من يتمعن في البرامج الاقتصادية على شاشات التلفزيون، يلاحظ أن أسعار الزيت الخام لا تستقر على حال، فهي دائمة التقلّب صعوداً وهبوطاً، مثل مؤشرات أسواق الأسهم والأوراق المالية والمعادن الثمينة. وأحياناً تكون هذه التقلبّات كبيرة فتحتل أخبارها مساحات بارزة في صحف اليوم التالي، ويسعى الاختصاصيون إلى تحليل أسبابها.
فما الذي يحدد سعر الزيت الخام؟ ولماذا يتبدل خلال دقائق أو لحظات، فيرتفع قليلاً، ثم يرتفع أكثر أو يهبط..؟ أحد العاملين في الشؤون النفطية في إدارة التخطيط العام في أرامكو السعودية، ياسر مفتي، يسلّط الضوء هنا على جوانب مختلفة تلعب مجتمعة دورها في تحديد سعر النفط الخام صعوداً وهبوطاً، ويشرح لنا معاني مفردات تتعلق بسوق الزيت نسمعها يومياً من دون أن نعرف ما تعنيه بالضبط.
الزيت سلعة استراتيجية مهمة للغاية، يدخل في صميم النشاط الاقتصادي أينما كان في العالم، وعليه تقوم حياة الإنسان في العصر الحديث. وما بين إنتاج الزيت واستهلاكه، تحتل تجارته مكانة بالغة الأهمية بالنسبة إلى منتجيه ومستهلكيه معاً. ورغم أن أسعار الزيت مرتبطة أساساً بالعرض والطلب، إلا أن هناك نظم مرنة للأسعار تستجيب لمتطلبات السوق وترتبط بأنواعه المختلفة ومناطق إنتاجه.
مؤثرات مهمة
لمعرفة طبيعة صناعة الزيت بطريقة أفضل، علينا أن نتطرق أولاً إلى بعض السمات الخاصة بها، ولنبدأ هنا بتكاليف الاستثمارفي التنقيب عنه وإنتاجه، فلا شك أن لهذه التكاليف دوراً في تحديد سعر الزيت في نفس الوقت الذي يلعب فيه هذا السعر دوراً مهماً في الاتجاه للاستثمار في التنقيب عنه وإنتاجه. ولمعرفة الحجم الهائل لهذه الاستثمارات بإمكاننا النظر إلى تقرير التنقيب والإنتاج السنوي لسالمون سميث بارني، والذي تناول 243 شركة زيت وغاز، أن ميزانية التنقيب والإنتاج معاً بلغت 112 بليون دولار في عام 2002م فقط. وهذا الرقم الضخم يتعلق بقطاع واحد في صناعة الزيت، ولا يشمل المبالغ الطائلة التي تصرف في قطاعات أخرى أساسية في هذه الصناعة مثل التكرير والتوزيع. وتزداد ضخامة هذه المبالغ وضوحاً عندما نعرف أنها تصرف قبل بضعة أعوام من بدء إنتاج الزيت وبيعه.
وهناك استثمارات ضخمة في مجال الأنابيب والنقل، فليس لكل مدينة في العالم بئر زيت خاصة بها، بل أن أكبر المناطق المنتجة للزيت في العالم تقع بعيداً عن مراكز الطلب الرئيسة في أميركا الشمالية وأوروبا وآسيا. مما يستدعي بناء ناقلات وخطوط أنابيب، ويحتاج بالتالي إلى استثمارات ضخمة إضافية واحتساب المدة التي يستغرقها النقل في برامج الإنتاج والاستيراد. ويوضح الجدول المرفق التوزع الجغرافي للزيت تصديراً واستيراداً.
وإضافة إلى المؤثرات الجغرافية هناك العوامل السياسية، نظراً للدور الذي يلعبه الزيت في تحريك الاقتصاد العالمي، إذ يعلّق المصدرون والمستوردون على حدٍ سواء أهمية سياسية بالغة على الزيت. وقد يتدخلون في حركة الأسواق لأسباب استراتيجية. وتتمثل هذه التدخلات في الأنظمة الضريبية والقوانين، وأحياناً في الحروب والاضطرابات السياسية، وهناك أيضاً فروقات في الاسعار تتعلق بالأنواع المختلفة للزيت الخام ترتبط بكل ما ذكرنا أعلاه وبعوامل أخرى سيرد ذكرها لاحقاً.
يتضح مما سبق أن أسعار أنواع الزيت الخام تتحرك وسط دائرة واسعة وبالغة التعقيد، تتشابك فيها قوى العرض والطلب، ويؤثر فيها القرار حول الاستثمارات الضخمة المطلوبة، وارتباط هذا القرار بضرورة الأخذ في الاعتبار المدة الطويلة التي يتطلبها التنقيب والإنتاج والنقل، ويؤثر فيها أيضاً الطبيعة الاستراتيجية للزيت، وتتعلق أيضاً بنوعه. ويتتبع الكثيرون هذه الأسعار، فهناك منتجو الزيت وشركات التكرير التي تشتري هذا الزيت وتكرره. وهناك أيضاً الشركات التجارية الباحثة عن فرص للربح في معاملاتها بين المشترين والبائعين، وهناك أيضاً المستثمرون في نشاطات صناعة الزيت والمضاربون على أساس توقعات الأسعار المستقبلية.
ولكن كيف وأين يتم تحديد سعر الأنواع المختلفة للزيت؟
فوراً أو آجلاً
قد يكون من المفيد أن نبدأ خطوتنا الأولى هنا بالتعريف بالنوعين الأساسين لمبيعات الزيت الخام: المبيعات الفورية (Spot) والمبيعات طويلة الأمد (Term).
تدل الأولى على صفقة بيع واحدة، أما الثانية فتطبق على سلسلة من المبيعات المتفق عليها بين البائع والمشتري. وفي الحالتين يتم الاتفاق بين الطرفين على كمية الزيت الخام ووقت تسليمه ومكانه، وأيضاً سعره الذي إما أن يتفق عليه برقم محدد للبرميل كأن يُقال: بسعر 28 دولار مثلاً ويكون هذا السعر رقماً مطلقاً أو أن يرتبط بسعر برميل من نوع آخر للزيت الخام، كأن يتفق بأن يكون سعر البرميل يساوي سعر برميل “برنت” ناقصاً أو زائداً دولاراً واحداً على سبيل المثال، وفي هذه الحالة يطلق على “برنت” مسمى الخام المرجعي.
في صفقات الخام اليومية، يتم ربط معظم أسعار المبيعات بأسعار زيت خام أخرى. ويتخذ هذا الارتباط شكل حسم من هذا السعر (discount) أو علاوة تضاف إليه(premium) تبعاً لمكان الزيت المباع ونوعه، مقارنة بسعر الخام المرجعي. وتسمى هذه الحسومات أو العلاوات: فروقات (differentials).
وتختلف هذه الفروقات باختلاف تكلفة نقل الزيت الخام والقيمة النسبية لكل نوع من أنواعه، إذ أن أنواع الزيت الخام ليست متساوية، وتختلف إسهاماتها خلال التكرير في إنتاج البنزين والديزل والمنتجات الأخرى. ولأن سعر كل منتج من منتجات التكرير يتغير حسب العرض والطلب، فإن أسعار أنواع الزيت الخام مقارنة ببعضها البعض تتحرك وتتغير باستمرار.
الأسعار المرجعية
لكن أسواق الزيت لا يمكن أن تكون عبارة عن سلسلة فروقات لا نهاية لها. ومن المؤكد أنها ليست كذلك. فهناك العديد من زيوت الأسعار التي تعتبر مرجعاً (benchmarks) في أسواق الزيت الخام الرئيسة حول العالم التي تُعتمد أساساً لتسعير الزيت الخام. والأسعار المرجعية الثلاثة الأساس التي يكثر استخدامها هي: وست تكساس، برنت، ودبي.
وغالباً ما يعكس اختيار السعر المرجعي البدائل المتاحة للبائعين والمشترين، فعلى سبيل المثال، يباع يومياً حوالي ثلاثين نوعاً من أنواع الزيت الخام من الخليج العربي على أساس الفروقات بالقياس إلى زيت دبي. وتوجد أنظمة مشابهة في الولايات المتحدة، حيث يتم تسعير الزيت الخام على أساس أسعار وست تكساس، بينما تستند مبيعات الزيت الخام في أوروبا إلى أسعار برنت في بحر الشمال.
وتوضيحاً لذلك، قد يقوم أحد بائعي زيت المربان الخام (ومصدره أبو ظبي) بتقديم عرض لشحنة من هذا الزيت إلى شركة تكرير في سنغافورة بسعر خام دبي مضافاً إليه خمسين سنتاً. وإذا ما قارن المشتري هذا السعر بسعر آخر، كسعر شحنة من زيت خام عمان مثلاً، التي قد يكون سعر البرميل فيها أعلى من قيمة خام دبي بخمسة سنتات فقط. بالرغم من أن شحنة عمان في ذلك الوقت أرخص إلا أن ذلك لا يعني أنها صفقة أفضل، لأنه على المشتري أن يأخذ في عين الاعتبار نوع الزيت الخام، وكم تبلغ قيمته بالنسبة إلى شركة التكرير، وقد تكون فعلاً قيمة النوعين المذكورين في هذا المثال متساوية تماماً بالنسبة إلى شركة التكرير بالرغم من هذا الفرق. وقد يكون لمكرر آخر، في نفس الوقت، تقييم مختلف تبعاً لتشكيل مصفاته والحاجة إلى مشتقات معينة أكثر من غيرها.
وتصبح الصورة أكثر تعقيداً إذ أن للمشترين والبائعين الخيار لربط صفقاتهم بأكثر من سعر مرجعي واحد. ففي المثال نفسه، نجد أنه من الممكن لشركة تكرير في إسبانيا أن ترغب في شحنة دبي على أساس سعر برميل برنت ناقصاً 60 سنتاً أو شحنة خام عمان بسعر برميل برنت ناقصاً دولاراً وخمسة عشر سنتاً. في هذه الحالة يقارن البائع هذين العرضين ليحدد أيهما أعلى. والعنصر الأساس في المقارنة سيكون الفروقات المطبقة بالنسبة إلى سعر خام برنت وكذلك بالنسبة إلى خام دبي، ويراقب المتعاملون في الأسواق هذه الفروقات عن كثب، لخلق فرص لصفقات تنقل فيها الشحنات من منطقة إلى أخرى، وهذا النشاط يدعى المراجحة (arbitrage).
وبالعودة إلى موضوع الأسعار المرجعية، نشير إلى أن البائعين والمشترين يحرصون كل الحرص على أن تعكس الأسعار المرجعية القيمة الفعلية العادلة لهذه الخامات، وأن يشاركهم في تحديد الأسعار أكبر قدر ممكن من الجهات. ويسعى المتعاملون في الأسواق إلى شراء وبيع الشحنات من الخامات المرجعية مقدماً أملاً في الوصول إلى مستويات أسعار مستقرة في الأشهر التالية. ولهذا السبب بالتحديد، غالباً ما يكون لزيوت أسعار القياس أسواقه الآجلة (Forward Market)، التي تنفذ فيها عمليات بيع وشراء تغطي عدة أشهر لاحقة.
ومن الجدير بالذكر في هذا المجال أن هناك العديد من الشركات التي تعمل في حقل مراقبة صفقات الزيت الخام والمنتجات المكررة، وتجارتي الغاز والشحن، وتعد تقارير حول ذلك، وتتصل بالمشترين والبائعين دائماً لربط أسعار القياس بفروقات المبيعات الفورية والآجلة. ويفضل بعض البائعين عدم التفاوض على المبيعات الفورية أو الآجلة، بل يقومون ببيع الزيت الخام بفروقات الأسعار حسب وكالات التحقيق هذه. ومن أشهر هذه الوكالات بلاتس (Platt’s) وأرغوس (Argus).
الزيت في البورصة
شهدت أسعار برنت ووست تكساس تطوراً مهماً خلال العقدين الأخيرين، مع انطلاق سوقي العقود: بورصة البترول العالمية (آي بي إي) وبورصة نيويورك التجارية (نايمكس). وهما تعكسان صورة السوق الآجلة، غير أنهما أكثر تنظيماً وانضباطاً وأسهل للتجارة، الأمر الذي يجذب إليهما المتعاملين. وتتمثل أسواق التسليم الآجل في شكل مبادلات، يستطيع خلالها المشترون والبائعون، غالباً بواسطة سماسرة، أن يتاجروا على أساس القياس على مدى أشهر عديدة مقبلة في موقع واحد. وتضع البورصة قواعد كثيرة مثل بداية ونهاية أوقات التعامل، والموعد الذي تنتهي عنده إمكانية المتاجرة بالنسبة لكل شهر آجل، وتفرض على المتعاملين المحافظة على حساب احتياطي في السوق لتجنب التخلف عن السداد. كما تشمل البورصة أنظمة متطورة لإدارة البيانات تعمل على تزويد المستخدمين حول العالم ببيانات الأسعار عند طلبها. وبالرغم من أهمية سوق دبي الآجلة والكميات الضخمة من الزيت الخام التي تم تسعيرها على أساسها، فليس فيها بورصة عقود.
وقد نجم عن هذين السوقين نشوء تجارة تعتمد على مضاربات مبنية على التوقعات في مجال الزيت الخام. فلم يعد من المستبعد أن يشتري أو يبيع مدير صندوق التقاعد في شركة دولية كبرى كميات كبيرة من الزيت الخام في صفقة ما. ومن الواضح أن شخصاً كهذا لا يهتم فعلاً بالسلعة الأساسية، فهو يسعى فقط إلى تحقيق الربح عن طريق الشراء بسعر منخفض والبيع بسعر مرتفع فقط لا غير. وقد دفعت هذه التبادلات، التي تتم على الورق فقط، المجموع الكلي للصفقات في الأسواق إلى مستويات مرتفعة، مسجلة مستويات يومية أعلى بكثير من إجمالي كمية الزيت الخام المنتج في جميع أنحاء العالم.
ولا تنحصر أعمال هاتين البورصتين في الزيت الخام، إذ تتم فيهما أيضاً المتاجرة بالمنتجات المكررة والغاز الطبيعي. لكن الزيت الخام يبقى بلا شك أكثر السلع نجاحاً في التداول على صعيد الطاقة، وهناك أيضاً متاجرة بين الخامات المرجعية المختلفة وبين الخام المرجعي الواحد بالنسبة للاسواق المختلفة.
وعلاوة على المبيعات الفورية والآجلة والأسواق الآجلة وأسواق العقود، تتم المتاجرة على أساس المشتقات (Deriratives). وذلك يعني منح الخيار (Option) للمشتري، بحيث يكون له الحق، وليس الالتزام، في شراء أو بيع كمية معينة من سلعة ما خلال مدة معينة ومقايضة (Swaps) الفروقات بينها وبين سلعة أخرى. وتسمى مثل هذه المتاجرات المشتقات لأن قيمتها مشتقة من السلعة التي يعتمدان عليها.
ولا تنحصر أسواق العقود الآجلة وتجارة الفروقات في الزيت الخام، بل تشمل الكثير من السلع، حتى أن بعض المؤشرات الرئيسة مثل مؤشر داو جونز الصناعي يتعامل بالعقود الآجلة. ويجدر الذكر أن المحللون الماليون قد وضعوا، عبر السنين، أساليباً لتقييم هذه السلع مبنية على تحليل نشاطات السوق والأسعار في الماضي والكميات التي تتم المتاجرة فيها. ويطلق على هذا الجزء من التحليل اسم «التحليل الفني» وهو غير مرتبط بنوع السلعة بل تستخدم الأساليب نفسها سواء أكانت السلعة زيتاً أو بناً أو ذهباً. وهناك فرق شاسع بين التحليل الفني وتحليل أسس الاسواق، الذي يعني بصناعة بعينها وهو مبني على تحليل أساسيات العمل التقليدية مثل العرض والطلب وتحليل المخزون.
وختاماً قد يكون من المناسب أن ننهي هذه المقالة بمحاولة معرفة مستقبل أسواق الزيت الخام. فمن المتوقع أن يحدث تطور أكبر وزيادة في المتاجرة الإسمية وأسواق المشتقات نتيجة للتجارة الإلكترونية التي تسهل المعاملات التجارية وتشجع المزيد من المشتركين. ومن المتوقع أيضاً أن يكون هناك دمج فعّال في المستقبل بين التجارة المرتبطة بالزيت وتجارة مصادر الطاقة الأخرى (مثل الغاز) أو المنتج النهائي (كالكهرباء). وأخيراً فمن المتوقع أن تشهد أسواق البترول ظهور بورصة لزيوت منطقة الخليج العربي إضافة إلى سوق دبي للمبيعات الآجلة الموجودة حالياً.
لكن علينا أن نتذكر دائماً أن صناعة الزيت لا تزال، وسوف تظل دائماً، معتمدة على أمور مادية حسيّة. فبالرغم من أن سوق الزيت الواردة أعلاه تبدو معقدة، فإن أسعار الزيت ستعتمد دائماً على التوازن بين العرض والطلب، الذي يبقى العامل الأهم في تحديد سعر الزيت.