في ملف القمر، فات القافلة في عددها السابق قراءة الناقد عابد خازندار لقصيدة قمرية للدكتور غازي القصيبي، وقد رأيت أن أعقّب بهذه المقالة على ذلك الملف.
قصيدة “قمر.. في ليل استوائي” واحدة من النصوص الحميمة التي أنجزها الدكتور غازي القصيبي في تجربته الشعرية العريضة. وحين وضعها عابد خزندار في مهمة نقدية نصوصية؛ فإنه جعل منها مهاداً لتأمّلات ذاتية ومعرفية وجمالية تقاطعت مع نصوص عربية وغربية.
ومن اللافت أن خزندار اعتنى بشخصية الشاعر “رجل الدولة المسؤول” الذي يحتفظ بإنسانه الحقيقي في منطقة الشعر الحالمة. هذه المنطقة التي يفرّق وعيها المتخيّل بين “الليل” و “الليلة”، على أساس يُشبه الفرق بين “الحياة” و “العيش”: الحياة مستمرة، والعيش مُنتهٍ، كما أن “الليل” باقٍ، والليلة سيعقبها صبحٌ.. وهذا ما أقرّه قلق الشعراء منذ القدم: “وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله.. أرى العيش عمراً ناقصاً كل ليلةٍ.. يا ليلُ الصبّ متى غده”.. وهذه هي المواجهة النصوصية بين عنوان قصيدة القصيبي والليل عند شعراء سبقوه..!
… فقولي إنه القمرُ
أو البحر الذي ما انفك بالأمواجِ
والرغبات يستعرُ
أو الرمل الذي تلمعُ
في حبّاته الدررُ
لجوز الهند رائحةٌ
كما لا يعرف الثمرُ
… فقولي إنه الشجرُ
وفي الغابة موسيقى
طبولٌ تنتشي ألماً
وعرسٌ ملؤهُ الكدرُ
… فقولي إنه الوترُ
وهذا هو خط الارتكاز الذي وضع الناقد كفيه عليه؛ ومن الطبيعي أن تبدو الصورة الشعرية، في هذا المقطع، مزيجاً من دلالات ذاتية من خبرة الشاعر، ودلالات أخرى من نصوص غير عربية.. هذا ما يُلاحظ في صورة “البحر” الذي ينتمي الشاعر إلى بيئته، كما يُلاحظ في صورة شجر “جوز الهند” التي استلّها الشاعر من بيئة غير بيئته.
ولكن القمر، في متن قصيدة القصيبي، هو الموت..! إنه “سمات البياض، والبرودة، والصمت، هو رمز الموت عند الشعراء الرمزيين، الأمر الذي كرّسه وانتهى إليه لوركا في الغرب، وأمل دنقل في الشرق”. جارثيا لوركا يقول:
في تيه السدود / فإن جسدي المعرّى / هو الذي يتلقى عقاب القمر / والساعة المغطاة بالرماد
ويقول:
نصف القمر يبتر / والريح تمضي بجروحها / إن عشب النوم الفضي يتغشى القمر القاحل
هذا هو قمر لوركا؛ أما قمر القصيبي فهو قريب من هذا التوجس المؤلم؛ إنه الاحتضار:
فيا لؤلؤتي السمراء
ما أعجبَ ما يأتي به القدرُ
أنا الأشياء تحتضرُ
وأنت المولد النضرُ
… فقولي إنه القمر
وهو أيضاً الزيف الكاذب الأشر:
وهل تدرين ما الكلماتُ
زيف كاذب أشرُ
به تتحجب الشهواتُ
أو يُستعبد البشرُ
فقولي إنه القمرُ..!
وهو المعاناة واليأس والانتثار:
أنا؟
لا تسألي عني
بلادي حيث لا مطرُ
شراعي الموعدُ الخطرُ
وبحري الجمر والشررُ
وأيامي معاناةٌ
على الخلجان.. والإنسان.. والأوزان
تنتثرُ
وحسبك هذه الأنغام.. والأنسامُ
والأحلامُ
لا تُبقي ولا تذرُ
فقولي إنه القمرُ..!!
قمر القصيبي لا يأتي من ثقافته الشعرية العربية التي تضعُ القمر إزاء الحبيب لصناعة علاقة يسميها البلاغيون “وجه التشبيه”. القمر، في هذه المطوّلة، ليس شخصاً مشهوراً حسب لغة عمر بن أبي ربيعة “قد عرفناه وهل يخفى القمر”، وليس الحبيبة التي ودعها ابن زريق البغدادي “أستودع الله في بغداد لي قمراً”، وليس حتى قمر السيّاب: “عيناك غابتا نخيل ساعة السحرْ، أو غابتان راح ينأى عنهما القمرْ”.. فهذه كلها صور حياة، وإشارات إشراق، أو توقٌ إلى ماضٍ بهيج. قمر القصيبي يهربُ، في الصورة الشعرية، عن كل المنجز التشبيهي الذي طرحه الشعر العربي على امتداد تاريخه. وينأى بجانبه حتى عن الإشارات الرمزية الآملة.. إنه المعاناة، العذاب، الخوف، الخرافة، العطش.. وسائر الإشارات المعتمة التي احتفى بها لوركا. إنه قمرٌ آخر نُودع فيه صمتنا وأحزاننا.. إنه الموت..!