يستوقفنا، يستفزّ قدرتنا على الحيادية والمنطق، نجد أنفسنا محكومين بسواده من طرق منقاره حتى ذيله. وتكتمل صورته المرئية بصورته المسموعة، صوت ترتجف له طبلة الأذن عند سماعه، إذ يكسر قاعدة أصوات الطيور الأخرى بنشاز يجبرنا على استثنائه لا إرادياً من بين كل ذي ريش.
إنه الغُراب، الطير ذو الحضور المتميز في ثقافات الشعوب وآدابها، حضور يطغى عليه في معظم الأحيان النفور الذي يصل إلى حدِّ الكراهية، والتشاؤم منه الذي يصل إلى حد استشعار الموت..
أفلا تستحق هذه الصورة شيئاً من التقصّي والبحث؟
جعفر حمزة يخوض غمار هذه التجربة، ساعياً إلى الكشف عمَّا يمثِّل العلاقة ما بين هذا الطير وبني البشر الذين يميلون إلى إسقاط كثير من ضعفهم على ما حولهم من جماد وحيوان وطير، ويبدو أن الغراب قد أخذ نصيباً وافراً من ذلك.
فبشكل عام، أفردت الإنسانية مساحة خاصة بالغراب بعد أن عزلته في وجدانها عن باقي الطيور. أحبَت الداجن وغير الداجن منها. ووجدت في كل طير حسنة أو جملة حسنات: صوت البلبل والكنار، أناقة الطاووس وأبهته الملكية، مهابة الصقور والنسور، أناقة الهدهد المتوَّج، قدرة الببغاء على تقليد الكلام، الحمامة ورمزيتها للسلام، أما الغراب؟
حتى اليوم، في القرن الحادي والعشرين، لا يزال الغراب محاطاً بالتصور السلبي الملتصق به منذ آلاف السنين. تصور ينطلق من الربط غير العقلاني ما بين سواده وأحوال البشر من حوله، بعد أن ربطته المجتمعات القديمة ودياناتها الوثنية بالسحر والشعوذة والخوف من الموت، أو استجلاب الموت.. فما من طير ينافس الغراب على حضوره الكبير في ثقافات العالم، ورمزيته الوثيقة الصلة بالمفاهيم الاجتماعية والوجدانية، غير الآبهة بالمنطق وحقائق العلم.
هذا السواد هذا الشؤم
لو بدأنا بتناول التاريخ الثقافي للغراب من آخر فصوله، لأشرنا إلى ما شهدته مقاطعة «يوغرا» الروسية في الآونة الأخيرة. فقد عزمت حكومة هذه المقاطعة على إدراج «الغراب الرمادي» على اللائحة الإقليمية لموارد الصيد، وذلك بسبب تزايد أعدادها بشكل كبير بات يشكِّل خطراً على الناس والبيئة، لكون هذا الغراب من الطيور الكاسرة التي تهدِّد كثرتها بانقراض كثير من الحيوانات الأخرى التي تتغذَّى عليها.
ولكن تنفيذ قرار الحكومة ليس بالأمر اليسير. لأن السكان المحليين في هذه المنطقة يكرِّمون الغراب ويحتفلون بيوم الغراب، استناداً إلى أسطورة قديمة، تقول إنه عندما تأتي الغربان إلى الشمال، تنتعش الأنهار ويصبح صيد الحيوانات وافراً.. ولأن الغربان هي أول الطيور التي تصل إلى تلك المنطقة الشمالية، يرى السكان أنها تعمل كوسيط بين فصلي الشتاء والصيف، وتفتح الطريق لغيرها من الطيور، ويربطون ذلك مع تجدد الحياة في الطبيعة. وثمة أسطورة تحكي في هذه المنطقة عن امرأة من قبيلة محلية كانت تحب أطفالها كثيراً، حتى أنها كانت تسمح لهم بأن يفعلوا ما يشاءون، إلى أن نسي هؤلاء آداب الطاعة وصاروا متمردين ينتهكون الأعراف والتقاليد، فعاقبت القبيلة هذه المرأة بتحويلها إلى غراب، ثم طردتها من المنطقة. ولأن هذه المرأة كانت تشتاق لأولادها، وتعود قبل غيرها من الطيور إلى موطنها الأصلي في الشمال، نشأ تقليد بين الناس هناك، يقضي بأن يسألوا الغراب أن يرزقهم أطفالاً ويهنئهم بحياتهم!؟!
والسؤال هو: إذا كان مثل هذا الاعتقاد الخرافي لا يزال حياً في القرن الواحد والعشرين، فكيف كان الحال قديماً عند الشعوب والوثنيات القديمة؟
في الوثنيات القديمة
صلة الوصل مع عالم الغيب
تعددت أنماط التعامل مع الغراب لدى الشعوب القديمة، غير أن ما يجمعها هو اعتبار هذا الطير، دون غيره من الطيور، صلة الوصل ما بين العالم بحاضره وحقائقه الملموسة من جهة والغيب المجهول من جهة أخرى.
فالإغريق ما كانوا يسمحون للغربان بأن تحط فوق مجمع المعابد (الأكروبوليس) الذي يعلو العاصمة أثينا، لاعتقادهم بأن ذلك فأل سيء، وأن هبوط الغراب على سطح أحد المنازل هو نذير بموت أحد سكانه. أما «من يأكل قلب الغراب فيمتلك قوى خارقة».
وتبنَّى الرومان هذا الاعتقاد، وأضافوا إليه اعتقاداً آخر يقول إن الغراب إذا مشى متبختراً على الرمال ذهاباً وإياباً، فإنه يستدعي بذلك سقوط الأمطار!
ومن الحضارتين الإغريقية والرومانية، استمر بعض الأوروبيين حتى اليوم في الاعتقاد بأن نعيق الغراب هو نذير بالموت. وذهب السويديون مذهباً غير بعيد عن ذلك، فاعتقدوا أن الغربان هي أشباح الناس الذين ماتوا قتلاً.
ويعتقد الهنود «الليلوويون» الذين يسكنون في كولومبيا البريطانية بأن الشخص الذي يسكن الغراب روحه سيمتلك القدرة على التنبؤ بالموت وأحوال الجو. وفي أساطير القبائل الهندية التي تسكن غرب أمريكا، يكون الغراب أحد الأشخاص الذين تتداولهم الألسن..
أما في الشرق الأقصى، فصورة الغراب أفضل حالاً بعض الشيء. ففي الأساطير الصينية وثقافتها، هناك الغراب ذو الأرجل الثلاثة الذي يعيش في قلب الشمس، وتمثل أرجله الثلاث الأوقات المختلفة من النهار: الصباح والظهيرة والمساء. ويَعُدُّ اليابانيون الغراب طيراً عظيم الدلالة على إرادة السماء وتدخلها المباشر في شؤون الإنسان.
وما بين هذا وذاك، كان السحرة والمشعوذون في أوروبا طوال القرون الوسطى أكثر الجهات استغلالاً لشكل الغراب وتميّز نعيقه، فضمّوه إلى أدوات شعوذاتهم السوداء والمخيفة، ليعزّزوا بذلك نفور العامة منه، وليربطوا ربطاً لا عقلانياً ولا فكاك فيه ما بين الغراب والغموض.. كل أشكال الغموض.
طغى هذا الموروث الثقافي المتراكم منذ آلاف السنين على كل ما عداه في رسم صورة منفَرة للغراب في معظم بقاع عالمنا اليوم. حتى أن المواقف الإيجابية من هذا الطير، كموقف مقاطعة يوكون الكندية التي تُعد الغراب طائرها الرسمي، تبقى أقل من أن تذكر، أمام صورته الشائعة، وشتَان ما بين هذه الصورة الشائعة والحقيقة.
حقيقته العلمية
تقول الأبحاث إن منشأ الغراب الأصلي هو على الأرجح آسيا، ومنها انتشر في معظم أنحاء العالم ما عدا القارة القطبية الجنوبية وجنوب أمريكا الجنوبية. وخلال تطوره، ظهر نحو أربعين نوعاً من الغربان تتفاوت الاختلافات ما بينها قليلاً أو كثيراً في بعض الأحيان.
تتميز الغربان بريشها الأسود الذي يغطِّي كامل أجسامها. ويساعدها هذا السواد على التخفي عن أعدائها الليليين ومفترسيها مثل البوم وبعض أنواع الصقور التي تنشط ليلاً. ويبلغ معدل طول الغراب نحو 50 سم، ومع فرد الجناحين قد يبلغ عرضه نحو المتر الواحد.
تتغذَّى الغربان على كل شيء تقريباً، بدءاً بالمحاصيل الزراعية من حبوب وفاكهة، إلى الديدان والحشرات والقواقع وبيوض الطيور الأخرى وحتى بعض الطيور الأصغر حجماً والأسماك والحيوانات الأليفة المقتولة في الشوارع. وتقوم الغربان بتخزين غذائها وتخفيه بين أوراق الشجر أو في مرامي النفايات بعيداً عن أعين أعدائها من الطيور. وعلى الرغم من هذا التنوع في السلة الغذائية للغراب، فإن قابليته لالتهام الجيف علقت في ذهن الإنسان أكثر من غيرها، وعززت ربط صورته بالموت.
ويرجِّح المؤرِّخون أن ابتكار «الفزَّاعة» التي ينصبها المزارعون في حقولهم تعود أساساً إلى الرغبة في تخويف الغربان لإبعادها عن حقول الحبوب. وإن كان عداء المزارعين للغراب يُفسَّر بالدوافع الاقتصادية، فإن الغراب وللدوافع نفسها، يستحق اعترافاً بالجميل من النادر أن يحظى به. إذ إنه بوجوده في الحقول الزراعية يلتهم كثيراً من الحشرات الضارة للزراعات، وأهمها على الإطلاق فئران الحقول.
أما صورته كطير كاسر ومتوحش قادر على افتراس حيوانات كبيرة كالأغنام، فلا تخلو من المبالغة. إذ إن الحالة الموثَّقة التي تؤكد قدرة الغراب على افتراس الخراف الضعيفة تعود إلى الغراب الأسترالي فقط. أما غير ذلك، فمجرد شائعات ومخاوف ليس أكثر.
بعض طباعه
لا تتوانى الغربان عن سرقة ما عند غيرها من الطيور، وتتعاون على ذلك كمجموعات للقيام بالأمر. وتعيش الغربان في تجمعات كبيرة تصل إلى المئات وربما الآلاف، ليس لغرض الصيد الجماعي فقط، بل لحماية مناطقها والاعتناء بصغارها معاً. وكل زوج من الغربان يبني عشه الخاص به، الذي يكون عادة في أعالي الأشجار، وقد يبقى صغيرها مع أبويه حتى لست سنوات قبل أن يستقل عنها.
وهذه التجمعات تمتلك هيبة تكسر بها بطش أعدائها من الطيور الأخرى، كالصقور والبوم، ويكون نداء التجمع هو نعيقها المرتفع قبل غروب الشمس، لتتجمع في أماكن أعشاشها التي تُسمى «مجاثم» جمع «مجثم».
ويتميز نمط عيش الغراب بتوزع أدوار العناية بصغاره بشكل منتظم. إذ تهتم الأنثى بحضانة البيض حتى الفقس وإطعام الصغار بعده. أما الذكر فمهمته الأساسية حماية العش من الأعداء، حيث يقف على حافته لمنع دخول أي ذكر غريب من «مجثم» آخر ، وإذا ما دخل ترتفع عقيرته فيقوم بقتله.
تصل أنثى الغراب إلى سن البلوغ في الثالثة من عمرها، والذكر في الرابعة. ويتولى كل من الذكر والأنثى البحث عن الغذاء وجلبه إلى العش. ومن اللطيف أنه عند وجود أكثر من جيل في العش، يقوم الفراخ الأكبر سناً بمساعدة الآباء على جلب الطعام للصغار وتنظيف العش وحمايته، بشكل يتسم بالنظام وتوزيع الأدوار بحكمة.
«نعيقه» لا نفهمه، بل نترجمه من زاويتنا القاصرة، فنوسمه بالقبيح والمزعج، والنعيق لغته، وما يميز صوته هو التردد العالي، وهي لغة التعارف عند معشر الغربان، فلكل نعيق غراب تردد معيَّن وكأنه «شفرة» يبعثها لجماعته، طالباً أو محذراً، مستنجداً أو دالاً.
يؤكل أم لا؟
المؤكد علمياً وبالتجارب، أن لحم الغراب غير ضار أو سام. ولكن كان لنفور الإنسان من هذا الطير بعض الحسنات بالنسبة لهذا الأخير. فإضافة إلى أن لا أحد يرغب في اقتنائه وأسره في قفص، فإن المعلومات عن اصطياده و أكله نادرة جداً، وتكاد تنحصر في بلدان البلطيق في شمال شرق أوروبا، وأيضاً خلال مراحل زمنية متقطعة، مثل الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى، حين حضر لحم الغراب في أسواق المدن الفنلندية. وفي معظم الأحيان، كان لحم الغراب طعام الفقراء والبحَارة الذين كانوا يحفظونه مملحاً، ليبقى صالحاً لفترة طويلة.
أنواعه الموجودة في البلاد العربية
تحضر في المدن والأرياف العربية أربعة أنواع رئيسة ومختلفة من الغربان، وهي:
1 –
الغراب النوحي، وطوله حوالي 50 سم، لون ريش الجسم أسود ما عدا ريش الرقبة فلونه بني وينتشر هذا النوع فى شمال إفريقيا.
2 –
الغراب المروحي الذيل، وقد أطلق عليه العرب (غراب البين) واتهموه بأنه يجلب الخراب. ويتميز هذا الغراب بأنه أصغر من النوع السابق ولونه أسود مع لمعان يميل إلى الزرقة، وهو ذو ذيل قصير مروحي، وجناحه طويل يشبه الخفاش. وينتشر هذا النوع فى السعودية والسودان والصومال ومصر وفلسطين.
3 –
غراب المنازل الهندي، وطوله حوالي 40 سم ويتميز لون ريشه بأنه أسود فى منطقة الرأس والعنق والظهر والجناحين والذيل، أما باقي الجسم فلون ريشه رمادي. وينتشر هذا النوع في دولة الإمارات العربية وعُمان والسعودية.
4 –
الغراب الأورق، وطوله 43 سم، لونه أسود مع رمادي لامع، وينتشر فى مصر و فلسطين وسوريا.
والغربي يجتمع إلى
الشرقي عليه..
لا تختلف صورة الغراب في الآداب الغربية عمَّا ظهرت عليه عند الشعراء العرب. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى. غير أننا نتوقف هنا أمام واحدة من أشهر قصائد الشاعر الأمريكي إدغار ألان بو، رائد الرومانسية في القرن التاسع عشر، وهي بعنوان «الغراب»، وقد نُشرت للمرة الأولى عام 1845م.
تحكي القصيدة عن زيارة غراب مُتكلّم وغامض إلى عاشق مضطرب، يبكي على حبيبته «لينور»، بينما يجلس الغراب على تمثال لأثينا، ويؤجج مشاعر العاشق الحزينة بترديده لكلمة «لا عود».
ويمكن القول إن القصيدة تنسج إطاراً تأملياً أقرب ما يكون للصوفية الفكرية، حيث يطرح الشاعر الصراع الداخلي فيه بين أمل لُقيا حبيبته واليأس الذي ينثره الغراب عليه دون توقف. ويبدو أن هناك مشتركات بين مجنون ليلى ومجنون «لينور» الأمريكي حول الغراب، إذ أصبح الشماعة السوداء المثالية لكل الأحزان.
وتتلخَّص قصة شاعر مجنون ليلى الأمريكي، بالقول إن شخصاً مجهولاً يبدأ الحكاية وهو يقرأ كتاباً عن «المعارف المنسية» لنسيان حبه المفقود «لينور»، حين يسمع طرقاً على الباب ولكنه لا يجد أحداً عند فتحه. بعد ذلك يسمع طرقاً أعلى على النافذة، وعندما يذهب للتحقق من الطرق يُفاجأ بدخول غراب إلى غرفته، ويحط الغراب على تمثال لأثينا فوق باب الغرفة.
وهنا مقاطع من القصيدة الطويلة جداً:
قلت: يا أيها المتنبئ ! أيها الشرير، كائناً من كنت:
طيراً أو شيطاناً أو كاهناً..
سواء أرسلك الشيطان، أو قذفتك عاصفة الريح..
بائساً، وعنيداً فوق هذه القفار العجيبة
قذفتك إلى منزلي المملوء بالوحشة أتوسل إليك:
قل الحقيقة، واصدق في الخبر:
هل ثمة عطر في الأرض المقدسة ؟ أتوسل إليك:
قل الحقيقة واصدقني الخبر
قال الغراب: لا عود
(…)
صرخت فيه: هذا فراق بيني وبينك
أيها الطائر، أو أيها الشيطان
ارجع من حيث جئت، إلى العاصفة
أو إلى شواطئ الظلام..
لا تترك منك في هذا المكان أثراً،
ولا ريشة سوداء تذكر بإفكك المفترى..
(عد) ودعني لوحدتي، اترك التمثال فوق باب حجرتي
انتزع منقارك الذي غرسته في قلبي، وابتعد عني..
قال الغراب: لا عود
ومنذ تلك الليلة، مازال الغراب
مستقراً فوق التمثال على باب حجرتي
يشع من عينيه حلم شيطاني
بينما يمتد ضوء مصباحي على الأرض
ويمد ظله طويلاً على أرض غرفتي..
بينما تمتد روحي خارج دائرة الأسر
أبداً، لا عود
قصيدة تتذوق منها كما تتلمس وترى وتشم معاني ذلك الصراع المتدفق بين اليأس الذي يُنزله الغراب على رأس الشاعر بتلك الكلمة الرتيبة التي يكررها دون ملل «لا عود»، وبين بحث الشاعر عن بصيص أمل في زوايا غرفة قلبه المفطور على حبيبته «لينور».
يبدو أن صورة الغراب النمطية لا تُبارح أذهان السواد الأعظم من البشر عنه، لذا اتفق «بو» الأمريكي مع «ابن الملوّح» العربي في تناولهم للغراب في قصائدهم من نفس المنظار الأسود عنه. فهل هي مصادفة؟!
حكايات بألف لون ولون حول الأسود الواحد
الربط بين سواد الغراب وتميّز «نعيقه» عن تغريد العصافير من جهة، وما يكرهه الإنسان من جهة أخرى هو وليد ثقافة وتأمل وتفكير وعجز عن إيجاد أجوبة عن أسئلة تتحدَّى العقل، مثل ما قد يحمله الغيب، أو موعد الموت وما شابه ذلك. ولكن، ولحسن الحظ، ثمة مجالات يُعفى فيها الغراب من هذا الربط، ومنها حكايات كثيرة، نقول اليوم إنها للأطفال، علماً بأنها عندما كُتبت لم تكن موجهة خصيصاً للأطفال. وفي عديد من هذه الحكايا، تتلون صورة الغراب وفق الموعظة التي يُناط به إلقاؤها.
فقصة الغراب وجرَّة الماء تحكي عن غراب أصابه العطش وأخذ منه أيما مأخذ، حتى وجد ماءً قليلاً في أسفل جرة لا يستطيع الدخول إليها. فتوصَّل إلى حيلة جميلة وذكية، تقضي برمي الحجارة الصغيرة في الجرة ليرتفع الماء بحيث يتمكن من شربه. فالغراب هو إذن مجرد كائن ذكي في هذه الحكاية التي، وللعلم، وجدنا أنها مروية في أكثر ثقافة ولغة.
وفي قصص «كليلة ودمنة» التي كتبها الفيلسوف الهندي بيديا بناءً على طلب ملك اسمه «دبشليم»، وترجمها عبدالله بن المقفع إلى العربية في أيام الخلافة العباسية، يظهر الغراب حكيماً وواعظاً في حكايات عديدة منها: «قصة الغراب والثعبان الأسود وابن آوى»، و«قصة الغربان والبوم»..
وتحتل حكاية «الغراب والثعلب» مكانة خاصة بين الحكايا الشعرية التي كتبها الأديب الفرنسي جان دي لافونتين في القرن السابع عشر، وهي من الحكايا التي دخلت الكتب المدرسية في كثير من ثقافات العالم.
الحكاية هي ببساطة حول الثمن الذي يدفعه من يستمع إلى النفاق والمداهنة. ولهذه الغاية، اختار الأديب الغراب كصورة لقباحة الشكل والصوت.
فالثعلب الماكر عندما رأى الغراب يحمل قطعة من الجبنة في منقاره، راح يمتدحه بالقول:
«صباح الخير أيها المعلم غراب
كم أنت وسيم، وكم تبدو لي جميلاً
من دون كذب، إن كان غناؤك يشبه ريشك
فأنت فينيق المقيمين في هذه الغابة.
أمام هذه الكلمات، طار الغراب من الفرح
وللتباهي بصوته
فتح منقاره عريضاً، تاركاً غنيمته تسقط.
أمسك بها الثعلب، وقال: يا سيدي الطيب
اعلم أن كل مدَّاح
يعيش على حساب من يستمع إليه (…)».
ولكن رغم انطلاق الشاعر من كون الغراب صاحب أبشع لون وصوت من بين كل الحيوانات التي نسج حولها حكاياته، فإن الغراب في هذه الحكاية هو كائن بسيط يصدِّق كل ما يقال إليه.. بعبارة أخرى، إنه طيب القلب يستحق الشفقة.
أذكى الطيور؟
بموازاة النفور التاريخي من صورة الغراب، كان الإنسان يلاحظ في سلوكيات هذا الطير ما ينمّ عن المكر والذكاء. وبحلول القرن الثامن عشر، بدأت الأبحاث العلمية حول «ذكاء» الغراب. وسرعان ما تكشَّفت عن أنه قد يكون أذكى الطيور على الإطلاق. ويعلل ذلك بأنه يملك أكبر نصفي دماغ بالنسبة إلى حجم الجسم بين كل الطيور المعروفة.وتكرر كل كتب التاريخ الطبيعي القول إن الغربان تستطيع العدَ من الواحد حتى الخمسة (أو الأربعة حسب بعض الروايات )، ولكن ذلك غير مؤكد علمياً.
والواقع، إن كل الموسوعات خلال تناولها الغراب بالحديث، تُفرد فقرات خاصة بذكاء هذا الطير، وتروي فيها أموراً مدهشة، تتلخص بما يأتي:
1 –
قدرته على تغيير سلوكه وفقاً للظرف والمكان.
2 –
قدرته على التخطيط ورسم خطواته بدقة بالغة قبل الإقدام على أمر لا يعرف خباياه.
3 –
حل المشكلات باستخدام الأدوات المحيطة به، وتطويع هذه الأدوات لتصبح صالحة لغايات محددة.
4 –
الذاكرة القوية، والقدرة على التعرف إلى وجوه الأشخاص والتمييز بينها.
ومن الأمثلة الداعمة لهذه الملاحظات نذكر تجربة قام بها فريق بريطاني، قضت بأخذ غراب إلى أحد المختبرات، حيث وضع الباحثون لحماً مهروساً داخل أنبوبة ضيقة، وقربها سلك معدني طويل، وتركوا الغراب مع هذه الأدوات وراحو يصوِّرون سلوكه. وبعد أقل من عشر دقائق، قام الغراب بثني طرف السلك المعدني ليصبح مثل الخطَّاف، وأدخله برجله إلى قلب الأنبوبة، ليسحب بواسطته اللحم المهروس ويأكله. ولما اعتقد العلماء أن الغراب فعل ذلك صدفة، كرروا التجربة نحو 10 مرات، وفي كل مرة كان الغراب ينجح في استخراج اللحم وأكله.
والغربان البريَة التي تعيش على الساحل الشرقي للمتوسط (وخاصة في فلسطين المحتلة)، تعلَّمت استعمال فتات الخبز كطُعم لصيد الأسماك. إذ تنقلها بمناقيرها من الطرقات وأكوام النفايات، وترميها فوق سطح البحر، وعندما تقترب منها الأسماك تكون الغربان بانتظارها.
وثمة فصيل من غربان نيو كاليدونيا يعيش أيضاً في اليابان، تعلَّم استخراج لب الجوز اللذيذ من قشرته الخشبية الصلبة، وذلك عبر رمي ثمار الجوز على الطرق المعبَّدة، وانتظار مرور السيارات لتدهسها وتحطِّم قشرتها، حيث يصبح التهام اللب ممكناً.
أما المثال على القدرة المدهشة في التعامل مع مستجدٍّ بيئي والتكيف معه، فيأتي من كوينسلاند في أستراليا.
فهذه المنطقة موبوءة بنوع من الضفادع السامة والدخيلة على بيئتها، التي يتسبب تكاثرها بمشكلة بيئية خطرة في تلك المنطقة. فكل الحيوانات التي تفترس هذه الضفادع (مثل الأفاعي والصقور والقوارض) تموت فوراً، لأنها لم تتكيَّف بعد مع هذه الطرائد الجديدة. وحدها الغربان، تعلَّمت أن تقلب الضفدع على ظهره، لتغرس منقارها تحت عنقه، حيث الجلد هو أطرى مما في باقي جسمه، ومن ثم تفترس لحم ضحيتها متلافية تماماً موضع السم. وبذلك يرشِّح الغراب نفسه لأن يكون السلاح الوحيد الناجح في مساعدة أستراليا على القضاء على الضفادع السامة الدخيلة.
هذا غيض من فيض حول تميَز عقل الغراب، الأمر الذي يفترض فيه أن يؤدي بنا إلى فتح صفحة جديدة في علاقتنا مع الطير، والنظر إليه على أنه أفضل من أن يكون كتلة مساوئ، إن كنا غير قادرين على الإقرار بحقيقة قابليته لأن يكون «مواطناً منتجاً». فهل الأمر ممكناً؟
مدينة أوبورن مثالاً..
تشغيل الغربان بدل قتلها
ثمة حالة تفتح آفاقاً واسعة أمام تعاون أفضل ما بين الإنسان والغراب، وتحويل هذا الأخير إلى عنصر منتج من خلال تأسيس علاقة نفعية بين الطرفين. وتتمثل هذه الحالة بالمشكلة التي تعاني منها مدينة أوبورن في ولاية نيويورك الأمريكية.
فقد تكاثرت الغربان في هذه المدينة بشكل غير طبيعي منذ العام 1993م، حتى وصل عددها إلى ما يتراوح بين 25 ألفاً و50 ألف غراب، متسببة بمشكلة كبيرة على الصعيد الصحي والبيئي بسبب ضجيجها ومخلفاتها. وفي العام 2003م، طرحت فكرة مثيرة للجدل تدعو إلى صيدها وقتلها بوسائل مختلفة. ولكن الصيد لم يقضِ عليها، ولم يحل المشكلة.
وفي مؤتمر «تصميم التقنيات الترفيهية» الذي عُقد عام 2008م، طرحت فكرة استخدام هذه الغربان لجمع النفايات من المدينة بدلاً من عمال النظافة. وذلك من خلال آلات تمنح الغراب مكافأة (طعاماً) مقابل كل قطعة نفايات يأتي بها إلى قرب الآلة.
واستندت هذه الفكرة إلى التجربة التي قام بها الباحث جوشوا كلاين، الذي تمكن من تعليم الغربان وضع النقود المعدنية في آلات البيع، للحصول منها على الطعام.. ويرى الباحثون أن هذه التجربة قد تنطوي على تطبيقات عديدة تؤسس لعلاقة جديدة ومنتجة بين الغراب والإنسان لتنتقل من سواد التصور والموقف إلى بياض التآلف والإنتاج بينهما. ومن الجدير ذكره أن تكوين العلاقة بين الإنسان والطير، ليكونا متعايشين ممكنة جداً وإن كانا غير متآلفين كما في الطيور الداجنة. إذ إن هناك طيراً في إفريقيا يقوم بإرشاد الإنسان إلى وجود مكان العسل، مقابل تقديم الإنسان له نصيبه من ذلك العسل كمكافأة له نظير خدمته الإرشادية.
فمن الممكن إذاً تأسيس علاقة نفعية جديدة بين الغراب والإنسان مبنية على المصلحة المشتركة، وذلك بتقديم الطعام وتحديد المأوى للغراب مقابل تقديمه خدمات إيجابية للمجتمع، مثل قيامه بالتنظيف والإرشاد والتنبيه، وغير ذلك.
لا يمكن تغيير «سلوكيات» الغراب في البحث عن الطعام أو بناء العش أو الصيد، فضلاً عن استخدام حِيَلِه وذكائه للقيام بذلك. لكن يمكن «توجيهها» بحيث تكون متناسقة مع نمط حياة بني البشر، أي إن الحديث هنا يكون عن منطقة مشتركة بين الغراب والإنسان، وهي منطقة «التعايش»، التي يقوم بها فعلاً الغراب من خلال تطويع البيئة المحيطة التي يعيش فيها لصالحه.
والوصول إلى ذلك يمكن أن يتم عبر «الربط الشرطي» لمبدأ المكافأة للغراب، فيتم ذلك إذا ما قام بالعمل المتوقع منه، ونحن نعلم أن الغراب ليس من الحيوانات الأليفة التي يمكن الاقتراب منها وتدريبها على بعض الأمور المحددة.. إلا أن ذلك يمكن استعاضته بالاعتماد على «ذكاء» الغراب و«توقعاته» للمهمة الموكلة إليه، وفي هذا تعويض جيد عن الأُلفة المطلوبة لتعليم أي حيوان «سلوك» معين لصالحك.
فبمجرد قيام غراب واحد بالعمل بشكل صحيح، فإن بقية الغربان تستنسخ التجربة ولا تمر بكل المقدمات للوصول إلى نفس النتيجة. بل تأخذ نفس الوسيلة لضمان ذات النتيجة.
قد يبدو الأمر عسيراً أو بحاجة إلى جهد مضاعف، إلا أن النتيجة ستكون انسجاماً ذكياً مدروساً بين الإنسان والغراب، وسيتم تحويل «الاعتقاد أو الثقافة السائدة» بصورة سلبية عن الغراب إلى أمر مختلف تماماً، ربما لم تشهده البشرية طوال مرحلة علاقتها بهذا الطائر، فمن الحكمة استغلال ذكاء وحيلة هذا الطير في أمر يعود على الإنسان بالفائدة، وكذلك على الغراب نفسه.
في القرآن الكريم:
الغراب معلِّم للإنسان
ورد ذكر الغراب في القرآن الكريم كمعلِّم للإنسان كيف يدفن أخيه الإنسان. فعندما قتل قابيل أخاه هابيل، وحار فيما يجب فعله بأخيه القتيل، كان الغراب مبعوث السماء ليصبح المعلِّم الأرضي الأول للإنسان، يقول الله تعالى: }فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيه * قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ{ (سورة المائدة، آية 31).
فالغراب هو المختار من بين الكائنات ليكون «المعلِّم الأول» للإنسان في الدرس الأكبر: درس التعامل مع الموت والحياة بطريقة تحفظ للإنسان كرامته، حتى بعد خروجه من جسده، درس مواراة الجسد الذي أداه الغراب على أكمل وجه أمام ناظري قابيل قاتل أخيه.
الغراب في ثقافة العرب أمثالاً وشعراً
هجوه وما عرفوه
ما إنْ تذكر اسم الغراب في الثقافة العربية إلا وتكون قد لفظتَ ما لا يحبه الناس. فقد نسبت الثقافة العربية إليه دلالات الخراب والموت والشؤم. فقيل «أشأم من غراب» و«احذَرُ من غراب»، ويُقال: «طار غرابه» أي شاب رأسه.
ومن أمثال العرب: هو أشد سواداً من حنك الغراب، وحلك الغراب، فحنك الغراب منقاره وحلكه سواده.
وأطلقوا عليه لقب «غراب البين»، وربطوا حلوله على بيوتهم عند بينونتهم عنها، أي ابتعادهم عنها. وقد بنوا على ذلك «معتقد» الشؤم عنه والفراق، حتى بات جزءاً من موروث العرب الثقافي.
منذ عهد النابغة
يقول النابغة الذبياني:
زعم البوارح أن رحلتنا غدا
وبذاك تنعاب الغراب الأسود
فالشاعر يرى أن نعيب الغراب شؤم وفراق لمن يحب، وقرن هذا الأمر بعنصر إسطوري وهو «زعم البوارح»، فقد كانت العرب تؤمن بالعيافة، فتزجر الطير تفاؤلاً أو تشاؤماً بمرورها، فالسانح وهو ما يتفائلون به إذا ما طار الطير على يمين الفرد والبارح إذا ما طار على يساره، وهو ما يتشاءمون به. ويسمون الأمر تَطَيراً أيضاً، نسبة إلى الطير، وكانوا يزجرونه ويرون إلى أي اتجاه ذهب ويبنون على ذلك تفائلهم أو تشاؤمهم. ولم يسلم الغراب من حدة لسان العرب، فهو محاصر بين أمثال شعبية تنال منه وأشعار جزلة تتعرّض له.
يقدّم الجاحظ بطاقته التعريفية بالغراب قائلاً: الغراب من لئام الطير وليس من كرامها ولا من أحرارها، ومن شأنه أكل الجيف والقمامات. ويضيف: «والغراب خبيث ملتوي الذمة لا عهد له، فقد أرسله نوح -عليه السلام- يستطلع ما ظهر من الأرض، فوقع على جيفة فأقام عليها ولم يعد إلى السفينة. وقد كان نديماً للديك في الزمن القديم، وكان للديك جناحان يطير بهما، ولم يكن للغراب مثلهما، فنفد الشراب، فقال للديك: لو أعرتني جناحيك لأتيتك بشراب، فأعاره جناحيه فطار بهما ولم يرجع».
ويبدو أن للعرب «ثأراً» معه، فوضعوه محل كل ذلك التشاؤم ضمن تراثهم، أمثالاً وأشعاراً وقبل كل ذلك تسميتهم له. فللغراب أكثر من كنية عندهم: أبو حاتم وأبو جحادف وأبو الجراح وأبو حذر وأبو زيدان وأبو زاجر وأبو الشؤم وأبو غياث وأبو القعقاع وأبو المر والأعور -سمي بذلك تطيراً منه وتشاؤماً به وليس به عور-، ويقال له: ابن الأبرص وابن بريج وابن دايه..
وله مكانة في الشعر لا تقل مساحةً ولا تختلف مضموناً عما هي عليه في الأمثال . وكأني بهذا الطائر يحمل داءً عضالاً ينشره بين الناس. فيقول أحد شعراء العرب متهكماً:
إن الغراب وكان يمشي مشيه
فيما مضى من سالف الأجيال
حسد القطاة ورام يمشي مشيه
فأصابه ضرب من العقال
فأضله مشيته وأخطأ مشيها
فلذاك سمّوه: أبا المرقال!
مقارنة لا ترحم
وقارن الشاعر إيليا أبوماضي بين «الغراب والبلبل»، في قصيدته التي تحمل اسمي هذين الطيرين، فكتب يقول:
قال الغراب وقد رأى كلف الورى
وهيامهم بالبلبل الصّدّاح
لم لا تهيم بي المسامع مثله
ما الفرق بين جناحه وجناحي؟
إني أشدّ قوى وأمضي مخلبا
فعلى م نام النّاس عن تمداحي؟
أمفرق الأحباب عن أحبابهم
ومكدّر اللذّات والأفراح
كم في السّوائل من شبيه للطّلا
فعلى م ليس لها مقام الرّاح؟
ليس الخطوط من الجسوم وشكلها
السرّ كلّ السرّ في الأرواح
والصّوت من نعم السّما ولم تكن
ترضى السّما إلاّ عن الصدَّاحِ
حَكّم القضاء فإن نقمت على القضا
فاضرب بعنقك مدية الجراحِ
حتى العاشقين كرهوه
ومن المدهش أن الصورة النمطية للشاعر العاشق المنفتح على حبّ الدنيا بكل ما فيها، تتبدد تماماً عندما يتعلَّق الأمر بالغراب.
فمن أقسى ما تعرَّض له الغراب من قدح في الشعر العربي أتى، وللمفارقة، على لسان الشاعر قيس بن الملوَّح، مجنون ليلى، شاعر الغزل الأول في زمانه، الذي فاض بـ «الكراهية» لهذا الطير في قصيدة يقول فيها:
ألا يا غراب البين هيجت لوعتي
فَويْحَكَ خَبِّرْنِي بِمَا أنْتَ تَصْرُخُ
أبالْبَيْنِ مِنْ لَيْلَى؛ فإنْ كُنْتَ صَادِقاً
فَلا زَالَ عَظْمٌ مِنْ جَنَاحِكَ يُفْسَخُ
ولازال رام فيك فوق سهمه
فَلا أنْتَ في عُشٍّ وَلاَ أَنْتَ تُفْرِخُ
وَلاَ زِلْتَ عَنْ عَذْبِ الْمِيَاهِ مُنَفِّراً
وَوَكْرُكَ مَهْدُومَاً وبَيْضُكَ يُرْضَخُ
فإن طرت أردتك الحتوف وإن تقع
تقيض ثعبان بوجهك ينفخ
وعانيت قبل الموت لحمك مشدخا
عَلى حَرِّ جَمْرِ النَّارِ يُشْوَى وَيُطْبَخُ
وَلاَ زِلْتَ فِي شَرِّ الْعّذَابِ مُخَلِّدَاً
وريشك منتوف ولحمك يشرخ
الغراب في السينما
تفعيلات مختلفة للأسود الواحد
شكَل اسم «الغراب» لوحده ومن دون أية إضافة أخرى، عناوين مجموعة كبيرة من الأفلام السينمائية التي أُنتجت على امتداد القرن العشرين، وحتى يومنا هذا. وما من قاسم مشترك بينها غير كونها كلها تدور بشكل أو بآخر حول الموت بأساليب متعددة.
فقد شهد العام الجاري 2013م، إطلاق فلم «الغراب» الوثيق الصلة بقصيدة الشاعر الأمريكي إدغار ألان بو، التي أشرنا إليها في مكان آخر من هذا الملف. والفِلم الجديد الذي أخرجه جيمس ماك تيغيو يروي سلسلة جرائم غامضة تقع في القرن التاسع عشر، ويبدو أنها ارتكبت بوحي من قصائد الشاعر، فيلجأ المحققون إلى الاستعانة به لاكتشاف مرتكبها. وقد اختير اسم «الغراب» للفِلم، من باب استيحاء أشهر قصيدة للشاعر، مع ما يضيفه هذا الاسم من نذر الشر والموت.
وقبل ذلك، شهد العام 1994م إطلاق فلم بعنوان «الغراب»، مقتبس عن سلسلة قصص مصوَّرة بنفس العنوان من تأليف جيمس أوبار. وتدور عقدة الفلم الذي تتسم أجواؤه بالعنف والكآبة والتشويق، حول شاب يتعرض مع خطيبته لاعتداء عصابة تتركهما ليموتا على قارعة الطريق، غير أن الغراب ينقذ الشاب ويروح يساعده لاحقاً على الانتقام، وقتل أفراد العصابة الواحد بعد الآخر. وقد حصد هذا الفلم نجاحاً دفع منتجيه إلى تحويله إلى سلسلة أفلام ومسلسل تلفزيوني. ودائماً بالعنوان نفسه.
ولكن أقسى الأحكام على الغراب وأبشع صوره هي تلك التي يذكرها كل من شاهد فِلم «طيور» للمخرج العالمي ألفرد هيتشكوك.
فقد عُرض هذا الفِلم على شاشات السينما في العالم سنة 1963م، مستغلاً الصورة النمطية الكريهة للغراب، وليعزز هذه الكراهية حتى أقصى حدود ممكنة، من خلال حبكة تروي هجوم الطيور المتوحشة على بيوت السكان في إحدى ضواحي مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية من دون أي سبب واضح، إلى أن اكتشف العلماء أن طعام هذه الطيور كان يحتوي على مادة مثيرة للأعصاب أدت إلى تغير في سلوكها.
لم يكن الغراب الطير المجنون والقاتل الوحيد في هذا الفِلم الذي حاز أوسكار أفضل إخراج. فقط خلط المخرج سواده ببياض النوارس، ليستخرج من الإثنين تلاوين الخوف، فتحول كل غراب ونورس في وجدان المشاهدين إلى «قاتل». وكان لهذا الفِلم أثر كبير على من شاهده أينما كان في العالم. إذ عمَّق الهوة ما بين الإنسان وهذا الطير، ورفع كراهية الأول للثاني إلى مستوى العداء.. وكان من المدهش أن يحصل ذلك في تلك المرحلة الزمنية بالذات، أي في ستينيات القرن العشرين، وهي الفترة التي شهدت انتصار العقلانية والحسابات الباردة وحقائق العلم أكثر من أي عصر آخر.
الشؤم يطيح بالمخرج؟
وقبل فِلم «طيور» وغيره من الأفلام الجديدة، حضر الغراب على شاشة السينما بصورة رمزية للإشارة إلى أمر ما لا يسير على ما يرام، أكثر مما هو حول الطير بحد ذاته. ومن أشهر هذه الأفلام واحد يعود إلى النصف الأول من القرن العشرين، يطيب لذوي الميول السوداوية أن يقولوا عنه إن اسم الفِلم كان نذير شؤم أطاح بمهنة المخرج.
ففي العام 1943م، أي في خضم الحرب العالمية الثانية، أخرج الفرنسي هنري-جورج كلوزو فِلمه الشهير «الغراب» المقتبس عن قصة حقيقية كانت قد نُشرت قبل ثلاثة عقود، وتروي قصة طبيب قرية فرنسي، يذهب ضحية رسائل غامضة تصل إلى وجهاء القرية، وتتهمه بعدد من الممارسات اللا أخلاقية.
واستخدام «الغراب» عنواناً للفِلم، هو للدلالة على نذير شؤم يحيط ببطل القصة وما سيواجهه في هذه القرية. ولكن هناك من يرى أن نذر الشؤم طاردت المخرج كلوزونفسه فور انتهاء الحرب.
فقد تعرَّض الرجل لمضايقات اجتماعية وقانونية عديدة، لأنه أنتج الفِلم خلال الحرب لحساب شركة «كونتيننتال» التي كان الألمان قد أسسوها غداة احتلالهم لفرنسا. وصدر حكم على المخرج بمنعه من مزاولة أي عمل سينمائي مدى الحياة. وعلى الرغم من أن هذا المنع رُفع في العام 1947م، فإن مسيرة المخرج السينمائية انتهت عملياً.
غربان جدة
اكتشف مواطنو مدينة جدة، قبل سنوات، خصائص الغراب وعرفوا مقدار تفوقه على منافسيه من الطيور ما ينفي عنه صفة الغباء التي ألصقت به ظلماً. وباتت قصة غربان جدة واقعة معروفة ومتداولة فقد انتشرت بكثافة في سماء تلك المدينة وخاصة في شقها الساحلي، بل وطردت ما عداها من الطيور.
وبدأ مع انتشارها انتشار قصص كثيرة عن تميزها وذاكرتها القوية، وقدرتها على عقاب من يؤذيها ومهاجمته. كما انتشرت قصص تدل على عبقريتها الابتكارية في التعامل مع المشاكل التي تواجهها مثل درجات الحرارة المرتفعة وذلك بحبس مخارج مياه المكيفات وتجميعهه لتبترد فيها. ولكن الفضول والإعجاب البشري في جدة بهذا الكائن تحول بالتدريج إلى حذر من تكاثرها المتسارع.
ويشير تقرير لأمانة جدة إلى أن عدد الغربان التي تم القضاء عليها خلال 4 سنوات (2007 – 2011م) بلغ 4795 غرابا، فيما بلغت الأعشاش التى تمت إزالتها نحو 50667 عشاً. وقدرت الأمانة قبيل بدء القضاء عليها، بحوالي 60 الف غراب، لتصل إلى 13 ألفاً. وتلخصت الحملة في وضع طعوم مسمومة تأكلها الغربان فتقضي عليها خلال ساعات، والتقرير يسرد صعوبات في مواجهتها ومنها قدرتها على تمييز الملابس الزرقاء التي يرتديها عمال الأمانة حيث تبتعد عنهم لمعرفتها أنهم من عمال المكافحة مما حدا بهم إلى رمي الطعوم السامة والاختباء بعيداً أو في داخل السيارات حتى تلتقطها، كما أن خفة حركة الغربان وقدرتها على التحفز الدائم لمصادر الخطر جعلها تتفادى الإصابات المباشرة وهي تعيش في جماعات متعاونة حيث تبني أعشاشها بأحجام كبيرة، وترمم أعشاشها القديمة.