فيما تتقدَّم مجمل الآداب والفنون وتتبدَّل مدارسها ورموزها، فإن الفن التشكيلي المعاصر يخوض جولات تجدّده، ويتقدَّم ليكسر قوالب الشكل والمضمون معاً.
انتهى العصر الذهبي للفنون، يقول أحدهم، لكن آخرين يواصلون مغامرتهم الجمالية وأمام أعينهم تمزقات العصر ووحشية حروبه وتشظي إنسانه.
الناقد فاروق يوسف، يقدِّم في مقالته التالية موجزاً لملامح الفنون الجديدة التي تحتل واجهة الفن في معارض العالم.
تأكل مارينا ابراموفتش رأس بصل كبير أمام الجمهور. يحنط داميان هيرست شاة ويضعها في صندوق زجاجي مغمورة بمحلول حافظ. تعرض تريسي امين سريرها الشخصي على الجمهور وتنال بسببه كبرى جوائز الفن في بريطانيا.
وعي جديد بالفن
يعبئ كوبر كيساً بالرمل، ويحدث له ما يشبه الثديين. يصنع ريتشارد لونغ دوائر كبيرة من الحجارة ومن الأخشاب. تلقي انجيلا دي لا كروز أبواباً خشبية عتيقة، بعضها فوق البعض الآخر. يصنع أنش كابور مرآتين عملاقتين واحدة في شيكاغو والأخرى في نيويورك، تكلفة كل واحدة منها عشرة ملايين دولار. هناك كراسي وأسرَّة لا تصلح للجلوس ولا للنوم، لأنها غطيت بالمسامير تُعرض باعتبارها أعمالاً فنية. ترسم دوريس سالسيدو صدعاً بطول 300 متر على الأرض يتوهم المشاهدون أنه صدع حقيقي فيخشون الاقتراب منه. يجلب جيف كونز دمى من أسواق الأشياء المستعملة وينسبها إلى نفسه. يصمم ارنستو نيتو وسائد وجدراناً من القماش ويصنع منها متاهة يضيع في دروبها الجمهور. حشود من الكائنات الطينية الصغيرة يضعها انتوني غورملي على الأرض. تطلق جانيت اشلمان شبكات خيطية هائلة في الهواء. ترسم جانين انطوني بشعر رأسها على الأرض. كارين فينلي تنثر الحليب فوقها أمام الجمهور. منى حاطوم تصنع حاجزاً من الأكياس الرملية تنمو من خلاله وفوقه الأعشاب. تعلِّق سارة سز سلالم جاهزة في الهواء. تارا دونفان تطلق غيوماً من مواد خفيفة. أشياء كثيرة سواها تبدو كما لو أنها دخلت خطأ إلى قاعات العرض، ولكن كثيراً منها يقيم الآن في المتاحف ويمكن أن نرى صُورَه في المجلات والكتب الفنية. البعض تسلل إلى الساحات العامة. ما من خطأ إذاً. علينا أن نقتنع بأن الفن تغيَّر. أن نؤمن بما يجري أو لا نؤمن ذلك شيء آخر. ما يحدث من حولنا يمكن تشبيهه بطي سجل قرون من الفن. لقد ذهب كل السحر القديم إلى المتحف. لم يعد في الإمكان الحكم على الوقائع الفنية من خلال الأدوات النقدية (التحليلية والانطباعية) الراسخة. بل إن ما يجرى تكريسه منذ نهاية عقد الثمانينيات من القرن العشرين يتفادى إنتاج أدوات نقدية ترافقه لتكون مقياساً له. وكما أظن فإن النقد لم يَعد نافعاً. لقد استهلكت النظريات النقدية نفسها مثلما فعل الفن القديم. نحن إذاً نقف إزاء وعي جديد بالفن يستلهم خلاصاته من حيوية فكرة جديدة للعيش. وهي فكرة نقدية يهمها كثيراً أن تعبئ عقول الجمهور بأثرها المتمرد والمشاكس والمدمر. إذاً لم تعد الذائقة الفنية هي المقصودة بالهجوم، ذلك لأن فن اليوم لم يعد معنياً بالجمال إلا باعتباره شرط حياة إنسانية مستقرة. «الحياة ينبغي أن تكون جميلة بما يكفي لإنتاج أسباب التمسك بها» هذا ما يذهب إليه الفن الجديد باعتباره هدفاً. ولكن كيف يمكن التفكير بذلك الهدف؟
القبح الزائد والجمال القليل
ما نشهده اليوم من أحداث كبيرة لا يدفعنا إلى التفاؤل بمستقبل البشرية. هناك نوع صارخ من التمييز: أقلية بشرية محمية من كل خطر متوقع فلا جوع ولا تشرد ولا عوز ولا حرمان ولا فاقة ولا تهديد بالإبادة ولا منع ولا سجون ولا عزل ولا كبت ولا نقص في الحريات ولا استهانة بمستوى الكرامة الإنسانية، في مقابل أكثرية مهددة بالإبادة والكوارث والحروب والمجاعات والفقر وأمراض سوء التغذية والتشرد والذل وسواها من الفظاعات التي تصلح مادة لأفلام الرعب. في هذه الحالة (وهي واحدة من حالات كثيرة يعيشها عالمنا المعاصر) لن تكون الحياة جميلة. كيف يمكننا أن نتخيلها جميلة؟ كل هذا القبح الذي يحيط بنا ينبغي أن يدفعنا إلى التفكير بوظائف أخرى للفن غير إنتاج نوع من الجمال يمكن أن يلتهمه القبح بكل يسر ويمكن أن يكون وسيلة للكذب. وهو ما جرى فعلاً. فالطبقات الثرية، وهي المستفيدة من الوضع القائم، استطاعت أن تستولي على كل ما أنتجه الرسَّامون والنحَّاتون من أعمال جميلة (وفق المفهوم النقدي السائد) لتكون تلك الأعمال مصدر تسليتها ومتعتها. ولكن ذلك ليس كل شيء. فالفن لن يتمكن من إعادة الأمور إلى نصابها الحقيقي ولا يمكنه أن يصلح شيئاً في معادلة هي من صنع تاريخ ظالم. أعتقد أن الفن هو الآخر يعاني من حالة نفي. هناك قدر هائل من الوضاعة في استعمال الفن باعتباره مظهراً للزينة والأناقة الفائضة والتبرج والتباهي والتنافس الاستعراضي. صارت إهانة فنسنت فان غوخ الذي مات فقيراً ممكنة بملايين الدولارات التي تُقدَّم مقابل لوحته. ما كان يفكر فنسنت فيه شيء وما انتهت إليه لوحاته من مصير شيء آخر. لقد استعملت إنسانيته لتكون غطاءً لتهريب الأموال من حالتها السائلة إلى حالتها الهوائية. أمام قسوة من هذا النوع صار الفنانون يفكرون بمصائرهم المتخيلة. هناك خيار ثالث. خيار ديمقراطي لا يقاسم فنسنت عزلته وموقعه الهامشي ولكنه في المقابل لا يظهر أي قدر من الاحترام للسلوك المافيوي الذي جعل من الفن سلعة مستباحة في سوق العرض والطلب. الآن يقيم الفن في المسافة الغامضة التي تفصل بين الفن والنخبة التي تسعى إلى استمالته إلى صالحها ومن ثم استعماله في ترويج مصالحها. هناك قدر عظيم من التمرد هو ما يضفي على كل فعل إنساني نوعاً من الجمال الذي لا يذكر بالروائع غير أنه ينتمي إلى جمال الحياة. في كثير من الأعمال الفنية الجديدة يكون فعل العيش في حد ذاته فعلاً فنياً. نرى الفنانين يروون في أفلام الفيديو مقطعاً من سيرة حياتهم ليتيحوا لنا التسلل إلى تلك الحياة وفهم ما يتخللها من أسرار. في هذه الحالة لا يكون العمل الفني وسيطاً بل مختبراً تمتزج فيه قوتان: الفن وتلقيه. وهما قوتا استلهام لا تكفان عن الحركة.
فنون بلا هوية
قبل سنوات كان صعباً علينا أن نفكر بفن لا ينتمي إلى جهة بعينها. إلى مكان ما. إلى ثقافة بعينها. كان هناك تفكير مختلف بالفن، من خلاله، وصولاً إلى وظائفه والهدف منه. شيء ما تغير خلال العقود الماضية يسرَ عملية تفكيك علاقات عديدة، اتضح فيما بعد أنها لم تكن بالقوة التي تؤهلها للمقاومة والصمود والدفاع عن نفسها. ذلك الشيء هو مزيج من وقائع، بعضها كان مادياً فيما كان البعض الآخر روحياً. على المستوى المادي نلاحظ اتساع رقعة استعمال التقنيات الرقمية وغزارة الثروة المعلوماتية وتوزع اهتمام الذهن البشري بين ما هو مرئي وبين ما هو افتراضي، وكلاهما حقيقي، حيث بدا أن مفهوم الواقعية قد جرى سحبه من التداول المعرفي. وهناك أيضاً العلاقة المستحدثة بين اللغة والصورة. وهي علاقة قديمة، غير أنها لم تخرج إلى العلن إلا بعد أن اتخذ الهذيان الفضائي طابعاً شعبياً من خلال قنوات التلفزيون. صار الناس يشعرون أنهم موجودون في كل مكان وقد يكون ذلك الشعور مصدراً لغربة من نوع جديد. ثم هناك أيضاً سرعة التنقل بين الأماكن حيث صارت الحركة لا تتوقف في المطارات ولو لثانية واحدة. ومن وجد نفسه مضطراً للجلوس في انتظار طائرته في مطار هيثرو مثلاً لساعات طويلة سيدرك أن ملايين البشر تُغيِّر أماكنها كل يوم. وبسبب كل هذه التغيرات فقد وجدنا أنفسنا في مواجهة ثقافة بصرية جديدة تقوم أساساً على ذاكرة بصرية قادرة على الحذف والإضافة بسرعة فائقة. أما على المستوى الروحي فقد حل فراغ كبير بعد أن تفتت العقائد الفكرية الكبرى وانحسار تأثير النزعة الثورية المتمردة وسطوة السلوك النفعي الذي يقدِّم المصالح على المبادئ. وهو الأمر الذي مهَّد لنشوب حروب شريرة، غلب عليها طابع النفاق السياسي والكذب الإعلامي فيما كانت رغبة الأقوياء في الاستحواذ على مزيد من السلطة العالمية لا تُخفى. لقد أصبحت أمنّا الأرض أقل أمناً وازدادت مظاهر العزل الحضاري بقوة التدمير وانتظاراً لما يمكن أن ينتج عن الفوضى الخلاَّقة. هناك نوع صامت من اليأس هو ما دفع بكثير من الفنانين إلى اللجوء إلى الأساليب المباشرة (المبتذلة والسوقية) في محاولة منهم للفت النظر إلى الكارثة التي تحيق بالمصير البشري وبالطبيعة من حولنا. قسوة متبادلة يعيشها الفن مستفزاً ومنفعلاً وأخوياً. هل صار العالم واقعياً أكثر مما يجب؟ وأيضاً هل تخلَّى العالم عن واقعيته بشكل مطلق؟ يتطلب فناً يجاري الواقع في مبالغته أو في تخليه قدراً من النسيان. نسيان ماضيه التقني والفكري. صار علينا أن نرضى بفن لا نعرفه مثلما نعيش واقعاً نحن غرباء فيه. ولهذه الأسباب صارت مسألة هوية الفن من المنسيات بعد أن تعرضت هوية الفرد إلى التعدد إذا لم نقل إلى التشظي.
فقر خيال البشرية
يمكننا الحديث بيسر عن قطيعة نسبية مع الأنواع الفنية التي صارت تقليدية (الرسم والنحت، بالأخص) ولكن لا يزال الوقت مبكراً أيضاً على الحديث عن أنواع فنية متماسكة جديدة. ما هو جاهز أمامنا ليس سوى تقنيات: الفن الجاهز. فن التجهيز والإنشاء والتركيب. الفن المفاهيمي. فن الفيديو. فن الحدث. فن الإداء الجسدي. فن الأرض. كلها تسميات استنبطت من التقنية المستعملة من أجل التعبير عن فكرة أو العمل من خلال تلك الفكرة على الوصول إلى يقين مشترك بالتحول. فلايزال هناك في الممارسة الفنية الجديدة الشيء الكثير من الرسم. لايزال هناك الشيء الكثير من النحت. وفي كثير من الأحيان تستظل الأعمال الجديدة بالعمارة وتحتمي بها وتستعمل فضاءاتها.
على سبيل المثال فإن ما تقدِّمه كيكي سمث يمكن أن ينضوي تحت مفهوم النحت، لكنه نحت مزاح عن قيمه التعبيرية والأدائية السابقة. بالطريقة نفسها يمكن النظر إلى رسوم تريسي أمين المقتضبة والمتوترة. لكن ما حدث يتجاوز كل إمكانية للعودة إلى الوراء. ذلك لأن الفنون المعاصرة وهي تقدم الفكرة على الجمال صارت تُعنى بالمعنى أكثر من عنايتها بالشكل. هل يولد الشكل من المعنى؟ ولكن لا حاجة إلى التفكير بهذه الثنائية من جديد بعد أن صارت الصورة متاحة أكثر مما ينبغي. أفكر بالزيف التزييني الذي كان يتبدى من خلال الرسوم والمنحوتات بحجة العناية بحساسية المتلقي ورعايتها جمالياً. كان ذلك الزيف واحداً من أهم الينابيع التي انبعثت منها شكلانية احتلت جزءاً من خيالنا غير أنها قربت الأنواع الفنية من ساعة موتها. دفعتها إلى الخواء في مواجهة عالم حائر، كان يشعر أن هناك خطراً قد شق الطريق في اتجاه معنى وجوده. وكما أرى فقد عثر الهائمون من البشر على ما يمكن أن يجعل لتيههم معنى. تلك الأشياء المهملة والمنسية والمبتذلة التي صارت تجتاز فضاءً تخيلياً بقوة المعنى لا لتعبِّر عن حاجتنا إليها، (وهو ما كان يفعله الرسم والنحت في أوقات سابقة)، بل لتذكر بوجودنا، كائنات تمارس فعل العيش كما لو أنه هبة ناقصة. الدفاع عن طريق المعنى هو خير وسيلة لتفسير جدوى المقاومة ومواجهة خطر القبح. وهو خطر لا تقاومه الصور الجميلة. تلك الصور التي تنسينا مؤقتاً ما يحيط بنا من قبح مادي وروحي، تمثله حملات الإبادة المنظمة والفقر والجهل والحرمان والعزل والكبت والقمع والتمييز والاستغلال الجنسي والعنصري وتسليم شعوب بعينها للأوبئة والكوارث الطبيعية. أعتقد أن البشرية وهي تعيش أزمة ضمير لا غنى عن الاعتراف بقصورها، بضعف حيلتها، بفقر خيالها، بنقص قوتها وهو ما يفعله الفن الجديد تماماً. في كل عرض فني هناك دعوة لنقض فكرة الكمال والتماهي مع رغبة عميقة في هدم الصورة التي تشم من خلالها رائحة الخيانة. خيانة الوعي عن طريق جمال زائل. إذن فهذه الفنون الجديدة هي رحلة في دروب واحدة من أكثر المتاهات التي صنعت معنى لحياتنا المعاصرة من خلال الفن. وهي محاولة يمتزج من خلالها التاريخي بالنقدي من أجل التعرف على ما يحدث للفنون في زماننا. وقائع كثيرة ليس من اليسير إحصاؤها صارت اليوم جزءاً من التاريخ مهدت وصنعت حيوية ثقافية أحلت مفهوماً جديداً للفن محل مفهوم كنا إلى وقت قريب نظنه خالداً لا يزول.