما بين مختلف الفنون في كل حقبة من الزمن. وإن كان يرد التشابه فيما بينها جزئياً إلى ما يُسميه «ضغط اللحظة»، فإن الاستجابة لهذا الضغط ما كانت لتكون ممكنة لولا استلهام هؤلاء ولو جزئياً (ولو حتى من باب النقد والاستعداء)
لأعمال بعضهم البعض. فالثقافة الواسعة التي هي من شروط الإبداع تحتم على الفرد الاطلاع على إبداعات الآخرين، المجاورين له والذين سبقوه. وكثيراً ما يجد في هذه الإبداعات منطلقاً لتقديم جديد غير مسبوق.
في الفن نعرف ذلك من كثرة ما نقرأ عن «تأثر» فلان بفلان. ولكننا نجد ذلك أيضاً في العلم، حيث لا يقر كثيرون بأهمية التواصل ما بين المبدعين والمبتكرين. ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، سجل توماس إديسون 2323 براءة اختراع (من بينها 1033 في أمريكا فقط). ولكن في الوقت نفسه سجل شريكه لبعض الوقت في العمل المخترع نيكولاس تيسلا 278 براءة اختراع. فهل هي صدفة أن يكون هذان العبقريان قد اجتمعا في ورشة عمل واحدة في وقت واحد؟ أم أن اجتماعهما وتفاعل عبقريتيهما غذَّى هذه الغزارة في الإبداع والاختراع والتفوق؟
ومن الأمثلة التي تعزِّز مكانة التفاعل ما بين الأفراد كمصدر للإلهام على حساب الدائرة الضيقة التي تحدث عنها دافنشي، يمكننا أن نذكر عالم الفيزياء الشهير إسحق نيوتن.
فالرواية التي تقول إن نيوتن توصل إلى اكتشاف قانون الجاذبية عندما سقطت التفاحة من يده ليست صحيحة. والرواية المؤكدة أنه بدأ بالتفكير في قانون الجاذبية عندما شاهد في مزرعة والدته تفاحة تسقط من على الشجرة. وفوقها كان القمر في السماء. فتساءل لماذا سقطت التفاحة ولم يسقط القمر؟ وهذه هي نصف الحكاية. لأن نصفها الآخر يقول إنه عندما تم تقديم نيوتن وقانون الجاذبية إلى الجمعية الملكية في لندن، ادَّعى الفيزيائي روبرت هوك أن نيوتن أخذ عنه جزءاً من هذا القانون. وعلى الرغم من أن القانون الصحيح مسجل باسم نيوتن، فثمة إقرار عند المؤرخين على أنه كان مطلعاً عن قرب على أعمال هوك في هذا المجال.
وما سقناه عن نيوتن ينطبق في جوهره على مبتكر كبير نعايشه اليوم: مارك زوكربرغ، مبتكر الموقع الإلكتروني «فيسبوك». فسيرة هذا الموقع تؤكد وجود شرارته الأولى في مكان آخر خارج عبقرية زوكربرغ، ألا وهو الموقع الإلكتروني الأولي الذي أنشأته جامعة هارفرد لتعريف بعض طلابها على بعضهم. التقط المبتكر الشاب هذا المعطى الملموس المشوب يما كان يراه نواقص وعيوب، كما التقط من جهة أخرى إحساساً يقول بوجود حاجة إلى التواصل على مستوى أكبر من نطاق الجامعة. وبتعاونه مع حفنة من الموهوبين العالميين في مجال تصميم المواقع، خرج إلى العالم بـ «فيسبوك» الذي بات يضم مئات الملايين في كافة أصقاع العالم.
واليوم يمكننا أن نؤكد ما للتفاعل الثقافي بين الأفراد والإبداعات من دور على صعيد الإلهام، بالإشارة إلى الفن السينمائي الذي نعرفه جميعاً، الذي تشكل الرواية المكتوبة على أيدي أدباء غير سينمائيين على الإطلاق، عموده الفقري.
وثمة مواقع إلكترونية الآن على شبكة الإنترنت تتضمن كشوفات كاملة باللوحات الزيتية المستلهمة من الشعر، والأغنيات المستلهمة من لوحات زيتية، والأفلام السينمائية المستوحاة من مقالات صحفية أو روايات… الخ.
التربية والتعليم بأوسع معانيهما
انعكست أهمية تواصل عقل الفرد مع باقي العقول على صعيد تغذية الإلهام وفتح أبواب النبوغ والتفوق، على التربية والتعليم في العصر الحديث، بعدما انتزعت اعتراف الجميع بأهميتها.
وجيل الآباء والأبناء عايشوا ويعايشون نمطين من التربية والتعليم بعيدين كل البعد عن بعضهما. فالجيل الأول عرف تعليماً قائماً بشكل شبه كلي على حفظ معلومات موحَّدة للجميع. ومقياس النجاح كان يقاس بقوة الذاكرة، والترداد الببغائي لهذه المعلومات، وهذا ما لم يعد أحد يجرؤ على الدفاع عنه.
وبعدما عاش هذا النمط من التعليم في أوروبا (كما هو الحال عندنا في معظم البلدان العربية) نحو قرن من الزمن، بدأ في العقود الأخيرة يتداعى بعدما أكد ضعف جدواه، من خلال الملاحظة تبيَّن أن المبدعين الكبار الذين عرفناهم في عصرنا لا يدينون إلا بالقليل لما تلقوه في مدارسهم من معلومات. انفتح التعليم على ما صار يعرف بـ «البرامج اللا صفية»، والواجبات المنزلية ذات المواضيع الحرة كالمشاريع العلمية التي يترك للطالب اختيار ما يشاء منها. وصار اصطحاب الطلاب في جولات على المتاحف جزءاً من بعض المناهج، وصولاً إلى الرحلات السياحية التي أوجد التعليم الحديث صيغة للاستفادة منها تربوياً. وكل هذه الأمور ما كانت لتخطر على البال قبل نصف قرن فقط. والهدف منها توفير أكبر قدر ممكن من الفرص للطالب الناشئ للحصول على مصادر إلهام تتناغم مع اهتماماته وميوله الشخصية. فالتعليم في الصغر لم يعد نقشاً على حجر، بل عجيناً مطواعاً يمتلك الجيل الناشئ اليوم فرصاً، أكبر من أي وقت مضى، لقولبته كما يشاء، وفق.. إلهامه.
في الشِّعر..
من يقول به.. وأيضاً من ينفيه
في عددها لشهر أبريل من العام 2009م، نشرت مجلة العربي الكويتية مقابلة مع وزير الإعلام والثقافة السعودي الشاعر الدكتور عبدالعزيز خوجة تمحورت حول شعره، ولدى سؤاله عما إذا كان يؤمن بدور الإلهام في الشعر، كان جوابه إيجابياً. و«استلهم» الشاعر هنا علم الفيزياء ليرسم صورة جميلة للإلهام بقوله: «في الكون سحابات كبيرة من الإيونات الفكرية تسير أو تدور، وإذا أردنا أن نتكلم عن الشعر قلنا إن لدى الشاعر نصف هذه الإيونات الإيجابية داخله. وهو يلتقطها ويشعر بها. وحينما يتفاعل مع إيون آخر في اللاشعور، يُشعل هذا التفاعل الكيميائي بين اللامنظور الخارجي والمنظور الداخلي. اللامنظور هو ما نسميه بالإلهام. يلتقطه المبدع حسب طريقته ومخزونه الثقافي وقابلياته وإمكاناته». وأضاف: «يجب على الفنان أن يكون مستعداً لإبداع ما.. فالإلهام يسبح في الكون. المهم توافر من يلتقطه ويتفاعل منه».
كان هذا واحداً من موقفين من الإلهام في الشعر، ظهرا قبل خمسة وعشرين قرناً، وما زالا على تضاد حتى اليوم. أحدهما يرد القدرة على قول الشعر إلى الإلهام بالدرجة الأولى، وآخر يحجّم دور الإلهام إلى حدود النفي.
عند الإغريق
كان سقراط أول من ردَّ الفضل في قول الشعر إلى الإلهام عندما قال: «أدركت أن الشعراء لا يكتبون الشعر لأنهم حكماء، بل لأن لديهم طبيعة أو همة قادرة على أن تبعث فيهم حماسة..». ومعنى ذلك أن الشعراء يُلهمون ما يقولون. وذهب أفلاطون لاحقاً، المذهب نفسه، فرأى أن «الكلام الجميل الذي يجري على ألسنة الشعراء ليس من صنعهم، وليس لديهم دخل فيه. وإنما هو إلهام يُلهمونه».
ولكن أريسطو خالف هذا المذهب، ورأى أن «الشعر الجيد هو كذلك لأسباب يمكن الوصول إليها ومعرفة قوانينها». فراح يعمل على وضع القوانين لكي يهتدي بها الشعراء في إنتاجهم. ولكن لأن النموذجين الشعريين الوحيدين اللذين كانا معروفين آنذاك هما الملحمة والشعر المسرحي، اقتصرت قوانينه على هذين اللونين فقط.
لا خلاف عند العرب
الملهم هو شيطان من عبقر
وعند العرب كان شعراء العصر الجاهلي يتفاخرون بعبقرياتهم المنسوبة إلى وادي عبقر المحتل من عمالقة الجن، فهم مصدر الإلهام. وكان لمعظم الشعراء قرناء من الشياطين تحت مسمى «جنّ الشعر». ومنهم من أفصح عن شيطانه، ومنهم من لم يفعل، ومنهم من لا يعرف أن لديه شيطاناً، لأن شياطين الشعر يتفاوتون من حيث قوة التأثير والبلاغة وغزارة الإنتاج. فقد كان لامرئ القيس على سبيل المثال شيطان يدعى «حافظ بن لافظ» وللأعشى شيطان شعري اسمه «مسحل بن جندل السكران». كما كان الفرزدق يعتقد أن شيطان شعره وشيطان شعر جرير هما واحد.
وفي دراسته حول «الإبداع الخرافي عند العرب»، يتساءل الكاتب العرابي لخضر عن سبب رد شعراء الجاهلية شعرهم إلى شياطين وادي عبقر وليس إلى ما يشبه ربَْات الإلهام عند الإغريق، ويجيب عن ذلك بقوله إن الشعر العربي كان في معظم الأحيان ذا دور دفاعي أو هجومي. دفاع عن القبيلة وهجوم على أعدائها. حتى قصائد الغزل عندهم كثيراً ما كانت تأتي مصحوبة بحديث عن البطولات في المعارك والفروسية والقوة. وبالتالي كان من الأنسب ردها إلى شياطين (ذكور) وليس إلى فتيات عذراوات كما كان الحال عند الإغريق.
في أوروبا.. تارة نعم وتارة لا
أما في أوروبا، فقد تأرجح الشعراء بين الاتكال على الإلهام والتحرر منه. فغداة عصر النهضة، لم يعوّل الشعراء كثيراً على الإلهام. ومع ظهور المسرح الشعري، تحول الشعر إلى صنعة انتصرت لرأي أريسطو القائل بإمكانية وضع قوانين وأنماط لإنتاج الشعر. وظل الأمر كذلك طوال العصر الكلاسيكي حتى ظهور الرومنطيقية في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
الإلهام في القرآن الكريم والفرق بينه وبين الوحي
وردت كلمة الإلهام في القرآن الكريم مرة واحدة في قوله تعالى: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)» (سورة الشمس).
وفي تفسير هذه الآيات الكريمة، يقول فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي: إن النفس تعرف بفطرتها طريق تقواها أو طريق فجورها، أو أن النفس إذا اتَّقَت أو إذا فجرت تعلم أنها تتقي أو تفجر.
وقال العلماء: الإلهام هو إلقاء ما يُفرّق به بين الظلال والهُدى، ما يلقى في الروع بطريق الفيض، إلقاء في النفس أمراً يبعث به على الفعل والترك».
ولأن كثيرين منّا يخلطون اليوم ما بين الإلهام والوحي -والكلمة الثانية وردت في القرآن مرات عديدة- نجد فرقاً واضحاً لمعاني الوحي وفعل أوحى على يد الدكتور النابلسي نفسه الذي يرى أن إلهام الحيوان هو الغريزة: «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ» (الآية 68 سورة النحل). وأن الوحي إلى الإنسان هو الإلهام: «وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين» (آية 7 سورة القصص).
والوحي إلى الجماد أمر. كما في قوله تعالى: «إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ» (سورة الزلزلة).
أما الوحي إلى الأنبياء فكما هو معلوم، وحي الرسالة عن طريق سيدنا جبريل.
فوحي الجماد أمر، ووحي الحيوان غريزة، ووحي الإنسان إلهام، ووحي الرسول ملك يُلقي عليه كتاب من عند الله.
تميزت الرومنطيقية بالمكانة الكبرى التي تعطيها للخيال وباشتمالها على شحنات عاطفية ملحوظة تستمد قوتها من قوة الصورة المعبرة عنها. وأيضاً تزامنت هذه المدرسة في الشعر والفن مع عصر الرحلات والاحتكاك بالثقافات المختلفة، (كان الاستشراق واحداً منها). وبفعل المكانة الكبيرة التي راح يحظى بها تزاوج الخيال مع العاطفة الشخصية في مزاج الفرد، عادت «الأفلاطونية» إلى حضن الشعراء الذين تعاملوا مع الإلهام وكأنه السيد الآمر الناهي لهم عن قول الشعر بهذه الطريقة أو تلك، في هذا الوقت أو ذاك.
ولم تخلُ مواقف الرومنطيقيين من مبالغات، دفعت بالنقاد إلى اتخاذ ردة فعل ضدهم، وصلت إلى حدود تفنيد مزاعمهم. ومما يُروى في هذا المجال أن الشاعر ألفونس دي لا مارتين ادعى مرة أن قصيدته الشهيرة «البحيرة»، هبطت عليه «دفعة واحدة في لحظة إشراق ملهم». وتلذذ النقاد والمؤرخون بعد وفاته عندما عثر الباحثون بين أوراق الشاعر على سبع كتابات مختلفة لهذه القصيدة، ذات تنقيحات وتعديلات كثيرة.
بالوصول إلى الحداثة التي حررت الشاعر من المؤثرات الخارجية، وفتحت أمامه أبواب أشكال من التعبير تكاد تتفلت من كل الضوابط، وجد الشعراء أنفسهم أمام قواهم الذاتية بالدرجة الأولى. وكما تنوعت مذاهب التعبير الشعري وألوانه، تلونت أيضاً علاقات الشعراء بالإلهام. ولربما تعزز موقف المتحررين من الاعتماد على الإلهام بفعل انتصار العقلانية الكبير خلال القرن العشرين.
فبموازاة موقف الشاعر عبدالعزيز خوجة الذي أشرنا إليه قبل قليل، والذي يكاد يرد كل الشعر إلى الإلهام، نجد موقفاً مناقضاً تماماً عند شاعر عربي آخر هو هنري زغيب الذي كتب مرة يقول: «يتخلى كثيرون من الشعراء المعاصرين عن انتظار «ربة الوحي والإلهام»، فيمسكون بأقلامهم وينصرفون في عمل دؤوب إلى نحت القصيدة على بياض الورق، كما النحات يمتشق إزميله وينهال به على الصخر ليطلع منه آية جمال. علاقة الشاعر الحقيقية هي مع الكلمات لا مع «ربة الوحي».. إن إيجاد القصيدة يكون في منطقة وسطى بين اللاوعي في اقتبالها والوعي في كتابتها: إذا كانت لحظة الشرارة لا واعية (وهي أحياناً كذلك)، فكتابة القصيدة تكون في أكثر حالات الوعي يقظة وترصداً لفسيفساء الكلمات الأجمل في المكان الأجمل لتعطي التأثير الأجمل». وفي مكان آخر يضيف زغيب: إن الشعراء المعاصرين ينصرفون إلى نحت القصيدة بقرار ذاتي. علاقة الشعر الحقيقية هي مع الكلمات وليس مع ملهمة الوحي.
في اليابان.. اللغة أولاً
يعود بنا الكلام الأخير أعلاه إلى ما نعرفه عن الشعر الياباني (وهو قليل). ففي كتاب «تمارين على قراءة الشعر الياباني» الذي يتضمن نماذج من مراحل تاريخية مختلفة ومذاهب فنية متنوعة، لا يقيم المؤلف وزناً للإلهام. إذ إن صناعة الجمال بالنسبة إليه «تحتاج إلى الخبرة، ولا سيما الجمال في اللغة والناتج عن استخدامها. وما يعتقد بأنه نتاج الإلهام هو في الواقع نتاج خبرات متراكمة».
أين الحقيقة؟
يقول الكاتب الفرنسي جان أنوي «الإلهام هو خزعبلة ابتكرها الشعراء لإعطاء أنفسهم مزيداً من الأهمية». وهذا القول المتطرف، لا يخلو من الأهمية ومن شيء (ولو قليل) من الصحة، ويستحق أن يكون منطلقاً للبحث عن حقيقة الإلهام في الشعر.
على المستويين الفردي والاجتماعي بين الممكن والمستحيل
بمعناه الواسع، الإلهام موجود في مجالات لا تُحصى. ففي إطار تحفيز السلوك مثلاً على القيام بأمر معيَّن، نجده حاضراً في كل المجتمعات، وحتى على صعيد حياة كل فرد. فشخصية الأب غالباً ما تكون مصدر إلهام للابن في عمر معيَّن. ولا يحتاج المرء إلى مراجع في علم النفس ليؤكد أن كثيراً من الطباع الفردية مثل الميل إلى الكرم أو البخل أو الشجاعة أو الجُبن هي طباع مستلهمة من مصادر خارجية قد تكون في شكل حوادث، أو ثقافة عامة، أو بيئة اجتماعية أو قيماً مستقاة من الأدب وحتى من حكايات الأطفال.
أما الإلهام بمعناه كمحفِّز على الإبداع وهو ما نتوقف أمامه في هذا الملف، فهو مسألة أخرى. إنه شأن فردي لا يخضع لكثير من الضوابط، ولكنه يخضع لكثير من المؤثرات، وهو قابل للتغذية والتنشيط.
الخيال شرط لا بد منه
ما بين مصدر الإلهام والإبداع، ثمة حلقة غامضة هي الأصعب على التحديد والصياغة: الخيال.. هذا النشاط الذهني الداخلي الذي يتولى ترجمة الرسالة الخارجية غير الواضحة المعالم إلى صورة واضحة لهدف محدَّد.
الخيال بحد ذاته ليس حكراً على الأذكياء أو على عقول معيَّنة دون غيرها، فما من عقل بشري إلا ويتمتع بقدرة على الخيال، ويتخيل فعلاً وباستمرار. ولكن لكي يتمكن الخيال من التقاط إلهام معيَّن وتوظيفه في إبداع محدَّد، فعليه أن يكون واسعاً جداً، ووليد تربية طويلة واطلاع واسع، وقادر على الالتحام بمعطيات خارجية ليقرأ فيها ما يتجاوز خطابها المباشر. كما أن عليه في الوقت نفسه أن ينطلق في التطلع إلى ما حوله من هدف مستقبلي يفتقر إلى العناصر اللازمة لتحقيقه.
وبالتجوال المكوكي للخيال ما بين هذا الهدف المستقبلي الذي يطمح صاحبه إلى تحقيقه، وما حوله من معطيات ومصادر إلهام مباشرة، يمكنه أن يركِّب شيئاً فشيئاً الأقسام المختلفة اللازمة للإبداع الذي يصبو إليه.
تعزيزه بالتربية والثقافة العامة
والإلهام قابل للتغذية بالتربية والثقافة العامة المنفتحة على شتَّى المعارف. والاطلاع على سِيَر كبار المبدعين تؤكد تفاعلهم مع معارف اكتسبوها من مجالات بعيدة جداً عما يفعلونه عادة. فالتعليم التقليدي يوفِّر للمتعلِّم المهارات الفنية اللازمة للإنتاج المكرر، طالما أن ما تعلَّمه يُستقى من تجارب سابقة. أما الإبداع فيتطلب دائرة من المعارف أوسع من ذلك تبدأ بتوفر المعرفة اللازمة للتنفيذ، وتتسع لتشمل الملاحظة العميقة لأحوال المجتمع وحاجاته وحتى الطبيعة بكل ما فيها.
لماذا يتوقد في مجتمعات ويخبو في أخرى
وثمة ملاحظة يمكن تسجيلها بالاطلاع على تاريخ أي شعب أو مجتمع وتؤكد أن الإبداع يبدو وكأنه يأتي كأمواج تنشط حيناً وتخبو حيناً آخر، لتقسم الزمن فيها إلى عصرين: عصر نهضة وعصر انحطاط أو تخلُّف. ففي الشعر العربي مثلاً، يسجل المؤرخون فترة ركود دامت نحو ثمانية قرون خلت بشكل شبه تام مما يمكن مقارنته بالشعر الأموي أو العباسي. ثم، أقبلت موجة جديدة منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولمعت أسماء شعراء عديدين مجددين ومبدعين. فهل كان الإلهام في سبات طوال هذه القرون الطويلة؟
لا يمكننا أن نعرف الجواب القاطع، ما دام الإبداع مسألة فردية. ولكن المؤكد هو أن الحاضنة الاجتماعية لمن كان قادراً على الإبداع لم تكن مرحِّبة بإبداعاته المحتملة. فالإلهام بحد ذاته لا يكفي للإنتاج، بل يتطلب الأمر وجود مجتمع يتلقف هذا الإنتاج ويستفيد منه ويرفعه إلى المكانة التي يستحقها.
ألم يقل أحدهم: «ثمة ألف موسيقار مثل موزار وُلدوا وماتوا، وما وصلنا منهم هو واحد»؟
فمما لا شك فيه أنه من بين كل مجالات الإبداع، فإن الشعر هو الذي يحتكر القسم الأكبر من الحديث عن الإلهام ودوره. ولو تطلعنا إلى سلوكيات بعض الشعراء، حتى في زمن العقلانية الحديث، لوجدنا أنهم يتعاملون مع الإلهام بما يكاد يشبه موقف الخرافة اليونانية، أي كما ولو أن الإلهام هو شخص غير مرئي يأتي في زيارة من غير موعد محدد.
إلى ذلك، لا بد من ملاحظة طابع التفخيم الذي يضفيه بعضهم على الإلهام، ويتعاملون معه وكأنه «سلطة عليا» ذات قرار لا يُرد، الأمر الذي يُراد به النأي بنوعية الإنتاج أو حتى التقاعس عن الإنتاج، عن أي نقد، طالما أن القرار به علوي.
ولكننا عندما نتطلع إلى «الإلهام» بمفهومه العلمي والتربوي الحديث كمحفّز للتفاعل ما بين معطيات ذهنية محددة بغية إبداع إنتاج جديد، لابد لنا من الإقرار بوجود الإلهام في الشعر، شأنه في ذلك شأن كل إنتاج إنساني آخر. فما من قصيدة قديمة أو حديثة، إلا وفيها أثر لعنصر من خارج نَفَس الشاعر، والأمر بحد ذاته يكفي لتصنيف هذا العنصر كملهم، شاء الشاعر أم أبى.
الإلهام في الفن التشكيلي
في الفن التشكيلي يختلف الحال عما هو عليه في الشعر. هنا لا مجال للتشكيك في دور الإلهام وحضوره الدائم في فن الرسم الأوروبي ما بين أواخر القرون الوسطى وعصرنا الحاضر. ولربما كان هذا الفرق يعود إلى أن فن الرسم مرئي بالعين، وضبط مصدر الإلهام ممكن بسهولة. ولكن السبب العميق الخاص بفن الرسم، يكمن في أن تاريخه الممتد حتى ستة أو سبعة قرون ماضية هو تاريخ تطور، إذ كانت كل مدرسة فنية تنشأ على حساب المدرسة السابقة متأثرة بوضوح بعوامل ثقافية واجتماعية مختلفة، ولكنها محددة بدقة.
فجيل الرواد من أمثال جيوتو ومانتينيا وغيرلاندايو استلهموا في القرن الرابع عشر فن الرسم البيزنطي المستلهم بدوره من الرسم القبطي في مصر. وما أن حلّ عصر النهضة في القرن التالي، حتى كانت الآثار الرومانية مصدر إلهام كل الفنانين في إيطاليا، فتحولت منطقة الآثار في قلب روما المعروفة باسم «الفوروم» إلى مدرسة مفتوحة في الهواء الطلق للرسامين.
ومنذ ذلك العصر، وكل رسام كبير حفظ لنا التاريخ اسمه تتلمذ على أيدي أساتذة أكبر منه، تعلّم منهم، وأضاف إلى ذلك المعطيات الخاصة ببيئته ومجتمعه وزبائنه.
حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، كان الرسامون يعملون في غالبية الأحيان بناء على طلب من زبون، وغالباً ما كان الزبائن يشترطون على الرسام ليس فقط موضوع اللوحة، بل أيضاً كثيراً من تفاصيلها وصولاً إلى وضعية الشخص الجالس مثلاً وما يجب أن يظهر خلفه وأمامه وبقربه.. وكان على الرسام أن يتستخدم عبقريته لإنجاز اللوحة، بعبارة أخرى، للاستجابة الناجحة للائحة المطالب. أي أن مصادر إلهامه كانت داخلية تتحرك ضمن دائرة عبقريته الخاصة، وما سبق له أن تعلمه من أساتذته.
ولكن منذ ذلك الزمن، كثيراً ما كان الزبائن المثقفون يستلهمون كتاباً أو رواية تاريخية، ويطلبون إلى الرسام أن يرسم أحد مشاهدها المفصلية. وهكذا، ما بين «مدرسة أثينا» التي رسمها رافائيل على أحد جدران الفاتيكان، في بداية القرن السادس عشر، و«قسم الأخوة هوراسيو» التي رسمها جاك لوي دافيد بناءً على طلب الملك لويس السادس عشر في أواخر القرن الثامن عشر، حفلت القصور الأوروبية (ومن ثم متاحفها اليوم) بآلاف اللوحات المستلهمة من الأدب الإغريقي والروماني.
وغداة الثورة الفرنسية، عند نشوء الأزمة الوجودية الكبرى، اتخذ استلهام الجذور اليونانية والرومانية طابعاً حاداً وشمل كل شيء من فن العمارة إلى الرسم والنحت والفنون الصغرى، فيما صار يُعرف لاحقاً بالمرحلة «النيوكلاسيكية». والواقع أن كلمة «استلهام» هنا ضعيفة بعض الشيء، إذ من الأصح أن نقول اقتباس واستنساخ الفنون الرومانية واليونانية. حتى أن كثيرين من مؤرخي الفن يصفون المنجزات النابليونية على صعيد تخطيط باريس وعمرانها بأنها «رومنة» العاصمة الفرنسية (أي جعلها رومانية).
مع بداية ظهور الانطباعية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والدعوة إلى تحرير الفن من الضغوط الاجتماعية والمؤثرات الخارجية (ومن بينها ضغوط الزبائن)، اتسع هامش الحرية أمام الفنان، وبالتالي اتسع أمامه مجال البحث عن مصادر إلهام حيثما شاء. ولكن أكبرها كانت «الشللية» التي قامت بين مجموعات الفنانين والأدباء، وخاصة في باريس آنذاك. فصار كل فنان يدرس جيداً أعمال زملائه ويناقشها وينطلق منها لإبداع فن مختلف تماماً.
فقد تميز فن الرسم عند بول سيزان في أواخر عمره بخصوصية جمالية غير مألوفة آنذاك، تقوم على إبراز مجموعة الأحجام الصغيرة التي يتألف منها المشهد العام، وكأن الجبل أو الشجرة مؤلف من قطع صغيرة مجموعة إلى بعهضا. استلهم جورج براك وبيكاسو هذا المنطق المختلف في الرسم، ليفككا الأشياء أكثر فأكثر ويعيدا رسمها كما لو كانت مجرد مكعبات ذات حواف هندسية.. وهكذا ظهر الفن التكعيبي. وفي الوقت نفسه كان فاسيلي كاندينسكي يستلهم التركيز على اللون عند الانطباعيين، وعندما دمج هذا الإلهام بالأثر الذي تركه في نفسه كتاب الألماني فيلهالم وارنغر حول «التجريد» الذي صدر عام 1908م، وجدناه يرسم في العام 1910م، لوحة مائية (موجودة اليوم في متحف بومبيدو) ليس فيها أي إشارة لأي شيء من العالم الحقيقي، فكان ذلك بداية فن التجريد.
وعندما نضيف إلى ذلك مثلاً آخر كالأثر الواضح الذي تركه الفن الإفريقي بشكل واعٍ وعلني على أعمال بيكاسو وماتيس، والفن الإسلامي على هذا الأخير، يمكننا أن نجزم أن كل ما شهده تاريخ الفن التشكيلي في الغرب، كان مرتبطاً بمصادر إلهام واضحة، سواء أكانت داخلية مثمثلة في ما درسه الفنان في محترف أستاذه، أم خارجية بعيدة كالشرق الذي استأثر بألباب مئات الفنانين في القرن التاسع عشر، أم الحوارات والنقاشات في شلل الأصدقاء.
«المثل الأعلى»
من زمن عظماء الماضي إلى شباب اليوم
إن واحداً من أهم مصادر الإلهام وأكثرها إنسانية وأطولها تأثيراً على مستوى السلوك والعمل، يكمن في أفراد مميزين، يراهم أفرادٌ آخرون نماذج تُحتذى. ومثل هذا المصدر هو ما نسميه «المثل الأعلى».
والواقع أن دور المثل الأعلى كمصدر للإلهام لا يقتصر على تحفيز الإبداع كما هو الحال في الفنون والآداب. بل يمكنه أن يقود إلى ما هو أعظم شأناً وصولاً إلى رسم مسار التاريخ.
من الأمثلة الشهيرة التي يمكننا أن نذكرها في هذا المجال الإسكندر المقدوني، الذي تؤكد سيرته أنه كان لإلياذة هوميروس أبلغ الأثر على حياته السياسية والعسكرية، من خلال انبهاره بشخصية البطل الأسطوري أخيل الذي صار مثله الأعلى منذ الطفولة وحتى وفاته. ويؤكد رواة سيرته أن اندفاعاته المجنونة في فتوحاته التي بدأت ولم تنته إلا بوفاته، كانت من باب الرغبة في أن يكون «أخيل الثاني». وأنه أمام كل وضع صعب، كان يجادل قادة جيشه بحجج مستمدة مما قاله أو فعله أخيل هنا أو هناك.
فعلى مستوى القادة العسكريين الكبار، يبدو استلهام قادة آخرين وسابقين أوضح بكثير وأبلغ تأثيراً مما هو عليه عند غيرهم. فمن المعروف جيداً أن نابليون بونابرت، مثلاً، كان يكن احتراماً شديداً لفريدريك الكبير ملك وارتنبرغ، ويستلهم منه كثيراً على صعيد الإدارة والسياسة الباردة. ولكنه كان يرى مثله الأعلى في كل من الإسكندر المقدوني ويوليوس قيصر. حتى أنه عند تتويجه امبراطوراً أمر بصياغة التاج على غرار أكاليل الغار التي توجت قديماً الإسكندر وقياصرة روما.
ولكن المثل الأعلى كمصدر للإلهام لا يقتصر على العسكريين والقادة، بل نراه حاضراً عند كثيرين من العظماء في مجالات لا علاقة لها بالفتوحات ولا الحياة العامة. وحكايا استلهام سيرة شخص من قبل شخص آخر لا تنتهي. ومن أقربها إلينا وأشهرها عالمياً سيرة ستيف جوبز، أحد مؤسسي شركة «أبل»، وقائدها في مسيرتها إلى أعلى مراتب النجاح في صناعة كومبيوتر. فغداة وفاة جوبز نشرت صحيفة النيويورك تايمز مقالة بعنوان «هذا هو الرجل الذي ألهم ستيف جوبز»، والرجل هو إدوين لاند، مبتكر آلة التصوير الفوري «بولارويد».
جاء في المقالة تعداد لأوجه الشبه بين شخصيتي لاند وجوبز. فكلاهما تخلى عن الدراسة الجامعية قبل الحصول على شهادة، وكلاهما كان يعترض على «استطلاع الأسواق مسبقاً»، لأن كليهما كانا يعتقدان أن «المستهلك لا يعرف ما يريد حتى يراه». وكلٌ من المبتكرين الكبيرين صنع منتجاً «تم تصنيفه في البداية على أنه من الكماليات الفاخرة». وكما حصل لجوبز، أُبعد لاند عن شركته التي وقعت لاحقاً في مأزق. ولكن بخلاف جوبز، فقد توفي لاند قبل أن تستعيده الشركة لينقذها، كما استعادت «أبل» جوبز الذي أنقذها فعلاً.
عرف جوبز لاند شخصياً، وقال إنه يرى العالم من خلال شخصيته. وفي وقت لاحق قال عنه: «إن هذا الرجل كنز وطني. إني لا أفهم لماذا لا يُرفع مثل هؤلاء الناس إلى مستوى المثل الأعلى. إنه أمر لا يمكن تصديقه.. لا رائد فضاء ولا بطل كرة قدم.. بل هذا».
مادة جديدة للدراسة
اللافت في الدور الذي يلعبه «المثل الأعلى» على حياة الفرد هو أنه لم يصبح مادة للدراسة العلمية إلا خلال العقود الأخيرة. حتى أن تسميته الشائعة اليوم بالإنجليزية «Role Model» هي من ابتكار عالِم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون (1910 - 2003م) الذي توصل إلى هذه التسمية في مسيرته المهنية من خلال دراسته لتأثر الناس بأناس آخرين يعدونهم القدوة والمثل الأعلى.
وبعدما كان علم النفس قد تناول منذ القرن التاسع عشر دور الأهل كمصادر إلهام لسلوك الأطفال خلال نشأتهم حتى سنّ معيَّنة، تغوص اليوم دراسات عديدة في علم الاجتماع لدراسة آثار «المثل العليا» على الشباب من الجنسين. ومعظمها، بما فيها دراسات ميرتون نفسه، تؤكد أن الدور الذي يلعبه «المثل الأعلى» هو أعمق وأخطر بكثير مما يبدو عليه ظاهرياً، وصولاً إلى تأثيره على مستوى النجاح في الدراسة.
فعلى صعيد مستوى تأثر الجنسين بالمثل الأعلى، يبدو ألَّا فرق بين الذكور والإناث. ولكن «نوعية» مصدر الإلهام هذا هي التي تحدد الاختلافات على مستويات الدراسة والنجاح.
والخطير في الأمر كما يرى ميرتون، أن الإعلام هو الذي صار يرشِّح أو يقترح المثل العليا على شباب اليوم، ودوره في هذا المجال يتعاظم باستمرار. فهو يضع الرياضيين والناجحين في مجال الأعمال والأثرياء والمخترعين أمام الذكور كمصادر للإلهام. وفي المقابل، هناك الشهيرات في عوالم الفنون والجمال والأزياء أمام الإناث. صحيح أن هذه القاعدة ليست مطلقة في صحتها، إذ إن كل شيء يتوقف على شخصية المستلهم، ولكن الدراسات تقول إنها لا تجد في غير ذلك ما يفسِّر قلة إقبال الإناث مقارنة بالذكور على الدراسة والتفوق في مجال العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات .(STEM)
قالوا في الإلهام
«في الوقت الذي استمر فيه الإلهام من الماضي، كما هو حال معظم الأمريكيين، فإنني أعيش في المستقبل».
الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان
«الإلهام موجود. ولكن عليه أن يجدنا ونحن نعمل».
بابلو بيكاسو
«لا يمكنك أن تنتظر الإلهام. عليك أن تذهب مع غيرك للبحث عنه».
جاك لندن
«إني أذهب إلى الطبيعة كل صباح، لأستلهم عمل اليوم. فأتبع في المباني التي أصممها المبادى نفسها التي تستخدمها الطبيعة في مجالها».
المصمم المعماري فرانك لويد رايت
«لقد بدأت الحضارة الإنسانية بالنمو منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها الاتصال.. الاتصال عبر البحار الذي سمح للناس باستلهام أفكار جديدة من بعضهم البعض وتبدل سلع خام أساسية فيما بينهم».
ثور هايردال
«الإلهام لا يأتيني من لوحة أو كتاب، بل من المرأة التي قد أقابلها في مكان ما».
مصممة الأزياء كارولينا هاريرا
«أن تكون تحت الاحتلال وتحت الحصار، فالأمر ليس ملهماً جيداً للشعر».
محمود درويش
«كل ما أطلبه في صلواتي هو الإلهام وطريقة تفكير، لأني أعيش دون هدف واضح».
الملاكم مايك تايسون
«الإلهام يأتي من العمل يومياً»
الشاعر شارل بودلير
«نعم يمكنني أن أجلس أمام ورقة بيضاء وأبدأ العمل، لأني لا أؤمن كثيراً بالإلهام».
مصمم الأزياء كارل لاغرفيلد
«المهارة التقنية هي ما تسقط فيه عندما تفتقر إلى مصادر الإلهام».
راقص الباليه رودولف نورييف
«هناك دائماً من يتطلع فقط إلى التقنية، ويسأل «كيف؟» بدلاً من أن يسأل «لماذا؟». شخصياً أفضل الإلهام على الإعلام».
مان راي
«لمئات السنين، ظل الناس يتحدثون عن إلهام الفنانين. ولكن في أحيان كثيرة، كان هناك من يطلب من الفنانين أن يرسموا لوحة أو يكتبوا سيمفونية مدفوعة الأجر سلفاً. وغالباً ما كان هؤلاء يستجيبون بإنتاج تحف حقيقية».
توم غلايزر